الثورة والمواطنة

د.

سربست نبي
sarnabi@gmail.com

تثير الثورة السورية اليوم أسئلة صارخة في وجه المسلمات التي باتت مألوفة وشائعة خلال نصف قرن من هيمنة التقاليد الذهنية لاستبداد البعث.

لكن السؤال الأكثر بداهة والأقلّ تعقيداً, الذي يتعذر الإجابة عليه بسهولة هو: من هو السوريّ بدلالة المواطنة, لا بدلالة التاريخ أو الجغرافية أو النسب؟ ولعل الفضيلة العظمى لهذه الثورة تكمن في أنها أعادة طرح هذا السؤال على نحو جديد ووضعته في صدارة أسئلتها التاريخية, وأكاد أقول إنها تمكنت حتى الآن من تقديم إجابة ما مختلفة عنه, وهي في سياق تقدمها تعيد إنتاج التعريف به بصورة دائمة عبر الممارسات اليومية.
منذ نصف قرن تقريباً صادر الاستبداد أسس المشاركة السياسية الحرة.

وكبح كل مساهمة فردية أو جماعية للمواطنين.

وبالمقابل فرض بالقوة نمطاً معيناً من الوعي السياسي والأيديولوجي على المواطنين وسلبت عنهم حرية التفكير والتعبير, وأنهك المجتمع بشعاراته الأيديولوجية, انطلاقاً من عدم ثقته بوعي المواطنين.

ونجم عن ذلك وهن في الشعور بالمواطنة وهشاشة في الانتماء, أفضت في النهاية إلى تدمير روح الاجتماع المدني والإنساني، وعمق من تفكك المجتمع, وأتلف كل فضاء تواصلي, وعزز النزوع الارتدادي إلى انتماءات عصبوية متخلفة, وأسست بالتالي, على مستوى الوعي, مقدمات التناحر الفئوي في المجتمع الذي تحول إلى جمهرة سلبية, قلقة وعدمية، محتقنة ومفككة, يسودها الشك والكراهية.


لقد استباحت سلطة الاستبداد, طوال عقود طويلة من الزمن, الحدود المرسومة لها, وتمادت إلى أقصى حدّ في الإساءة إلى حرية المواطن وكرامته, فلم تكترث لأية قواعد دستورية أو معايير إنسانية رادعة, ولم تخضع لأيّ حساب.

من هنا حوّلت الإنسان- المواطن, الذي يجب أن تكون كرامته وأمنه غاية بحدّ ذاتها، إلى مجرد أدوات حيّة لممارسة عسفها.

وسعت دون هوادة إلى جعل السوري يركع لها ويجثو على ركبتيه مطأطَأ الرأس, وسلبت عنه كل خيارات الحرية, فحولت البلاد بذلك إلى سجن كبير، وجعلت من العباد أسرى فيه.

فلم يكن المواطن يتمتع بأدنى حدّ من الحرية أو أيّة حقوق أخرى, ولم يكن له أيّ خيار بالاعتراض على التجاوزات القمعية للسلطة.

إن مكانة الإنسان المعنوية وسموّه يفرضان على أيّ نظام سياسي أن يصون كرامته وحريته، ولا يجوز لأية سلطة أن تتعرض لهما بأي حالٍ من الأحوال.

وهذا المبدأ كان محالاً في( سوريا البعث) لانتفاء الشروط السياسية التي تمكن الأفراد من تحديد القواعد التي يجب أن يرتكز عليها نظام الحكم, وغياب دور المحكومين  في ضبط السياسات العامة للسلطة الحاكمة وتحديدها, وإقصاء المواطنين عن المساهمة السياسية وعن ممارسة السلطة.

فضلاً عن غياب الفصل والتمييز بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، هذا الفصل الذي تقتضيه بنية الدولة الحديثة.
  وخلال نصف قرن, تقريباً, فرض الاستبداد البعثي دستورياً نظاماً للامتيازات بديلاً عن مساواة المواطنين جميعاً, وكرّس تقسيماً قوامه درجة الولاء السياسي للحاكم- القائد، للأيديولوجية, للحزب الأوحد على حساب الولاء للوطن.

وتمّ تصنيف المواطنين وحقوقهم بموجب ذلك.

وبالمقابل جعل العيش مستحيلاً على المختلفين معه, الذين عدّوا مشبوهين ومارقين وخطرين على الانسجام الوطني.
أصبحت الطاعة العمياء عقيدة الحكم ومحكّ المواطنة الصالحة لدى سلطة الاستبداد, وعُرّفت هذه الطاعة (الخنوع) بدلالة الحرية المسؤولة.

 وكانت هذه هي الحرية القصوى والممكنة, التي يستطيع أن يتطلع إليها المواطن السوري.

وبالمثل مجّد الأمن والسلام الداخليينِ, ذلك السلام الذي عنى سلام المقابر والموتى( كما وصف هوبز).

(وكرّست وحدة قوامها الإكراه والخضوع.

وكي يثبت ولاءه وجدارته الوطنية, في ظل نظام كهذا, لم يكن أمام الفرد- المواطن من بدّ سوى التنازل عن وعيه وضميره للحزب الحاكم وقائده الأوحد, وعن كرامته للأجهزة الأمنية.

على هذا النحو اقترن مفهوم الأمن والاستقرار في خطاب النظام  وممارساته بكبت جميع أشكال الحريات طوال عقود طويلة.
الشعب السوري برمته كان مشبوهاً في نظر السلطة مالم يثبت العكس, عبر تأكيد ولائه المطلق للنظام بشتى السبل والممارسات.

فكان عليه أن يهتف في كرنفالات تمجيد النظام بشعاراته، ويتحرك وفق إرادته حتى يغدو في حالة امِّحاء تامّ معه.

لقد أراد النظام عبر جملة ممارسات تعبوية كهذه فرض وعيٍ سياسي موالٍ مشترك على المجتمع, مما أثار الكراهية والحنق نحوه.
وهكذا لم تتحول السلطة في سوريا إلى سلطة دولة مواطنين بالفعل, إنما في أحسن حال غدت سلطة بطش منظمة كانت أولى برعاية العبيد.

فقد اعتقدت أن من شأن القمع والخوف وحدهما أن يوحّدا المجتمع ويحمياه.

بينما يخبرنا التاريخ أن جميع النظم التي عوّلت على القمع عجزت في نهاية المطاف عن الدفاع عن نفسها وعن المجتمع وحمايتهما، ما لم يكن هناك مواطنون أحرار يستشعرون حريتهم وينافحون عنها.

إن مجتمع العبيد الراكع لسلطة القمع لا يقاوم أبداً, والنظام الذي يؤثر القوة والبطش يوّلد الرعب في أذهان مواطنيه ويشيع الريبة وعدم الثقة.

وفي نهاية المطاف, يؤدي كلّ ذلك إلى القطيعة بينه وبين الأساس الاجتماعي لشرعيته واستمراره، كما يؤكد العديد من مفكري السياسة.
المعضلة الرئيسة أمام السوريين الآن_وأعني بصورة خاصة الجيل السوري الجديد, جيل التغيير _ التي تشكل تحدياً تاريخياً وسياسياً لهم, في مرحلة التغيير, تكمن في كيفية التحول إلى سلطة دولة حديثة, تستند إلى مبدأ المساواة السياسية بين مواطنيها دون الاكتراث بانتماءاتهم الدينية أو العرقية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…