تأملات في راهنية القضية السورية

صلاح بدرالدين

    دائما وأبدا وفي مختلف العهود وطوال العقود كان هناك في الحياة السياسية السورية تيار أو أكثر يعمل وبالرغم من الظروف القمعية الصعبة من أجل التغيير واعادة بناء الدولة الأحدث والأمثل وتحقيق الغد الأفضل واذا كان ذلك التيار قد تجسد في الساحة النضالية بصور وتعبيرات شتى – حزبية وجبهوية وفكرية وثقافية – ولكن بسبب تشتت صفوفه وافتقاده لبرنامج واقعي – ثوري جامع شامل واضح المعالم بخصوص تعريف المجتمع السوري والتسليم بحقوق مكوناته القومية والاجتماعية والروحية وتجاهله للقضية الكردية عجز في فرض حالة شعبية ضاغطة كما نتلمسها الآن منذ اندلاع الانتفاضة الوطنية في منتصف آذار المنصرم التي ورغم عمرها الزمني القصيرعكست فرزا سياسيا دقيقا في المجتمع السوري بلغ جميع المناحي وأصاب كل الطبقات والمكونات والفئات والأعمار وغطت أخبار الانتفاضة الشبابية كل ماعداها وصارت الشغل الشاغل للمواطن السوري في البيت والعمل والمؤسسات التعليمية
واذا كانت عملية تشويه مشهد الانقسام والمواجهة يظهر في جانب النظام لانعدام التكافىء في عوامل الصراع وموازينه وبسبب تسخير الآلة الاعلامية الحكومية لتخوين كل من يعارض وتوزيع التهم يمينا ويسارا وابراز أصوات – موالية – من فنانين ومثقفين  تحت عامل الترهيب والتهديد بقطع الأرزاق وصولا الى قطع الأعناق فان المسألة أعمق من تلك المظاهر الخداعة بكثير حيث بلغ الأمر الى درجة التخندق عموديا وأفقيا في موقعين متواجهين متناقضين واحد عامة الشعب والجماهير الواسعة والشباب تلك الطاقة الحية الخلاقة الأكثر نشاطا واستعدادا للتضحية والابداع والمؤهلة لقيادة المرحلة من جهة والنظام المستبد ومايمثل من مؤسسات عائلية وأمنية وحزبية ومالية مستغلة من الجهة الأخرى ولكل طرف مشروعه وبرنامجه وخططه الأول يهدف في المرحلة الأولى التي قد تطول أو تقصرومن خلال انتفاضته المندلعة منذ شهرين وشعاراته والخطوط العامة لبرنامج عمله اجراء التغيير الديموقراطي السلمي وازالة نظام الاستبداد والثاني يرفض التغيير ويتشبث بالسلطة مستخدما أدواته وأجهزته وكل امكانيات الدولة لدحر الانتفاضة وانهائها بوسائل القتل والدمار وتصفية المخطوفين عبر منظماته الأمنية السرية – الأرغنكونية – واكتشاف ثلاث مقابر جماعية حتى الآن في منطقة درعا والتي تحوي عشرات الجثث يدل على ذلك وكذلك عمليات الاعتقال والملاحقة المستمرة واصطياد النشطاء من دون أن يترك وسائل التضليل بالدعوات المزعومة الى الحوار الذي رفضه طوال عقود والهدف منه هو كسب الوقت واحراج شباب الانتفاضة واختراق الصف الداخلي بكسب التنظيمات السياسية التقليدية وتهدئة اعتراضات الرأي العام العالمي كل ذلك بحسب خطط مدروسة بعناية عسى أن يجتاز أزمته وينأى بنفسه عن السقوط المحتم .
     الطرف الثالث
    من حيث المبدأ من الصعوبة بمكان ايجاد – حياد دائم – في مساحة ثابتة بين الخير والشر ولكن قد نجد في الحالة السورية الراهنة قوى وأطرافا وجماعات لم تحسم أمرها بعد بشأن الموقفين المتضادين فهناك مؤسسة الجيش المحسوبة نظريا على النظام والتي تعاني تباينات في المواقف فكبار القادة من الدرجتين الأولى والثانية الذين تتشابك منافعهم مع مصالح رؤوس التحالف الحاكم يقفون في صف النظام بخلاف صغار الضباط والمراتب الأدنى والجنود وهم الغالبية الساحقة الذين يجدون أنفسهم أقرب الى صف الشعب والانتفاضة- عشرات حالات قتل الجنود لرفض الأوامر وبينهم عدد كبير من الجنود الأكراد في توجيه الرصاص الى الشعب وآخرها هروب الجنود السوريين الأربعة الى لبنان –  وبحسب دروس التجربتين التونسية والمصرية فان المؤسسة العسكرية ستكون آخر من يعلن الموقف بانتظار مآل الصراع خاصة اذا أخذنا بعين الاعتبار أن من وجه سلاحه للمتظاهرين في درعا وبانياس واللاذقية وحمص وريف دمشق هو من عناصر الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وقوات الأمن وميليشيات العائلة الحاكمة وليس من التشكيلات التابعة لوزارة الدفاع وهناك جنود نظاميون استشهدوا على أيدي تلك الأطراف لامتناعهم عن تصويب السلاح نحو المنتفضين .

 
    وهناك أيضا – الأحزاب والتنظيمات والشخصيات – التقليدية العربية والكردية التي تقف على مسافة قريبة من السلطة في كل العهود ولاتقطع مع حركة الشارع من أيام حراك المجتمع المدني والآن وهي ارتضت لنفسها أن تكون جسرا لالتقاء الطرفين المتصارعين – الشعب والنظام – عبر طرح الخيار الثالث القاضي بالابقاء على النظام من دون تغييره أو خلعه ومحاولة – وهي الأخطر – الفصل بين النظام ورأسه بدعوى أن الرأس اصلاحي ولكن المحيطين به خلاف ذلك ولاشك أنها تحظى برعاية خاصة من النظام لحاجته الماسة الى دورها الاجهاضي للانتفاضة وأفقها العام لايتجاوز المطلب الاصلاحي والمصالحة ومؤتمر وطني برعاية رأس النظام أي يمكن القول أن مهمة تلك الشخصيات والجماعات تتركز في ” ترشيد النظام الاستبدادي الحاكم ” وليس تغييره .
   لاشك أن مجالات مناورات السلطة أوسع في هذه اللحظة التاريخية ان كان على الصعيد الداخلي وبالتحديد مع – الطرف الثالث – وخارجية أيضا وهي لن تترك وسيلة الا وستستخدمها من أجل البقاء وبالرغم من خسارتها الجزئية لأوراق اقليمية عديدة كاللبنانية والعراقية والفلسطينية فمازال هناك بعضا من أوراق كقضية الصراع مع اسرائيل وتمثيلية الجولان قبل يومين مؤشر في هذا السياق وهناك أيضا تلويح باعادة استثمار ورقة – ب ك ك – الكردية اذا لم تتراجع الحكومة التركية عن موقفها المعلن تجاه القضية السورية ولاننسى هنا أن النظام يسخر في مناوراته كل امكانيات الدولة ضد الحركة الشعبية المتأطرة في انتفاضة الشباب التي تتحمل المسؤولية المصيرية الأكبر والتحديات الأعظم ومن أجل صيانة الانجازات والحفاظ على صلابة الموقف واستمرارية الحراك الوطني الانتفاضي من المفيد توسيع رقعة خندق المواجهة ليشمل المترددين في الداخل وأن يصار الى تعديل وتصويب دور الخارج الوطني فبدلا من بحث البعض عن وجاهات وزعامات مفتعلة أو التصرف بمنطق – البزنس – على الجميع تسخير كل الامكانيات لدعم الانتفاضة اعلاميا وطرق أبواب البرلمانات العالمية ومؤسسات الرأي العام ومنظمات هيئة الأمم المتحدة لشرح القضية السورية وموقف الشباب وانتهاكات النظام وجرائمه وكف البعض عن القيام بدور الوصي على الانتفاضة أو نسج العلاقات السياسية السرية مع الجهات الاقليمية والدولية بالنيابة عنها وبدلا من صرف الأموال الطائلة على عقد – مؤتمرات واجتماعات – من الأفضل صرفها لصالح سد جزء من حاجات المنتفضين ودعم أهالي الشهداء والمعتقلين وهناك ضرورة أخرى وهي التوجه نحو القوى الشعبية وحركات المجتمع المدني وكذلك العهد الجديد في كل من مصر وتونس والمؤسسات الاقليمية مثل الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي والمؤتمر الاسلامي أما الخارج الأجنبي فموقفه ينبع من مصالحه أولا ومن مدى فعل وتأثير واستمرارية الانتفاضة وقدرتها على انهاك النظام .

   وأخيرا نرى أن من مهام الانتفاضة في الأيام القادمة المضي في استمرارية الحراك أيام – الجمعة – وتوسيعه مستقبلا ليشمل أياما أخرى والتفكير الجدي لبلوغ الساحات العامة وخاصة في العاصمة دمشق ودراسة امكانية التحول النوعي من التظاهر المتقطع الى الاعتصام الدائم والثابت والمتعاظم والتمسك بالطابع السلمي أولا واستيعاب – الحركات التقليدية – التي تعاني في داخلها صراعات بين تيارات شبابية تميل الى المشاركة في الانتفاضة وأخرى أقرب الى مشروع السلطة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…