ولا ينحصر دور الوسيط التركي في محاولة فتح الثغرات في جدار العلاقات السورية مع أمريكا، بل كذلك إحياء مفاوضات السلام مع إسرائيل التي لا تخفي رغبتها في توقيع معاهدة سلام مع سوريا، بالرغم من المعارضة الأمريكية القائمة على مواصلة الضغوط عليها، بهدف أرغامها على فك ارتباطها بالحليف الإيراني، وإنهاء تدخلها في الشأن اللبناني، وقد كان موضوع الوساطة أحد أهداف زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي باراك مؤخراً إلى تركيا التي سينقل رئيس وزرائها رسالة من دمشق لضيفه الإسرائيلي تتعلق بعملية السلام التي أكّد عليها وزير الخارجية السوري السيد وليد المعلم في تعليقه على اغتيال مغنية بالقول أن العملية (..هي لاغتيال محاولات إحياء عملية السلام)، ويأتي تزايد الدور التركي في المنطقة بعد استعادة العلاقات التركية الأمريكية لمتانتها على خلفية سياسة الاحتواء التي اعتمدتها إدارة بوش لمواجهة التمدد الذي يشهده النفوذ الإيراني، وتردد المعتدلين العرب في تصعيد المواجهة مع طهران، وحساسية الاعتماد على إسرائيل في هذا الموضوع، وتراجع الدور الباكستاني خاصة بعد اغتيال رئيسة الوزراء السابقة بيناظير بوتو، وذلك بسبب الاضطرابات التي تثيرها الجهات الدينية المتطرفة، خاصة في المناطق المجاورة لأفغانستان التي تخلق حركة طالبان منها صعوبات جدية لحكومتها وللقوات الدولية فيها .
وتقوم تلك العلاقات على تسويق تركيا وتذليل العقبات أمام انضمامها للاتحاد الأوربي وعلى إطلاق يدها في ضرب حزب العمال الكردستاني والضغط على حكومة إقليم كردستان لتأجيل تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي وتزويد الجيش التركي بمعلومات استخباراتية ساعدت في قيام العشرات من الطائرات التركية بضرب قواعد ومناطق حدودية يتواجد فيها مقاتلو PKK، وتصعيد تلك الاعتداءات من خلال العدوان البري الأخير على السيادة الوطنية للعراق ، الذي يلقى الإدانة والاستنكار من مختلف أوساط الرأي العام الدولي وكذلك الداخل التركي، وخاصة عبر الاحتجاجات الجماهيرية السلمية، التي دعا لها الحزب الاجتماعي الديمقراطي DTP ، وكذلك الموقف المبدئي لحكومة إقليم كردستان، وذلك مقابل صمت عراقي رسمي من جانب حكومة المالكي التي تجاهلت بدورها الاستحقاقات الدستورية الكردية المتعلقة بهوية كركوك وتصحيح عمليات التعريب والتهجير فيها، إضافة لامتناعها في البداية عن التصديق على حصة 17% لإقليم كردستان من الميزانية العامة، واقتطاع ميزانية قوات البيشمركة من الميزانية المخصصة لوزارة الدفاع، إضافة لاعتراض بعض الوزراء في حكومته وخاصة وزير النفط على حق الإقليم في إبرام عقود نفطية مع الشركات الأجنبية، وقد تسبب ذلك في فتور العلاقات بين الحكومة المركزية والتحالف الكردستاني الذي دخل في تحالف مع الحزب الإسلامي رداً على تهميش الحكومة للدور الكردي وعدم الاستجابة للمطالب الكردية، وخاصة بعد توسيع دور وصلاحيات قوات الصحوة العشائرية، وهو يعمل الآن بالتعاون مع بعض الكتل السياسية على تشكيل حكومة جديدة برئاسة المالكي لإعادة توزيع الحقائب الوزارية وتوزيع الصلاحيات والسلطات بما يحقق مبدأ التكافؤ والكفاءة.
وفي موضوع منفصل وافق برلمان كوسوفو أواسط الشهر الجاري على إعلان استقلال الدولة والانفصال عن صربيا بمباركة من الإدارة الأمريكية ودول أوربية ومساندة من حلف الناتو ودول أخرى وسط غضب وانفعال شديدين من دول مثل صربيا وروسيا الاتحادية وغيرها، والتي عبرت مواقفها عن وجود حالات شبيهة في بلدانها وحركات تطالب بحقوقها القومية وتقرير مصيرها بنفسها وفقاً لأحكام وبنود وثائق الأمم المتحدة التي تكفل صيانة ذلك الحق لكافة الشعوب والأمم دون تمييز.
في الداخل السوري، يتنافس القمع والغلاء في بث الرعب والإرهاب في نفوس المواطنين، فالاعتقالات تطال العشرات من النشطاء السياسيين، والمحاكم العسكرية ومحكمة أمن الدولة تطلق العنان لأحكامها الجائرة بحق العديد من المعتقلين، ولا يزال ملف معتقلي إعلان دمشق أمام القضاء المدني يثير الاستنكار والقلق على حد سواء، ولا تزال السلطة تدعم مسلسلها القمعي بحملات من الدعاية المغرضة التي تسعى لإلحاق الضرر بالإعلان وتخوين بعض رموزه والتشكيك بوطنيتهم، والاستعانة بمفردات الاستقواء بالخارج لإثارة المشاعر الوطنية، وإحكام الحصار حول المعارضة، في الوقت الذي بات فيه واضحاً بأن الداخل أصبح يرتبط عضوياً بالخارج، وأن الخارج متنوع بطبيعته، فهو لا يقتصر فقط على الخصوم والأعداء بل أن فيه أنصار وداعمين لقضايانا، وخاصة قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي لم تعد شأناً داخلياً لهذه الدولة أو تلك، ولهذا، فقد حصرت وثائق إعلان دمشق الخارج بالمنظمات الدولية والقوى والفعاليات الحقوقية.
كما تستهدف تلك الدعاية زرع بذور الشك داخل الإعلان وفي محيطه الوطني بشكل عام، والكردي منه بشكل خاص في الإعلان الذي تجهد أمانته العامة لاحتواء الهجمة الأمنية بحكمة وتعقل، وحصر الجهود في إفشال قرار السلطة بإنهاء الإعلان من جهة،ومواصلة حملتها القمعية التي لن تستطيع بكل الأحوال تحقيق أهدافها، لأن إعلان دمشق لم تعد مجرد حركة عفوية مثلما كان عليه ربيع دمشق، بل أنه بات يتمتع بقاعدة نضالية منتشرة ومترابطة، ويضم في تركيبته قوى وشخصيات وفعاليات وطنية معروفة بتاريخها النضالي، ويحتضن مختلف مكونات سوريا القومية والدينية وأطيافها الاجتماعية وتوجهاتها الديمقراطية، ولن يكون بوسع الاعتقالات إيقاف إرادة التغيير الديمقراطي الذي يحمله الإعلان كعنوان لنضاله منذ الولادة، باعتباره تجربة جاءت بعد خمسين عاماً من الإطار الديمقراطي المعارض..
ورغم كونه لا يزال لوحة وطنية غير مكتلة أو برنامج سياسي غير مفصّل، فإنه برأي المراقبين يعتبر مكسباً هاماً لكل القوى الديمقراطية السورية، ومن هنا، فإن الآمال لا تزال معقودة على إمكانية إقدام الأطراف التي جمدت نشاطها على إعادة النظر في قرارها لتستعيد موقعها الطبيعي داخل الإعلان، وتشارك في الدفاع عنه، خاصة في هذه الظروف العصيبة التي يحاصر فيها الإعلان بالاعتقالات من جهة، وبحملات التشكيك والتخوين من جهة أخرى، والتي تستدعي تحصين الإعلان لمتابعة مهمته في التغيير الديمقراطي السلمي الذي يعتبر قدر سوريا الغد، بعد أن أثبتت السلطة عجزها عن إيجاد مخرج لأزمتها البنيوية وإيجاد حل منصف للأزمة الاقتصادية والمعيشية المستعصية التي تقرّ بها الجهات الرسمية ومنها الزيادات الكبيرة التي طرأت على أسعار المواد الغذائية والسلع والمواد الاستهلاكية، وبات معها المواطنون السوريون يعيشون دوماً على إيقاع ارتفاع الأسعار، وبات حديثهم يدور حول الغلاء الفاحش وغياب الرقابة الحكومية وتراجع القوة الشرائية للعملة السورية، وتراوحت نسبة الزيادة في أسعار بعض المواد بين 40-50% ، وتراجع متوسط نصيب الفرد من الغذاء في الوقت الذي وصل فيه معدل النمو السكاني إلى 3.3% وعدد المواليد السنوي إلى 500 ألف، مما يشكل ضغطاً متزايداً، خاصة في ظل الإهمال الواضح للقطاع الزراعي الذي انخفض فيه نصيب الفرد من المساحة المستثمرة من 36% عام 1977 إلى 29% عام 2006.
وفي المناطق الكردية تتضاعف نسب الإهمال والتسيب بسبب السياسة الشوفينية المعتمدة التي لا تزال تصرّ على استكمال مشاريعها العنصرية من خلال الإصرار على عدم توزيع الأراضي الزراعية التي ترتبت على تفكيك ما كانت تسمى بـ مزارع الدولة في منطقة ديريك على أصحابها الأصليين والمستحقين من فلاحي المنطقة من السكان الأصليين من الكرد وغيرهم، هي الآن بصدد توزيعها على فلاحي الغمر بعد أن فشلت في استقدام فلاحي منطقة الشدادي نتيجة تعاون وجهاء العشائر العربية، مما يثير المخاوف من احتمالات حصول اضطرابات قد تنشب على خلفية مثل هذه القرارات القائمة على حرمان الكرد من مصادر العيش الكريم لإجبارهم على الهجرة التي حملت حتى الآن عشرات الآلاف منهم إلى ضواحي المدن الكبرى، وخاصة دمشق، وكذلك إلى الخارج ليعانوا التشرد والغربة والآلام.
أما في الداخل الوطني الكردي، فإن الجهود الساعية لعقد مؤتمر وطني كردي في سوريا تبقى قائمة رغم كل الصعوبات والعراقيل ، حيث أن المهاترات التي قد تظهر هنا وهناك ، يجب ألا تثني عزيمة مواصلة العمل في التمهيد لعقد المؤتمر المنشود بهدف انبثاق ممثلية كردية بمثابة مرجعية سياسية للحركة الوطنية الكردية التي لا شك أنها تبقى تشكل رافداً مندمجاً للنضال الديمقراطي العام .
في 27/02/2008
اللجنة السياسية