مؤتمر البرلمانات العربية في (هولير) بين الدلائل و العِبَر..

  عبد الرحمن آلوجي

منذ أيام و وفود البرلمانات العربية و رؤسائها تتوافد على عاصمة (إقليم كوردستان) هولير ..
في وقت يشهد فيه العراق تحولاً جذرياً بين ماض دموي استبدادي , لا يزال يغرق في دوّامته , و يصطلي بآثاره , و مستقبل ديمقراطي تعددي , ينتظره , و هو يجرجر هيكله من بين ركام الدم و النار و الرماد ..

حتى إذا حلّق بعيداً باتجاه القمم المكسوة ببياض النقاء , و الجداول المتفجرة عطاء ..

و المتحدرة عبر شعاب خضراء , تتلون إلى الأعماق , ماءً زلالاً ..

و رياحين و أزاهير ..
تنضج من حولها حياة آمنة ..

في إقليم بات ينعم بالهدوء , و يرقى إلى الاستقرار , و يخلد إلى الراحة , بعد عناء الأنفال , و راجمات العنصرية , و قذائف المدفعية و الطائرات و هي تدك آلاف القرى , و تزرع الرعب في كل بقعة من كوردستان ..

في حلبجة و خورمال و بهدنيان و كرميان ..

تصطفي أطفالا بعمر البراعم , و أمهات تخصب أرحامهن الحياة ..

و شيب أركعت قاماتهم الشامخة سنونٌ عجاف ..

تصليهم سموم (السارين و التابون و السيناب و السينانيد …)

لقد اختار العراقيون هذه البقعة الهادئة الرخية ..

و هي تنعم بديمقراطية فتية , و تجربة فذة , تجد فيها أطياف العراق القومية جميعاً (كردا و عربا و آثوريين و كلدانا و تركمانا ..) و مذاهب و أدياناً , و أفكارا و اتجاهات , و قيما مختلفة , متآلفة جميعاً متحابة , ترفل في رونق بهي , و زخرف جميل ..

لقد اصطفوا هذا الإقليم , ليكون حاضنة العراق , و ملتقى أطيافه , و مسرح أبنائه و مراحهم ..

مضيافاً كأكثر و أجمل ما تكون الضيافة , فاتحاً ذراعيه لأشقائه العرب ,  و هم يدخلون حرماً آمناً , و دار مكرمة لاحبة , طالما كانت معرضة للتهويش و التشويش , و زرع إثم العداوة و البغضاء , و إثارة الكراهية في نفوس الآخرين , بتصوير الكرد شعبا فاتكا باغيا همجيا , يعتمد أسلوب الفتك و البطش و الذبح و القتل ..

ليجد هؤلاء المتنورون من كل من زار هذا الإقليم , و وقف على معالمه الأثري , وواقعه الحضاري , ودياره العامرة , و طبيعته الساحرة , و رأفة أبنائه , و سماحة راسخة فيهم , و طيب محتد , و أصالة كرم ..

ليدفع ذلك مفكرا مصريا كبيرا كإيهاب نافع إلى القول : ” إن أعظم ما يمكن أن يسديه الكرد من فضل لإخوتهم العرب , مما يعدل ما أسداه صلاح الدين , هو هذه التجربة الفريدة ” في زيارة له إلى إقليم كردستان ..

ليؤكد الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى , ما كان مخالفا لما في نفسه من رؤية مغايرة سابقة تجاه الإقليم قائلا – وهو يخالط هذه التجربة – ” لقد أدركت الآن أن الكرد هم جزء من الحل في العراق , و ليسوا جزءاً من المشكلة ..

كذلك أدرك الوافدون ذلك وتعمقوه , و فهموا أبعاده, و هم يلتقون وجها لوجه, مع القادة و الأدباء و المفكرين و الكتاب الكرد , و رأوا أن الصورة الواقعية جدُّ مختلفة , و أن الشعب الكردي محب و توّاق إلى الود , و التجانس و التلاؤم مع أشد مضطهديه , و هو ما أشار إليه المناضل مسعود البارزاني في كلمة الختام : ” إن الأمم التي تتقاسم الحياة مع الكرد من ترك و عرب و فرس لن تستطيع حل القضية الكردية بمنطق القوة , بل بمنطق التحاور و التلاقي … ” ليؤكد بذلك القدرة على تجاوز صنوف الظلم , إن هم أبدوا السماحة و اللين و اليسر معهم , أو هم تركوهم و حياتهم و اختيارهم , دون إكراه أو عنت أو طغيان , ليجدوا من السماح و العفو أكثر بكثير من روح الانتقام , و الرد بالمثل , و المثل الأعلى و الأكبر هو ما تجسد في الدعوة المعلنة و الصريحة في مؤتمر المصالحة المنعقد في هولير في الرابع و العشرين من شهر آذار من عام 2004 , و الذي كان قائد القوة الجوية العراقية الذي قصف قرى و قصبات و مدن كوردستان حاضراً هذه الجلسة , و أحد الذين أحنو هاماتهم – احتراماً و تقديرا – أمام هذا النبل الكردي العريق , ليقول “يشرفني أني أقف اليوم في هذا المؤتمر أمامكم و أنا واحد من أولئك الذين يطلبون الصفح و التسامح عما قمنا به و نفذناه بحق إخوتنا الكرد خلال حرب دموية مريرة ؟! ”

مثنيا بقوة على البادرة الكريمة و العظيمة لقائد فذ , هو رئيس إقليم كردستان المناضل مسعود البارزاني , نجل رمز العراق ووحدته الوطنية , و دعوته الإنسانية الرفيعة , ونهجه التحرري , البارزاني الخالد ..

لقد أدلى البرلمانيون, و رؤساء المجالس البرلمانية العربية بتصريحات كثيرة انطلقت من فهم دقيق وجديد , و ميداني, للمعادلة السياسية التي أرساها الكرد في العراق , و كان أروعهم و أكثرهم حباً و كرامة و حسّاً وطنيا رفيعا, رئيس برلمان العراق د.

محمود المشهداني, الذي اعتز بتلمذته في الدين و الوطنية و السياسة لأساتذته و علمائه من الكرد , معترفاً بأبوة و أخوة و قرابة الكرد التاريخية , و لا عجب في ذلك فالكرد يتصلون بأعمق الصلات نسبا و عقيدة و تصاهرا بالعرب , سواء في الدوحة الشريفة العليا , في اتصال أولاد إسماعيل (عليه السلام) بأبيهم إبراهيم الهوري – وهم من أعظم أسلاف الكرد – ذلك النبي الكريم الذي خرج إلى الجزيرة العربية من(آور) الهورية ..

مما يقطع بصلة النسب و القرابة في هذه الأرومة , إضافة إلى قرابة عميقة بين اليمانيين و الكرد – عبر تاريخ طويل – يتجذر إلى بني ساسان من الكرد , ممن حكموا أيران على مدى ألفي عام ..

لتتوالى التصريحات و اللقاءات و الحوارات , و يتبادل الكرد مفكرين و قادة و كتاباً مع أشقائهم العرب كل ألوان المعرفة, و أسباب التواصل, ليتجلى ذلك في أحاديث رؤساء وفود البحرين و قطر و الجزائر و  الأردن , و إن تباينت المواقف و الآراء , إلا أن المجمع عليه, أن الكرد لم يدعوا إلا إلى المصالحة و التفاهم و التلاقي مع أطياف الشعب العراقي , و تحقيق أعمق العلاقات و أكثرها رسوخا و عدلا , مؤكدين على حق الكرد في الحياة الحرة , حيث يعزز ذلك قادة الكرد في العراق , السيد رئيس الجمهورية و رئيس إقليم كردستان , و رؤساء البرلمان و الحكومة , و نوابهم , ليترك ذلك أثرا عميقا في النفوس , مما حرك المشاعر باتجاه بناء أوثق الصلات , و أدق العلاقات مع المحيط العربي و الإسلامي , كما قال السيد رئيس جمهورية  العراق مام جلال ..

و ليحدد المناضل رئيس إقليم كردستان (أفق العلاقة بين الأمتين العربية و الكردية ..

و ما بينهما من عمق التواصل و التلاحم الوجداني , و حق هذه الأمة أن تلي أمرها , و تعبر عن إرادتها أسوة بشعوب و أمم العالم جميعاً ..) ليؤكد الدكتور محمود المشهداني (أن الحق الطبيعي للكرد يتمثل في شرعة و قوانين المجتمع الدولي , و خياراته في تحديد و تقرير مصيره , و أن اختياره الطبيعي للشراكة الوطنية في العراق هو اختيار طبيعي يليق بدور الكرد الوطني و موقفهم التاريخي ..).

لقد كان مؤتمر هولير حاضرة فكر و تكامل و تواصل , و حوارا عمليا و ميدانيا مفتوحا, يتحرك على أرض الواقع , و يشهد معالم فكر مدني , و أثر تطور حضاري له امتداده و تألقه و عمقه , و يقظة واضحة للفكر الكردي , و هو يتجسد واقعا حياتيا ملموسا واضحا , لا لبس فيه , و لا تعقيد في تصوراته , على الرغم من خروجه من المحن و النكبات و المآسي , لاعقا جراحه , مضمدا إياها , و ساعيا إلى ترميم خلايا جسد , لا يزال يتجدد و يتأصل و يسعى إلى النماء و التطور و التلاقي مع مناخ حضاري جديد ..

تنتقي منه كل التشوهات و الالتواءات و ألوان الكيد و الكراهية , ليجد هؤلاء الأخوة , خلاف ما كانوا يتصورونه , و هم يعلمون أن الكرد خرجوا من (أكبر تجربة و أشدها مرارة و بغيا و ظلما و ملاحقة و تشريدا في الآفاق ..

و قتلا على الهوية ..)

كان تصورهم أن يجدوا في المقابل ردة فعل عنيفة تجاه كل عربي , و لكنهم أدركوا أن القيادة الخالدة للبارزاني و مدرسته و تلامذته ..

قد صقلت الشخصية الكردية و أعطتها قدرة للتمييز الدقيق بين الشعوب العربية و الأنظمة التي أرهقته و نالت منه , مفرقة بدقة بين ما هو عربي شقيق و أصيل , و ما هو عنصري مقيت و بدائي من فكر بدأ يتآكل و يتقوقع و ينزوي ..

ليظهر فكر آخر مشرق و إنساني و رائد على يد أعلام و قادة و مفكرين من أحرار العرب ..

بعيداً عنً نزق الفكر الاستئصالي و القمعي, القائم على شطب و إلغاء الآخرين, و كره تاريخهم و لغتهم و ارتباطهم بقيم أصيلة تميز الشعوب , دون أن تعطيها حق الاستعلاء على الآخرين ..

 

لقد كان المؤتمر أثراً بالغا, و فعلاً مؤثراً , و قوة حركة باتجاه عبرة تدفع آلاف العرب إلى مراجعة حساباتهم , مع اللقاء و التحاور و التدارس, و الوقوف على واقع هو مغاير تماما لتصور الكثيرين و رؤيتهم المسبقة ..

فهل من عودة , و هل من مراجعة ..

؟!

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…