وفي إطار المتغيرات الثورية السريعة التي تشهدها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، تسعى الكرملين إلى ترتيب الأوضاع بما يتفق ومصالحها في مجالي الطاقة وتجارة الأسلحة ، ولاسيما أن سقوط القذافي ضيق دائرة الكرملين في المنطقة ولم تبق لها من حلفاء الأمس سوى دمشق المهددة أيضا بالسقوط .
وتعد سوريا آخر معقل روسي في عملية التوازن مع الغرب ، ناهيك عن حاجة الصناعة العسكرية الروسية إلى السوق السوري ،كون روسيا هي المصدر الوحيد لسلاحها .
وقد إستلمت روسيا الإتحادية كوريثة الإتحاد السوفياتي ملف العلاقات الروسية – السورية ، حيث كان الإتحاد السوفياتي يسلح الجيش السوري وتقدم المساعدات في مجال الخبرة والإستشارات وصولا إلى بلوغ سوريا مستوى التوازن العسكري مع إسرائيل ، ففي عام 1993 وحده قدرت كمية التبادل التجاري بين موسكو ودمشق بمليار دولار .
وقد قام الروس ببناء 63 مشروعا كبيرا في البنية التحتية الروسية على شكل أقساط .وفي عام 2000 كان حجم الديون الروسية على سورية تقدر بـ 12 – 13 مليار دولار.
لكن تلك العلاقات تراجعت كثيرا في الفترة الأولى من حكم بشار الأسد ، إذ لم يتخطى مستوى التبادل التبادل التجاري بينهما خلال الأعوام 2000- 2004 الـ 200 مليون دولار سنويا سنويا .
أعادت زيارة الرئيس بشار الأسد إلى موسكو في عام 2005 ولقائه بالرئيس فلاديمير بوتين الدفء للعلاقات الروسية – السورية ، إذ ألغت روسيا مابين 73% من ديونها على سوريا ، أي أن روسيا شطبت 9.8 مليار دولار من صافي ديون سوريا التي قدرت إجماليا بـ 13.4 مليار دولار.
وبالتالي إرتقت سوريا إلى مصاف الدول الأقل مديونية في العالم ، وكانت الكرملين تطمح من وراء ذلك إلى إقامة علاقات جديدة مع دمشق مستقبلا .
وفي الكرملين وقع الرئيسان السوري والروسي أربع إتفاقيات في 25 كانون الثاني عام 2005، تتعلق بالتعاون في مجالي النفط والغاز وتطوير العلاقات الإقتصادية والتجارية والعلمية والفنية ، وفتحت تلك الإتفاقات الطريق أمام موسكو إعادة أمجادها السوفياتية أيام الحرب الباردة في الشرق الأوسط .وقد بحث الطرفان تطوير العلاقات وتمتينها من خلال مناقشة أكثر من 100 مشروع إستثماري قدرت بمئات الملايين من الدولارات.
وبذلك تحسنت العلاقات السورية – الروسية مابعد عام 2005 وأخذت الكرملين على عاتقها تقديم الدعم لدمشق عسكريا والوقوف إلى جانبها سياسيا والوقوف إلى جانبها في مجلس الأمن ، مادامت الشركات الروسية مستفيدة منها.
ودشنت تلك الزيارة بداية مرحلة جديدة من العلاقات العسكرية والسياسية بين الدولتين .
ولكن روسيا لم تعد تمتلك تلك القاعدة من العلاقات والحلفاء كما كانت عهد الإتحاد السوفياتي، إذ فقدت حليفاتها في القرن الأفريقي والبحر الأحمر ، وجاء سقوط نظام معمر القذافي لتضيق الخناق على دائرة الفلك الروسي ، لم تعد لديها حليف حاليا سوى دمشق التي مازالت تحتفظ بالنفوذ الروسي في الشرق الأوسط في عملية التوازنات الإستراتيجية مع أوربا وأمريكا ، ناهيك عن أن دمشق هي السوق الأساسي أمام الشركات الإنتاجية الروسية ، وأن سقوط النظام تعد بمثابة كارثة للإقتصاد الروسي ، خاصة وأن روسيا تربطها بدمشق عشرات المشاريع الإنمائية وعليها مديونات ضخمة على دمشق ، لذلك تبقى القيادة الروسية قلقة من النتائج العكسية .
ألم تجبر الشركات الأمريكية الرئيس ويلسون خوض الحرب العالمية الأولى ودخوله فيها عام 1917 ، كما أجبرت البرجوازية الألمانية بسمارك المشاركة في تقسيم أفريقيا مع الدول الإستعمارية الأخرى وقيادتها لمؤتمر برلين 1894-1895 ، فالمصالح الإقتصادية هي التي توجه السياسة .
ومن هنا نفهم مغزى دفاع الدبلوماسية الروسية عن النظام في سوريا، وفي أكثر من مناسبة أكد وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف دعم بلاده للنظام السوري في المحافل الدولية مبررا بأن الوضع الذي تشهده سوريا مختلف عن غيره .
وسلمت موسكو الملف السوري إلى ميخائيل مارغيلوف عضو الكي جي بي في الحقبة السوفياتية والذي عمل أيضا في مجال الترجمة في وكالة تاس والمبعوث الخاص للرئيس الروسي فى العلاقات الأفريقية .
وقد إلتقى مع وفد من المعارضة السورية بموسكو .
تؤيد الدبلوماسية الروسية إجراء إصلاحات ومحاولة فتح باب الحوار بين النظام والمعارضة، مع أن روسيا تدرك جيدا صعوبة هذه المسألة وإستحالة إعادة المياه إلى مجاريها السابقة ، ويبدو أن روسيا تعودت على هذه السياسية التي كانت تخرج منها على الأغلب خاسرة ، مثلما حصلت معها في العراق أيام حرب الخليج الثانية ومع ليبيا الأن ، وهي بدون شك قلقة جدا من الوضع في سوريا ، حيث إستقبل المتظاهرون بكل حفاوة السفير الأمريكي بحماة ، بينما أحرقت الأعلام الروسية في عديد من العواصم .
هناك صراع داخل الدبلوماسية الروسية بصدد المسألة السورية ، جناح يميل إلى الموقف الأوروبي يرى بأن المستقبل مع الشعوب وهذا الجناح قلق من تكرار السيناريو الليبي ، والآخر يؤيد النظام .
وتكمن الهواجس الروسية وخوفها من سقوط نظام البعث في دمشق في عدة أمورمنها خوف مركز القرار في الكرملين من أن تقع سوريا في دائرة نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين التي باتت سيدة الشرق الأوسط بلامنازع بعد سقوط القذافي ، والقلق من تقوية النفوذ الإسلامي بدعم من تركيا وما يترتب على ذلك من إمكانية فتح جسر بين الإسلاميين والجماعات المناوئة لموسكو في القوقاز وتحديدا في الشيشان وأنغوشيا وداغستان؛والخوف من ضياع مليارات الدولارات المترتبة على حكومة البعث وفقدان روسيا لمشروعها الإستراتيجي في شرق البحر المتوسط .
الآن موسكو أمام إمتحان صعب وعسير ، فمن جهة ترى بأم أعينها إنتهاكات حقوق الإنسان في البلاد ووصول الأمور بين السلطة والمعارضة إلى طريق اللاعودة ، ومن جهة أخرى تتعرض إلى ضغوطات شعبية من داخلها ومن بعض المستشرقين الروس الأكاديميين الذين يقترحون على القيادة تغيير مسارها تجاه أحداث سوريا بتأييد الشعب بدلا من النظام الذي بات عمره قصيرا.
ناهيك عن الضغوطات الدولية في مجلس الأمن .
وقد كتب الكاتب الروسي دانيسوف الكسندر بأن النظام في سوريا قد سقط ، إذ لم تتوقف الإحتجاجات بالرغم من وحشية النظام ووقوف الكرد الذين يشكلون نسبة كبيرة إلى جانب المنتفضين .
أرسلت روسيا مبعوثها الخاص وهو نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف حاملا رسالة من الكرملين مؤكدة خطورة الموقف وضرورة الإسراع في الإصلاحات ، فروسيا تواجه ضغوطات دولية وداخلية .
وبوغدانوف دبلوماسي روسي رأس منذ عام 2002 قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفي أيلول 2004 أصبح سفيرا لروسيا في مصر ، وعينه ديمتري ميدفيديف في حزيران 2011 نائبا لوزير الخارجية ، وإلتقى بالسفير السوري في موسكو قبيل توجهه إلى دمشق .