لقاء سوري لبناني عابر

درويش محمى

كنت مارا من إمام إحدى محطات النقل العام أمارس رياضتي اليومية المفضلة في المشي, حين أوقفني شاب لبناني في مقتبل العمر, وبصحبته زوجته وطفله الصغير, ليسألني بانكليزيته الركيكة والقلق يكاد يقتله, ان كان حقاً يتواجد في موقف الحافلة التي ستقله وعائلته لمكان اقامتهم الواقع في احد المعسكرات المؤقتة لاستقبال اللاجئين, على ارض المملكة السويدية, البلد الحلم والوطن البديل الموعود.
فور رؤيتي للمهاجر اللبناني وهو يعترضني ويقطع علي الطريق, ولسبب ما, وجدت نفسي للحظات خاطفة اعود فيها الى الماضي عقدين من الزمن, لاتذكر بدايات رحلتي في عالم الهجرة, ومعاناتي الطويلة مع الغربة الموحشة في بلاد القراصنة الفايكينغ, فأنا مثل اللبناني الذي التقيته للتو, طالما اوقفت المارة على الطرقات وازقة الشوارع, لأسأل عن وجهة الرحلات والامكنة والعناوين.

 تذكرت فجأة, محطات هجرتي الطويلة المؤلمة, ربما لانني عند قدومي للسويد كنت مثله بالضبط, عضواً في عائلة صغيرة تتألف من ثلاثة نفوس بشرية مهاجرة في عالم الغربة تبحث عن مصيرها, وربما لان عيني كانتا في الماضي مثل عينيه تفضحان سري وما احمله من قلق وخوف من المجهول, او انني كنت مثله في الماضي مفعماً بالحلم والامل بحياة افضل, او ربما لاننا نحن الاثنين نتقاسم شغف البحث عن الراحة والامان والحياة الكريمة والبعض من الحرية المفقودة في بلداننا الام, اسباب عدة لايمكن للمرء البت والقطع في تحديد ومعرفة السبب الحقيقي الذي دفع بذاكرتي للسفر عبر الزمن.
هو مهاجر من لبنان وانا مهاجر من سورية, وهل هناك من رابطة اقوى من الرابطة التي بين بلدينا, انا لا اقصد بالطبع ترهات بعض الغوغائيين والمنافقين, ومصطلحاتهم المتكررة الرتيبة والمغرضة, مثل “البلدين التوأمين” او “الشقيقين” والبلد الواحد والمصير الواحد, فسورية ولبنان يجمعهما الشمس والبحر وصباحات فيروز, والكثير الكثير من الروابط الحقيقية الراسخة والعريقة, وانا كلي ثقة, لولا سوء الحظ وحفنة الاشرار والمهووسين بالسلطة والحروب في البلدين اللبناني والسوري, لما عرفنا الهجرة والعيش على ابواب الغير, فالبلدان بامتلاكهما للشمس والبحر والقليل من الحرية والامان, وفي ظل سلطان الحاكم العادل في سورية, لكان قدر لبنان الاكيد, الحفاظ على لقبه الدارج والمعروف بـ “سويسرا الشرق” ولكانت سورية الوصيفة الجديرة والجارة للبنان, فاليونان والاسبان والطليان تعلموا – ما شاء الله – من نفس البحر ونفس الشمس, تعلموا الكثير من قيم الحرية والتسامح والعدل والمساواة, وبفضل نور الشمس ونسائم البحر الابدية وامواجه فتحت لهم ابواب ثروة لاتنضب من الرزق الوفير.


ليس بالامر الغريب, ان يجد المرء في بلاد الجليد والظلمة ملاذاً لتحقيق امانيه واحلامه, فالنور لاينبعث من الشمس وحسب, ففي داخل كل شخص منا شمعة صغيرة, ان وجدت طريقها الى الهواء الحر النقي, واجتمعت مع غيرها من الشمعات التي لا تعد ولاتحصى في افئدة وعقول الطيبين والعقلاء من الناس المحبين لاوطانهم وبلدانهم, لا محالة انها ستشكل مصدر طاقة قوية هائلة من النور تضاهي نور الشمس, تنير البلد بكامله وتجعل منه قبلة للمهاجرين, وربما هذا هو سر حالي وحال المهاجر اللبناني مع السويد بلد النور غير الطبيعي.
“صارلك زمان هون? “سألني اللبناني بعد ان اطمأن قلبه وارتاح باله وتأكد من توجه رحلته.
قلت له : “عمر يارجل, بهدلة , شو جابك انت على ها البرد?”
فكان رده “التعتير والفوضى في البلد……..البلد بلا رئيس” قالها لي وهو يسحب ابنه وراءه لاحقاً بزوجته خشية ان تفوته الرحلة, نحو الباص الذي اشغل محركه, فقلت له “خود رئيسنا اذا بدك” ضحك المهاجر اللبناني المجهول الذي لم يتسن لي معرفة اسمه, يهز برأسه وهو يصعد الحافلة السويدية المكيفة ليتابع رحلته.

* كاتب سوري
d.mehma@hotmail.com   

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…