أين الملايين ؟

د.

آلان كيكاني

تحلق الطائرات الحربية الطورانية فوق الجودي حيث تقبع بيوتاتُ كردٍ قرويين بسطاء فقراء ثم تلقي بحممها فوق رؤوس مدنيين يحملون أرزاق أولادهم , وبلحظة  يتحول هؤلاء إلى أشلاء على أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين , لا ذنب لهم سوى كونهم كرداً , ثم تعود الطائرات إلى قواعدها , وينبري الخوجا أردوغان في الحال يعبر عن أسفه لما حدث , ثم يسكت الكل , وكأنه يقلد نظيره السوري الذي قال قبل أيام : لست أنا من أقتل شعبي وهو القائد العام للجيش والقوات المسلحة .

ستمضي هذه الجريمة مثل أخواتها التي ارتكبت بحق الكرد في تركيا منذ قرن دون عقاب .
هكذا بكل بساطة وكأن شيئاً لم يكن .

وكأنه لم تُراق دماءٌ ولم تُزهق أرواحٌ ولم يتيتم أطفالٌ ولم تترمل نساء فالموضوع في نظر العنصريين الأتراك لا يتعدى كونه مقتل حثالة من بني البشر لا قيمة لهم ولا اعتبار .

لست هنا بمعرض إلقاء اللوم على الجيش والحكومة التركيين وإن كانا يستحقان الكثير منه , فهم أعداء للكرد والعدو لا يلام كثيراً عندما يسحق عدوه , واللوم إن وجد  فهو شجب هنا واستنكار هناك , وهو لا يسمن ولا يغني من جوع , وإنما العتب يقع على العشرين مليون كردي , الذين ارتضوا بهذه المهزلة وتعودوا عليها منذ ما يقرب من قرن من الزمن وإن قاموا ببعض الثورات فإن في جلها كانت محلية ضيقة لم تشمل في أقوى حالاتها ولايتين أو ثلاثة من أصل العشرين .


يقال أن الله لم يخلق مخلوقاً إلا وجعل له طريقة للدفاع عن النفس , وهكذا خلق البراثن والأنياب للأسد والذئب , والمخالب للنسور والعقبان , والقرون لبعض الدواب , والعقل للإنسان , وجعل للفيل جلداً ثخيناً لا يخترقه ناب كاسر ولا مخلب جارح ولا حافر رافس , ويبدو أن نصيب كرد تركيا من هذا كان القدرة الفائقة على ممارسة التخاذل والإهمال وطول البال والسكوت عن الضيم والهوان , وإلا أين ملايينهم التي يمكن تملأ الشوارع والساحات منددة بهذه الجريمة البشعة التي نفذها أردوغان وجيشه ضد أخوانهم المدنيين الأبرياء ؟
ألا يستغلوا هذا الظرف المناسب للقيام بثورة سلمية عارمة تخلخل أركان الدولة التركية وتجبرها على الاعتراف بحقهم ؟ وحبل ثورات شعوب الشرق المقموعة لا يزال على الجرار وقد أسقط منها أعتى الجبابرة .


ألا يعادل دم أربعين رجل بريء الصفعة التي تلقاها البوعزيزي والتي هبت لنجدته أمة بأسرها وأسقطت إحدى أطغى الدكتاتوريات ؟
ألا تساوي هذه الدماء قول عاطف نجيب رئيس الأمن العسكري في درعا عندما طلب آباء الأطفال المعتقلين إطلاق سراح أبنائهم حيث قال  ”  انسوهم , وإلا انجبوا غيرهم وإن لم تستطيعوا ذلك آتونا بنسائكم فإننا سنقوم نحن بالمهمة  ”  فهب الدرعاويون ومن ورائهم السوريون ببسالة يدفعون قوافل الشهداء في سبيل كرامتهم وحريتهم .


ترى , ما الذي يمكن أن يستنهض الكرد في تركيا ويشحن هممهم ؟ وهل بقيت إهانة لم يمارسها الجيش التركي بحقهم ؟
إنها المازوخية والاسترضاء بالذل لا أكثر .

ففي دياربكر , عاصمة كردستان التركية أو عاصمة كردستان الكبرى كما يحلو للبعض أن يسميها , يستحيل عليك وأنت تتجول أسواقها وأزقتها قديمها وجديدها أن تجد كلمتين كرديتين تقعان على مسامعك , وكذا في الرها ثاني المدن الكردية حجماً وفي باتمان ووان وكل المدن الكردية في تركيا .

وحين تفاتح أحداً بالكردية يتفاجأ بك ويعتبرك في قرارة نفسه رجلاً عامياً أو قروياً جلفاً لا تجيد فن اللباقة والحديث اللطيف .
أجل , ” القط ما بيحب غير خناقو ” هكذا يقول الحلبيون , ويبدو أن المثل ينطبق على كرد تركيا , وسترون قريباً كيف أن أردوغان سيزور بعض المدن الكردية قبيل الانتخابات المقبلة وسيشتري أصواتهم  بكلمة معسولة ووعد زائف .

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…