دولة تبحث عن نفسها

ابراهيم محمود
 
فيما يخص الدولة : مفهوماً وتكويناً وتطوراً، لم أعثر في أي أدبية ٍ من أدبيات علم الاجتماع السياسي أو العمراني” بالمعنى القديم إسلامياً”، على  تعريف بالدولة خارج ما هو مدني.

إن مدنية الدولة، هي وجود أفراد،بينهم غاية الخلاف والاختلاف، وهم داخل كيان سياسي، ينظمه قانون، مثلما تحرص على استمراره مؤسسات تحرص على هذا القانون الضامن لحقوق الأفراد، والراسم لحدود واجباتهم، ومن خلال الدستور، فالدولة كمفهوم، بنية مدنية وسياسية، وهي في جوهرها تمثل رغبات أفراد، هم مواطنوها، يعنيهم استقرارها، بقدر ما تحرص على سلامتهم.
يمكن الحديث هنا، عن أشكال مختلفة من النظم والدساتير والقوانين، من الدول التي تختلف فيما بينها، من خلال أنظمة الحكم فيها.

نظام الحكم واجهتها الكريستالية الكبرى، ملتقى أنشطتها.
إن العلاقات القائمة بين الأفراد، مستمد ة في السلب والإيجاب، من طبيعة النظام التي يميز الدولة هذه عن تلك، وما في ذلك من تقدم أو تقدم، وهذا ما حرص المختصون به، على دراسته.
ولعل الميزة الكبرى للدولة، هي يقظتها، سعيها الدائم إلى ضرورة تقوية اللحمة الاجتماعية والوجدانية بين عموم الأفراد، ليس من خلال مفهوم النُّسخية التي تحول دون أي تقدم، أو دون أي تشكل لأي نوع من أنواع المجتمع، ليس المدني وحده فقط، وإنما أي تجمع بشري متلاق ٍ في جملة أهداف حدودية، وفي رقعة معلومة: مساحة وأسماء جهات من الأرض، وإنما المفهوم الجامع للاختلاف الذي هو جرثومة الإبداع والرقي الأخلاقيين والثقافيين والماديين معاً.
إن أقصى الاختلاف، أول التنوير الفعلي، الأساس القاعدي الأول في عمارة الدولة، في الدفع بالأفراد إلى أن يعرفوا بعضهم بعضاً، أن يعوا إراداتهم الفردية والمشتركة، أن يعيشوا تواصلاً وتفاعلاً بين المختلف الإبداعي ، والمؤتلف الاتباعي القاعدي والتاريخي فيهم.
يعني ذلك، أن دولة تسعى إلى تذرير أفرادها، أو الحيلولة دون تحقيق الوئام المجتمعي، من خلال المختلَف عليه ضرورة حياتيةً، إلى تعميتهم، وإقصائهم عن حقيقتهم في الاختلاف المطلوب، وفي حده الأدنى، سعي دؤوب وكارثي منها، إلى  اقتلاع ذاتها، تصحير جغرافيتها ، تغوير تاريخها معاً، والدفع بذاتها إلى  التلاشي الذي لا جمع فعلياً بعده، أكتب هكذا، وأنا أشدد على مفهوم الدولة بالمعنى الحقيقي للدولة، وليس الدولة التي تعيش في غرفة العناية المشددة لتاريخ محلَّق به في متاهات الجهات، لأن كل ما يتهددها متوقع، وكل ما يسندها ويبقيها توهم القائم على تمثيلها.
يعني هذا، أن البحث في سعادة الأفراد، في حيواتهم، يحيلنا إلى المفاتيح ” الحلول”التي تفتَح بها الأقفال ” المشاكل”، إلى الطابع التشاركي الذي يهيب بكل فرد إلى أن يكون صوتاً مسموعاً في فضاء الدولة، مهما اتسع نطاقها، إن دولة التاريخ تعيش بأذن معصومة عن الصمم، طالما أنها معدة لسماع كل الأصوات، بما أن الجسد المجتمعي المتشكل لها، مخصَب بقوى الحياة الدائمة!
وسواء تحدثنا عن الصيغة الأبوية للدولة، أو الصيغة الأمومية لها، أو الجانب النسَبي فيها، فإنها لا تعدو أن تكون إطاراً حدودياً لحفظ الذمم، ولتحديد قوى الأفراد، وللعلاقات التي تتجلى فيما بينهم، وفق أصول متعارف عليها، لا تكون الدولة ضامنة قوى ضد أخرى، أو متحولة بأسماء دون أخرى، كما هو المتعارف عليه، من خلال القانون المعتبر فوق الجميع، ولسان حالهم معاً.
وفي هذا المنحى، فإن الدولة الفعلية تسعى باستمرار، وكونها دولة، إلى التقريب بين أفرادها، وبقاء الاختلاف علامة فارقة في علاقاتهم مع بعضهم بعضاً، لِيتسنى لها بقاء أمثل.
أي إن الدولة التي تستعدي أفراداً لها، ضد آخرين، تستعمل صلاحيات تشمل عموم الأفراد، للنيل من أفراد آخرين، دولة تعيش فوضى اسمها، تكون جالبة الخراب لنفسها.
لا أتحدث بالألغاز هنا، وبمنطق التعميم، إنما أنطلق من واقع، مثلما أعود إليه، أتحدث عن سوريا الدولة، أو دولة سوريا، ومن موقع الانتماء إليهاـ من موقع المواطنة المختلفة، وباعتباري كردياً، وما يجري مجتمعياً، ومن يمنح الحق لنفسه، وذلك عندما يضفي عليها طابعاً من الدراماتيكية السياسية الصارخة، أو الفجيعة المجتمعية، والعشائرية الممَكينة في إدارة الأمور، وعلى أعلى مستوى، وباسم القانون، مضحّياً بالقانون الذي هو فوق الجميع، منطلقاً من قوة نفوذ ما” اسم معرفة لا نكرة طبعاً”، تضعف الدولة بالذات، ومن تعنيهم في الدولة  كلياً، أتحدث عن دولة تريد أن تكون دولة لها اعتبارها بين الأخريات من الدول الحية اسماً ومكانة فعليين، دولة تبحث عن نفسها، أن تكون مشروع دولة لها حضورها الدولي، وليس عن دولة تنفي ذاتها كدولة، في غرفة العناية المشددة للتاريخ السياسي القيمي، من خلال مجريات أحداثها اليومية، دولة تعزز أمنها، بالمعنى الضيق للكلمة، مضحية بالعمق الأمني: المجتمعي فيها، أعني بذلك دولة ، تكون رصاصة الأمني فيها كاتمة لأصوات الأغلبية الساحقة من ” رعاياها” ضحاياها، بما أن أي فرد ، هو رهن الاعتقال، رهن الاختطاف، رهن تحويله إلى خائن، عميل، سجين سياسي مشوه السمعة، متآمر على الدولة…الخ، وعلى مدار الساعة، في الوقت الذي يسعى هؤلاء، وفي المجمل، إلى مكاشفتها بحقيقتها، أي كيف تكون دولة فوق الشبهات، عندما يكون المعتبَرون مواطنين لها، فوق الشبهات، كما لو أنهم غرباء المكان، عالة عليها، لا يؤتمَن جانبها، عندما يسعى هؤلاء إلى تأكيد حقيقة مثيرة للسخرية والسخط معاً، وهي المتمثلة في كونهم حريصين على وحدة الدولة، وأمن الدولة، بالقدر الذي تكون مساحة الاختلاف، معمّقة لقوة الدولة، وحبها في النفوس.
لا أشير إلى أشخاص محددين، وإن كان ثمة أسماء جلية ظلالها في الذاكرة، من خلال قائمة التهم المروعة والموجهة إليها، من عارف دليلة إلى مشعل التمو، قبل الأول وبعد الثاني، مع فارق التهمة، من خلال المواطنة المنزوعة مسبقاً، بتعريضها الدائم للمساءلة، في مصداقية الولاء وطنياً للأول، والمواطنة المنسوفة مسبقاً، بتعرضها الدائم للمطاردة، في مصداقية الولاء والانتماء الأثنيين( لوثة الكردية المقدمة، كما هي العادة الملقَّمة في ذهنية المشرّع واللادولتي أصولاً، بالنسبة للثاني) لأن احتمال تحول أي اسم ، أي اسم مكرراً، إلى خانة الشبهة المباشرة، وقيد المحاكمة الخاصة، وارد مسبقاً ، رغم الحرص الشديد، من جهة كل ” متآمر، عميل، خائن، مختطف في لحظة غفلة…الخ”، على أن المواطنية المطلوبة ناطقة بأسمائهم، عندما تطبَّق المعايير الأخلاقية والسياسية الفعلية، وهذا ينطبق على أي كان، ودون استثناء، كوننا في الغالب في هباء الدولة ضحايا تيهها المحروس.
إن المفارقة الكبرى تكمن في ممثلي دولة، وهم ساعون إلى إيجاد الضحايا، وتسمينها بالتهم، وإعلام من لم يعلم، أن ثمة من ينال من مكانة الدولة، من هيبتها، من وحدتها، وممارسة التعتيم على الجاري، كما لو أن الأغلبية الساحقة مشمولون بالوصاية الأبدية، لعجزهم القدري، كونهم قاصرين عقلاً وروحاً وثقافة ووعياً سياسياً، وأن ردعهم الكشكولي مستمر ما بقي الدهر.
وأظنها مفارقة الدولة التي لا تدير أزماتها، إنما تلك التي توحي إلى أن الأزمات القائمة تحديات، وأن استمرارها، ترجمان بطولات المعنيين بالدولة- اللادولة، رغم أن أبسط حقيقة في الدولة، تكمن في مكاشفتها لكل أزمة، في اعترافها بها، أو تسميتها باسمها، واعتبار التهم التي تعتَمَد هنا وهناك، أشبه بأبغض الحلال في منطق السياسي، والمشرع في الدولة.

ذلكم حرصُ مَن يرغب في ولادة دولة، في ظهورها، حرص من يرغب في إنزال الدولة كمفردة من عليائها،وهي تواجه سوأتها أرضياً، في السّفاح المجتمعي، معلومة بالقانون، دولة الاختلاف المعلوم قانونياً، كما هو شأن الدول الأخرى، الدول التي تدوّن تاريخها من الداخل، على وقع الاختلاف ديمقراطياً، وهو الدرس البليغ لوقائع التاريخ، لأحداثه، ولتحولاته!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة. ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم ‘سجاد تقي كاظم’ من…

لوركا بيراني   صرخة مسؤولية في لحظة فارقة. تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها. إن ما يجري…

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…