هنا لا بد من دراسة لمفهوم الديمقراطية النسبية والديمقراطية التوافقية من حيث البيئات المهيأة لتطبيقهما وكذلك من حيث الايجابيات والسلبيات التي قد تنتج عن تطبيق كل منهما.
الديمقراطية التنافسية أو الديمقراطية التمثيلية:
أن هذه الديمقراطية تتطلب شروطاً معينة لإمكانية تطبيقها على أرض الواقع, ومن أبرز هذه الشروط :
1- أن يكون المجتمع الذي ستطبق عليه هذه الديمقراطية متجانساً, من حيث مكوناته القومية, والأثنية والدينية والثقافية وحتى القناعات الأيديوليجية السياسية بالإضافة إلى عدم التمايز الطبقي الاقتصادي والاجتماعي.
2- أن تكون مكونات هذا المجتمع على مستوى عال من الوعي الديمقراطي.
3- أن تكون مكونات هذا المجتمع بعيدة كل البعد عن التعصب للقومية التي ينتمي إليها, وكذلك نفس الأمر بالنسبة للدين والثقافة والطبقة التي ينتمي إليها.
4- أن يكون الولاء للكل أكثر مما هو للجزء الذي ينتمي إليه.
وهذه الديمقراطية إذا توافرت في المجتمع الشروط السابقة تؤدي إلى اندماج مكونات هذا المجتمع وتلاشي الحساسيات التي كانت موجودة كما أنها تؤدي إلى تعزيز وحدة المجتمع كوحدة نموذجية.
ولكن إذا نظرنا إليها من حيث السلبيات, فان هذه الديمقراطية قد تؤدي بشكل من الأشكال إلى نوع من الهيمنة السلطوية تحت شعار الأغلبية والأقلية مما قد يدفع بهذه الأقلية إلى التمرد على هذه الديمقراطية وحماتها الأغلبية, الأمر الذي يحرض الأغلبية على الحفاظ على مكتسباتها واللجوء إلى وسائل قد تكون من أبرز سماتها العنف وعمليات التزوير وبالتالي الابتعاد عن الديمقراطية ككل, ومن جهة أخرى فان إمكانية توفر الشروط السابقة لتطبيق هذه الديمقراطية صعبة للغاية وخاصة في مجتمعات شرقنا الأوسطي.
الديمقراطية التوافقية :
إن هذه الديمقراطية قد تكون من أبرز سماتها أنها واقعية أكثر مما هي مثالية حيث لا تستند إلى نظريات سياسية وتجارب تاريخية في علم السياسية كما يبدو ذلك واضحاً في الديمقراطية البحتة والمجردة عن الواقع.
إن مهد هذه الديمقراطية هو مجتمع غير متجانس أو بالأحرى مجتمع تعددي, والمجتمع التعددي كما يعرفه البروفيسور “آرند ليبهارت” (وهو من أبرز من قاموا بتأصيل هذا المفهوم):
هو المجتمع المجزأ بفعل الانقسامات الدينية أو الأيديولوجية أو اللغوية أو الجهوية أو الثقافية أو العرقية, كما أنه المجتمع الذي تنظم في داخله الأحزاب السياسية ومجموعات المصالح ووسائل الإعلام والمدارس والجمعيات التطوعية على أساس الانقسامات المميزة له.
وإن أهم خصائص الديمقراطية التوافقية هي:
إقامة تحالف كبير بين المكونات الأساسية للمجتمع التعددي من خلال تحالف حكومي أو نظام برلماني أو مجلس أو لجنة ذات صلاحيات واسعة وكبيرة,ولعل أهمية هذه الخاصية تأتي كونها تمكن كل عناصر المجتمع التعددي من التعاون والمشاركة في الإدارة, على خلاف الديمقراطية البحتة التي تقصي الأقلية عن حقها في الإدارة باسم سيادة الأغلبية.
كما أنها تحمي الأقليات السياسية من خلال حقها في النقض, وان كان ذلك بدرجة محدودة , كما أن مبدأ النسبية هو المبدأ المعتمد في تمثيل مكونات التحالفات في الديمقراطية التوافقية , وأيضا من خصائصها قدرة كل مكون على الاستقلال بذاته في إدارة شؤونه الداخلية.
هذا ولا تخلو الديمقراطية التوافقية من بعض السلبيات والتي من أبرزها أن حلولها تكون ارضائية وبعيدة نوعاًما عن الديمقراطية كمفهوم مطلق, كما أن المجتمع التعددي هنا يحافظ على انقسام مكوناته رغم التجانس الكبير لكل مكون في دائرته.
ولتعميق مفهوم الديمقراطية التوافقية ولمعرفة مدى جدوى تطبيقها على أرض الواقع , سنناقش تجربة كل من الجمهورية اللبنانية و جمهورية العراق بالإضافة إلى الحالة التوافقية التي يعيشها إقليم كردستان العراق.
الجمهورية اللبنانية:
إن المجتمع اللبناني يعتبر من المجتمعات الأكثر تعقيداً في تركيبته الدينية والطائفية والسياسية فينضوي تحت العلم اللبناني المسلم والمسيحي, والسني والشيعي, والموارنة والأرمن, والديمقراطي والليبرالي والاشتراكي والشمولي, ناهيك عن الولاءات الإقليمية لكل مكون من مكوناته وتدخلات الدول وحسب مصالحها في الصراعات القائمة فيه.
إن هذه الظروف القائمة وهذا الوقع كانت السبب في اعتماد ديمقراطية توافقية تنص على حماية كل مكون ومشاركته جنباً إلى جنب مع باقي المكونات في اتخاذ القرارات وإدارة البلاد دون تهميش أو إهمال أو سحق لإرادة أي منها.
وان ما شهده لبنان من حرب أهلية ما كان ليجد طريقه إلى السلم لولا التوافق الذي تم التوصل إليه في اتفاق الطائف, والحالة المتوترة الحالية في لبنان كانت نتيجة لتجاهل اتفاق الطائف , الأمر الذي كاد أن يرجع بالبلاد إلى سنين الحرب الأهلية البغيضة, لولا أن اتفاقية الدوحة التوافقية كانت بمثابة قارب النجاة للبنان والمنطقة أيضا ً.
جمهورية العراق:
في دولة لها موروثها الذي لا يستهان به من التخلف والرجعية والديكتاتورية, وفي مجتمع تم سحقه من قبل الأنظمة المتعاقبة على السلطة, مجتمع تبحث مكوناته عن الثأر لما لاقته من قسوة, ملئ هذا المجتمع أحقاداً وضغائن.
العراق بمكونه العربي والكردي والتركماني والكلدوآشوري والمسلم والمسيحي والايزيدي والصابئة, والسني والشيعي, والديني والعلماني والليبرالي.
الأمر الذي جعل التعايش بين مكوناته وتراكمات السنين المحمولة معهم مستحيلاً, إلا من خلال اعتماد الديمقراطية التوافقية , ففي مجتمع انعدمت فيه الثقة كان التوافق بمثابة الضمانة لكل مكون من مكوناته بألا يضطهد ويسحق من جديد, وخاصة إبان سقوط نظام صدام حسين الأكثر دموية ومحاولة الدول الإقليمية إثارة النعرات الطائفية, وجعل العراق ساحة لتصفية الحسابات, وقد كانت كبرى ثمار هذه الديمقراطية التوافقية اعتماد الفيدرالية كنظام لإدارة الدولة.
إقليم كردستان العراق:
بعد فشل مبدأ الأغلبية والأقلية والاعتماد على مبدأ الديمقراطية النسبية في الإقليم عام 1992 م (أي نظام 50+1), وخاصة بعد الاقتتال الدموي المقيت الذي عاشه الشعب الكردي والتي كادت أن تؤدي إلى إنهاء ما تحققت من مكاسب للكرد, تم اعتماد مبدأ التوافق في الإقليم الذي كان أشفى دواء للمعضلة, ومن ابرز مكتسبات التوافق إقامة تحالف كردستاني يضم القوى الكردستانية بمختلف أطيافها يقود الإقليم بعيداً عن الهيمنات والتفكير السلطوي الشمولي الأمر الذي أدى إلى تقدم الإقليم على صعيد التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية, وإن بعض سلبيات الإقليم التي تتراءى لنا هنا وهناك ليست وليدة الديمقراطية التوافقية, إنما هي نتيجة قلة الخبرات بالإضافة إلى الضغوط الهائلة على الإقليم من قبل دول الجوار, وكذلك من المتربصين بتجربتهم في الداخل العراقي.
مما سبق ندرك أن الديمقراطية التوافقية هو الحل الواقعي لنا أيضا نحن الكرد في سوريا, وهذا ما أكده الأستاذ نصرا لدين إبراهيم سكرتير الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) في مداخلته المستفيضة في اجتماع لإعلان دمشق عقب اقتراح من أحد المعارضين السوريين برفض مبدأ التوافق في سوريا , حيث أكد الأستاذ نصرالدين إبراهيم على أن الركيزة الأساسية لأي تحرك نقوم به هو التوافق, فسوريا بلد متعدد الأطياف كل له خصوصيته, والتوافق هو الضمانة الحقيقة لنشر الثقة بين مكونات البلاد, وإبعاد شبح التسلط والهيمنة على أي مكون ولأي سبب كان, وبالمحصلة كان قرار المعارضة السورية هو اعتماد مبدأ التوافق كخطوة أولى في مسيرة التغيير الوطني والديمقراطي في سوريا.
وكذلك الأمر بالنسبة للتحالف الديمقراطي الكردي في سوريا حيث اعتمد التوافق في نظامه الداخلي كصيغة للعمل المشترك لأعضائه, إلا أن التقدمي والوحدة حاولا الانقلاب على التوافق واعتماد ديمقراطية الأغلبية, (قطعاً ليس كونهم أغلبية و البارتي واليساري أقلية فلم يكونوا يوماً كذلك على الإطلاق), إنما حاولا الالتفاف على النظام الداخلي للتحالف بمساعدة المستقلين في المجلس العام, لفرض هيمنتهم على التحالف ككل وهذه كما سبق ذكره أولى أضرار التي قد تنتج عن الديمقراطية البحتة حيث يمكن أن تستغل من قبل مجموعات رجعية تختبئ في ثوب الديمقراطية.
إن الديمقراطية التوافقية هي الأداة المثلى لرأب الصدع في مجتمعاتنا, فعملية حرق المراحل والوهم الذي نعيشه من خلال المثاليات لن تجدي لنا نفعاً, وإذا كان ولا بد من الديمقراطية البحتة فلا بد لنا من السير باتجاهها بشكل متدرج بحيث نوصل بمجتمعنا إلى مجتمع مثالي تلتغى فيه أشكال الرجعية والتعصب, وحب التسلط والهيمنة, والى ذلك الحين يكون التوافق هو سبيلنا للعيش المشترك.