منذ أيام و وفود البرلمانات العربية و رؤسائها تتوافد على عاصمة (إقليم كوردستان) هولير ..
حتى إذا حلّق بعيداً باتجاه القمم المكسوة ببياض النقاء , و الجداول المتفجرة عطاء ..
و المتحدرة عبر شعاب خضراء , تتلون إلى الأعماق , ماءً زلالاً ..
و رياحين و أزاهير ..
في إقليم بات ينعم بالهدوء , و يرقى إلى الاستقرار , و يخلد إلى الراحة , بعد عناء الأنفال , و راجمات العنصرية , و قذائف المدفعية و الطائرات و هي تدك آلاف القرى , و تزرع الرعب في كل بقعة من كوردستان ..
في حلبجة و خورمال و بهدنيان و كرميان ..
تصطفي أطفالا بعمر البراعم , و أمهات تخصب أرحامهن الحياة ..
و شيب أركعت قاماتهم الشامخة سنونٌ عجاف ..
تصليهم سموم (السارين و التابون و السيناب و السينانيد …)
لقد اختار العراقيون هذه البقعة الهادئة الرخية ..
و هي تنعم بديمقراطية فتية , و تجربة فذة , تجد فيها أطياف العراق القومية جميعاً (كردا و عربا و آثوريين و كلدانا و تركمانا ..) و مذاهب و أدياناً , و أفكارا و اتجاهات , و قيما مختلفة , متآلفة جميعاً متحابة , ترفل في رونق بهي , و زخرف جميل ..
لقد اصطفوا هذا الإقليم , ليكون حاضنة العراق , و ملتقى أطيافه , و مسرح أبنائه و مراحهم ..
مضيافاً كأكثر و أجمل ما تكون الضيافة , فاتحاً ذراعيه لأشقائه العرب , و هم يدخلون حرماً آمناً , و دار مكرمة لاحبة , طالما كانت معرضة للتهويش و التشويش , و زرع إثم العداوة و البغضاء , و إثارة الكراهية في نفوس الآخرين , بتصوير الكرد شعبا فاتكا باغيا همجيا , يعتمد أسلوب الفتك و البطش و الذبح و القتل ..
ليجد هؤلاء المتنورون من كل من زار هذا الإقليم , و وقف على معالمه الأثري , وواقعه الحضاري , ودياره العامرة , و طبيعته الساحرة , و رأفة أبنائه , و سماحة راسخة فيهم , و طيب محتد , و أصالة كرم ..
ليدفع ذلك مفكرا مصريا كبيرا كإيهاب نافع إلى القول : ” إن أعظم ما يمكن أن يسديه الكرد من فضل لإخوتهم العرب , مما يعدل ما أسداه صلاح الدين , هو هذه التجربة الفريدة ” في زيارة له إلى إقليم كردستان ..
ليؤكد الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى , ما كان مخالفا لما في نفسه من رؤية مغايرة سابقة تجاه الإقليم قائلا – وهو يخالط هذه التجربة – ” لقد أدركت الآن أن الكرد هم جزء من الحل في العراق , و ليسوا جزءاً من المشكلة ..
”
كذلك أدرك الوافدون ذلك وتعمقوه , و فهموا أبعاده, و هم يلتقون وجها لوجه, مع القادة و الأدباء و المفكرين و الكتاب الكرد , و رأوا أن الصورة الواقعية جدُّ مختلفة , و أن الشعب الكردي محب و توّاق إلى الود , و التجانس و التلاؤم مع أشد مضطهديه , و هو ما أشار إليه المناضل مسعود البارزاني في كلمة الختام : ” إن الأمم التي تتقاسم الحياة مع الكرد من ترك و عرب و فرس لن تستطيع حل القضية الكردية بمنطق القوة , بل بمنطق التحاور و التلاقي … ” ليؤكد بذلك القدرة على تجاوز صنوف الظلم , إن هم أبدوا السماحة و اللين و اليسر معهم , أو هم تركوهم و حياتهم و اختيارهم , دون إكراه أو عنت أو طغيان , ليجدوا من السماح و العفو أكثر بكثير من روح الانتقام , و الرد بالمثل , و المثل الأعلى و الأكبر هو ما تجسد في الدعوة المعلنة و الصريحة في مؤتمر المصالحة المنعقد في هولير في الرابع و العشرين من شهر آذار من عام 2004 , و الذي كان قائد القوة الجوية العراقية الذي قصف قرى و قصبات و مدن كوردستان حاضراً هذه الجلسة , و أحد الذين أحنو هاماتهم – احتراماً و تقديرا – أمام هذا النبل الكردي العريق , ليقول “يشرفني أني أقف اليوم في هذا المؤتمر أمامكم و أنا واحد من أولئك الذين يطلبون الصفح و التسامح عما قمنا به و نفذناه بحق إخوتنا الكرد خلال حرب دموية مريرة ؟! ”
مثنيا بقوة على البادرة الكريمة و العظيمة لقائد فذ , هو رئيس إقليم كردستان المناضل مسعود البارزاني , نجل رمز العراق ووحدته الوطنية , و دعوته الإنسانية الرفيعة , ونهجه التحرري , البارزاني الخالد ..
لقد أدلى البرلمانيون, و رؤساء المجالس البرلمانية العربية بتصريحات كثيرة انطلقت من فهم دقيق وجديد , و ميداني, للمعادلة السياسية التي أرساها الكرد في العراق , و كان أروعهم و أكثرهم حباً و كرامة و حسّاً وطنيا رفيعا, رئيس برلمان العراق د.
محمود المشهداني, الذي اعتز بتلمذته في الدين و الوطنية و السياسة لأساتذته و علمائه من الكرد , معترفاً بأبوة و أخوة و قرابة الكرد التاريخية , و لا عجب في ذلك فالكرد يتصلون بأعمق الصلات نسبا و عقيدة و تصاهرا بالعرب , سواء في الدوحة الشريفة العليا , في اتصال أولاد إسماعيل (عليه السلام) بأبيهم إبراهيم الهوري – وهم من أعظم أسلاف الكرد – ذلك النبي الكريم الذي خرج إلى الجزيرة العربية من(آور) الهورية ..
مما يقطع بصلة النسب و القرابة في هذه الأرومة , إضافة إلى قرابة عميقة بين اليمانيين و الكرد – عبر تاريخ طويل – يتجذر إلى بني ساسان من الكرد , ممن حكموا أيران على مدى ألفي عام ..
لتتوالى التصريحات و اللقاءات و الحوارات , و يتبادل الكرد مفكرين و قادة و كتاباً مع أشقائهم العرب كل ألوان المعرفة, و أسباب التواصل, ليتجلى ذلك في أحاديث رؤساء وفود البحرين و قطر و الجزائر و الأردن , و إن تباينت المواقف و الآراء , إلا أن المجمع عليه, أن الكرد لم يدعوا إلا إلى المصالحة و التفاهم و التلاقي مع أطياف الشعب العراقي , و تحقيق أعمق العلاقات و أكثرها رسوخا و عدلا , مؤكدين على حق الكرد في الحياة الحرة , حيث يعزز ذلك قادة الكرد في العراق , السيد رئيس الجمهورية و رئيس إقليم كردستان , و رؤساء البرلمان و الحكومة , و نوابهم , ليترك ذلك أثرا عميقا في النفوس , مما حرك المشاعر باتجاه بناء أوثق الصلات , و أدق العلاقات مع المحيط العربي و الإسلامي , كما قال السيد رئيس جمهورية العراق مام جلال ..
و ليحدد المناضل رئيس إقليم كردستان (أفق العلاقة بين الأمتين العربية و الكردية ..
و ما بينهما من عمق التواصل و التلاحم الوجداني , و حق هذه الأمة أن تلي أمرها , و تعبر عن إرادتها أسوة بشعوب و أمم العالم جميعاً ..) ليؤكد الدكتور محمود المشهداني (أن الحق الطبيعي للكرد يتمثل في شرعة و قوانين المجتمع الدولي , و خياراته في تحديد و تقرير مصيره , و أن اختياره الطبيعي للشراكة الوطنية في العراق هو اختيار طبيعي يليق بدور الكرد الوطني و موقفهم التاريخي ..).
لقد كان مؤتمر هولير حاضرة فكر و تكامل و تواصل , و حوارا عمليا و ميدانيا مفتوحا, يتحرك على أرض الواقع , و يشهد معالم فكر مدني , و أثر تطور حضاري له امتداده و تألقه و عمقه , و يقظة واضحة للفكر الكردي , و هو يتجسد واقعا حياتيا ملموسا واضحا , لا لبس فيه , و لا تعقيد في تصوراته , على الرغم من خروجه من المحن و النكبات و المآسي , لاعقا جراحه , مضمدا إياها , و ساعيا إلى ترميم خلايا جسد , لا يزال يتجدد و يتأصل و يسعى إلى النماء و التطور و التلاقي مع مناخ حضاري جديد ..
تنتقي منه كل التشوهات و الالتواءات و ألوان الكيد و الكراهية , ليجد هؤلاء الأخوة , خلاف ما كانوا يتصورونه , و هم يعلمون أن الكرد خرجوا من (أكبر تجربة و أشدها مرارة و بغيا و ظلما و ملاحقة و تشريدا في الآفاق ..
و قتلا على الهوية ..)
كان تصورهم أن يجدوا في المقابل ردة فعل عنيفة تجاه كل عربي , و لكنهم أدركوا أن القيادة الخالدة للبارزاني و مدرسته و تلامذته ..
قد صقلت الشخصية الكردية و أعطتها قدرة للتمييز الدقيق بين الشعوب العربية و الأنظمة التي أرهقته و نالت منه , مفرقة بدقة بين ما هو عربي شقيق و أصيل , و ما هو عنصري مقيت و بدائي من فكر بدأ يتآكل و يتقوقع و ينزوي ..
ليظهر فكر آخر مشرق و إنساني و رائد على يد أعلام و قادة و مفكرين من أحرار العرب ..
بعيداً عنً نزق الفكر الاستئصالي و القمعي, القائم على شطب و إلغاء الآخرين, و كره تاريخهم و لغتهم و ارتباطهم بقيم أصيلة تميز الشعوب , دون أن تعطيها حق الاستعلاء على الآخرين ..
فهل من عودة , و هل من مراجعة ..
؟!