مرضاة الخراب السياسي الكردي السوري غايةٌ تُدرَك.

هوشنك أوسي

تقول الطرفة التركيَّة، وربما تكون لعزيز نسين: “إن أحدهم ذهب لدكَّان العطَّار، كي يشتري عطراً، وطلب نوعين فقط، ليختار منهما وحداً.

وحين سأله العطَّار: ولِمَ نوعان فقط، الدكَّان بما فيه أمامك، أجاب: إنْ أكثرت، فستأخذني الحيرة إلى التوهان.

امتثل العطَّار لطلبه، وأعطاه نوعين من العطر.

وحين شمَّ أحدهما، قال: سأشتري النوع الآخر.

فاستغرب العطَّار قائلاً: ولكنك لم تجرِّبه؟!.

فأجاب الرجل: لأنَّ ما شممته، لا ولن يوجد أسوأ منه”.

عجيبٌ، أمرُ الحراك السياسي الكردي في سورية!!؟.

حين تبدأ أوصاله تبحث عن التوافق والتآلف والتعاضد واللُّحمة، تراهم يخرجون علينا أكثر انقساماً وشقاقاً وشرذمة!!؟.

وهذا ما نراه حاليَّاً في مسلسل فضائح التحالف الديمقراطي الكردي في سورية، والتراشق النابي بين فصائله، بصورة خاصَّة، ومهازل عمليَّة البحث عن مرجعيَّة كرديَّة سورية، بصورة عامَّة.

لكن، لفوضى الخراب هذه، جذرٌ، يعود بنا للأمس القريب.

فحين التجأ الفرقاء في الجسم السياسي الكردي السوري، مطلع السبعينات، لمرجعيَّة الزعيم الراحل الملا مصطفى بارزاني، كي يفضَّ الخلاف الناشب، ويطوي صفحته تلك، ولو بشيء من القسوة، إذ أخضع رأسيّ الخلاف آنئذ، السيّدين صلاح بدرالدين وعبدالحميد دوريش، وصحبيهما، للإقامة الجبريَّة، واختار قيادة جديدة للحركة الكرديَّة، وقبِل الفرقاء هذا الحل، وهم صاغرون مجبرون.

وحال عودتهم إلى الوطن السوريّ، انتفض “اليمن” و”اليسار” على قرار المرجعيَّة البارزانيَّة، وبدأوا بكيل أشنع التهم للزعيم الراحل وقتها.

وجيل السبعينات الذي عاصر تلك الحقبة، شهود عيان عليها، وكيف كانت تدار حفلات السبَّ والشتم بحقِّ البارزاني سرَّاً وجهراً.

واتَّفق الفريقان المتخاصمان، (اليمين واليسار) على نقطة واحدة فقط، وهي شتم القائد بارزاني.

والسؤال المطروح هنا: ماذا لو قبل رأسا الخلاف، بدرالدين ودرويش بالحل الذي ارتآه الزعيم بارزاني الراحل، كمرحلة انتقاليَّة وقتئذ، ولم ينجزا، بنزقيَّة سياسيَّة، نسختين مشوَّهتين من اليسار واليمين، أما كان أفضل لحال الشعب الكردي في سورية، وقضيته العدالة!؟.

أما كانا جنَّباً الجسم السياسي الكردي كل هذه العلل والإفراط في التناسل!؟.

وهاتان النسختان من اليسار واليمين المشوَّه، اشتطَّ بها منسوب العداء للبارزاني آنئذ، للتخابر مع النظام العراقي، بمعيَّة جلال طالباني!؟.
تداولت بعض الأوساط الكرديَّة، بأن المناضل الراحل عثمان صبري، اتُّهِم بالتطرِّف، وعدم امتلاكه لرؤية سياسيَّة، عقلانيَّة واقعيَّة واضحة، بسبب إصراره، أثناء المحاكمة، على الهويَّة السياسيَّة للتكوين الكردي، وأنه “حزب سياسي، وليس جمعية، وأن شعار هذا الحزب هو تحرير وتوحيد كردستان…”، بالضد مما طرحه الدكتور نورالدين ظاظا وعبدالحميد درويش في المحاكمة.

لكن، حين سُئل الراحل صبري، عن حقيقة موقفه “المشتنِّج” ذاك، أجاب، بما معناه: “أثناء المؤتمر التأسيسي للحزب، الطرف الآخر، (ويقصد ظاظا ودرويش)، هو من أصرَّ على اسم الحزب، وشعاره.

وأنا كنت أدعوا للاعتدال، أو التخفيف من نبرة الخطاب.

وأثناء المحاكمة والمواجهة، تخلُّوا عمَّا عاندوا عليه.

فأصرِّيت على تبنِّيه حتَّى النهاية”.

ومعلوم الحكم الذي صُدر بحقِّ صبري من السلطة السوريَّة وقتئذ.

هذه المعلومة، هي برسم الباحثين والدارسين الحقيقيين، وليست برسم “نقَّاد شجعان”، مختفين وراء أسماء مستعارة جبانة، للتدقيق والتمحيص والتحليل فيها، والتأكُّد من مدى صحَّتها، وصولاً لاستخلاص النتائج.
وأثناء تناول التجربة السياسيَّة الكرديَّة في سورية بعين النقد والمراجعة، سؤال آخر يفرض نفسه هنا: لماذا اتخذ قرار فصل  أو طرد الراحل عثمان صبري من على رأس اليسار، بتهمة الخيانة والتخابر والعاملة مع تركيا، وتنصيب بدرالدين مكانه!؟.

يقال: لأنَّ صبري، أراد مواجهة مشروع الحزام العربي بشكلٍّ عمليٍّ حازم، حتَّى ولو اضطِّر الأمر، لاستخدام السلاح، وقتئذ.

وحين سئل صبري عن طريقة الحصول على السلاح في إحدى الجلسات غير الرسميَّة؟!، أشار الرجل بإمكانيَّة الحصول على السلاح من السوق السوداء في تركيا.

فتمَّ تبييت مشورة عثمان صبري، وإشهارها في وجهه  كـ”دليل إدانة” في مؤتمر تكتُّل “اليسار”، على أن ذلك تخابر مع الإمبرياليَّة التركيَّة، وخيانة… إلى آخره من هذه الدباجة الكيديَّة، الطفوليَّة اليساريَّة.

هذه أيضاً معلومة، برسم التدقيق والتنقيب والتحليل لدى الباحثين والدارسين الحريصين على تدوين التاريخ السياسي الكردي في سورية، وتخبيصاته وتفقيساته.


وذكر زعيم الحزب الديمقراطي الكردي في لبنان “البارتي”، جميل محو في مذكراته (أربعة سنوات في سجون البارزاني)، إنه، “حين سئل صلاح بدرالدين، عن عثمان صبري، أجاب الأول: لقد طردته من صفوف الحزب”.

حادثة الطرد هذه، (إن تمَّ التأكُّد منها)، هي سابقة خطيرة في تاريخ الحركة الحزبيَّة الكرديَّة السورية.

لجهة تمرُّد الحزب على زعيمه، التي لم تتكرَّر في أي حزب كردي سوري آخر، حتَّى الآن.

رغم أن قواعد هذه الأحزاب، والشارع الكردي، يعي تماماً أن الطبقة السياسيَّة التي تتصدَّر  حاليَّاً، واجهة هذه الأحزاب، هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن حالة الشقاق والانشقاق المسرطن في جسم الحركة الحزبيَّة الكرديَّة.

إلا أن قواعد أيَّاً من هذه الأحزاب، لم تتخذ موقفاً حازماً، كما اتخذ اليسار موقفاً من زعيمه صبري!!؟.

وهذا ليس دفاعاً عن موقف اليسار ذاك.

ولكن، ينبغي البحث والتدقيق في طبيعة حادثة الطرد تلك، هل كان تمرُّداً في الحزب على زعيمه، أم تآمراً من الرفاق، وأقصد بدرالدين، على زعيمهم؟.

وبين الكشف عن حادثة الطرد، أكان تمرُّداً أم تآمراً، ما هو مفروغ منه، عن المناضل عثمان صبري، تعرِّض للإهانة والحصار والتشهير من قبل رفاقه، ولم يعاد له الاعتبار حتَّى الآن، ولم يتمُّ الاعتذار منه، لا من بدرالدين، ولا من اشتقاقات اليسار!؟.

وياله من وفاءٌ وعرفان بالكد والجهد القومي والوطني، من رفاقٍ مناضلين لزعيم مناضل بقامة عثمان صبري!؟.
كلّ مثقف وسياسي كردي، حزبيَّاً كان أم مستقلّ، معنيٌّ بالكشف عن هذه الأمور، لاستخلاص تصوُّر عام، حول ما جرى في الأمس القريب، وصولاً لبلورة فهمٍ واضح، لما يجري، من خراب سياسي كردي سوري متفاقم حاليَّاً.

يعني، البحث في نشأة الفساد والإفساد والعطب  والخلل في الحراك السياسي الكردي السوري، دون مواربة أو تنصُّل أو تحايل…الخ.

وأمَّا قول البعض: إن قضيَّة نبش الماضي والتنقيب فيه، أمرٌ لا منفعة منه، ولا يخدم الصالح العام، ويزيد الشقاق شقاقاً، والأزمة تأزُّماً…، هذا تهرُّب، وتخوُّف من معرفة الحقيقة.

مخافة أن يُدخل هذا الأمر، صاحبه في صِدام، مع جلازوة الخراب السياسي الكردي في سورية، ومفاعليه ورموزه وسدنته.

والأجدى به، النأي بنفسه عن العواصف الكيديَّة التي قد تلحق به جرَّاء مساهمته في عملية البحث عن الحقيقة.

وهذا ما لمسته، خلال تجربتي الأخيرة، في نقد الحركة الحزبيَّة، وما آتاني منها، من فظيع وشنيع القول، والطعن والالتفاف من قبل البعض الذين آثروا علاقاتهم وصداقاتهم مع الحركة الحزبيَّة، على قولة الحقِّ، في مواجهة سلاطين وأساطين الخراب السياسي الكردي السوري، مع الأسف الشديد.
إنْ انتقد كرديُّ هذا الخراب من خارج سورية، بشيءٍ من الحدَّة، قالوا عنه: يعيش في نعيم الغربة، ولا همَّ لديه، ولا يتعرَّض للملاحقة والمساءلة الأمنيَّة…، ولا يدري بحالنا، نحن “المناضلون البررة”، وما نعانيه ونقاسيه من ظلمٍ وقمعٍ…، بذا، من السهل عليه التنظيرُ والتشهير من خارج محافل الاستبداد!.

إذ يعتبرون النقد تشهيراً وذمَّاً وتحقيراً لذواتهم العفيفة والنزيهة الطاهرة!.

وحين ينتقد كرديُّ من داخل الوطن السوري، مسلك وأداء هذه الأحزاب، بشيء من الحزم والصرامة واللاذعة، يستغربون ويستهجنون ذلك، ويتفننون في مباريات تلفيق التهم بحِّقه: “عميل، مدسوس، مدفوش، مرتزق، خائن…”، ووصف نقده: بالمهاترة والحرب الشعواء، والصبيانيَّة، ومعادة القوم وبني الجِلدة، والعومُ عكس التيَّار، بداعي استحصال الصيت والشهرة…الخ.

ولأنَّ مرضاة الناسِ غايةُ لا تُدرك، فأنَّ مرضاة الأحزاب الكرديَّة السوريَّة، هي من أسهل الغايات التي باتت تدرك.


مرضاة الأحزاب الكرديَّة، هي أقصر وأسهل السبل السالكة، وأكثرها تعبيداً، وخلوَّاً من الحُفر والوعورة.

ثمَّة من يفضِّل سلك هذا الطريق العريض، بتبريريه للخراب السياسي، وشرعنته، وعدم مساءلة ومجابهة ومواجهة مفاعيله ورموزه.

وهذا النَفَرُ من الكرد، ساسة ومثقفين، حين يقبلون الترافع والدفاع عن الخراب، بالوكالة عن مفاعليه، وبالأصالة عن أنفسهم، فهم يدافعون عن مصالح ومنافع ومناصب ونياشين وهميَّة، يخشون فقدانها.

ولا يسعون لإجراء عمليَّة إصلاح داخلي، جاد وجريء.

لأنَّ العطب والخراب والعطالة، باتت مترايسهم التي تضمن لهم الحظوة والرضا لدى هذه الأحزاب.
وثمَّة نفرٌ آخر من الكرد، ساسة ومثقفين، وأغلبهم مستقلُّون، يسلكون درب مرضاة الأحزاب الكرديَّة، بصمتهم عن خرابها، أو بالنقد الخجول لها، أو بالمناشدات والنداءات والاستجداءات لها، بأن تلتفت لمصلحة الشعب الكردي السوري وقضيته ومعاناته.

وهذه الفئة، متيقِّنة حقَّ اليقين، بأنها تنفخ في قربة مقطوعة، منذ 50 سنة.
ونفرٌ آخر، يشتم ويلعن هذا الخراب السياسي ومفاعليه، في جلساته الخاصَّة والعامَّة، بأقبح الألفاظ وأكثرها دونيَّة وبذاءة، وتراها تعتذر من هذه المفاعل جهراً، وتنثر المدائح والاحترامات و”التشكرات” للأحزاب الكرديَّة!؟.

ماذا يعني هذا؟!.

أليس شراكة في الخراب، وتواطؤ على معاناة الشعب الكردي في سورية؟!، وإرضاء لمضارب الخيم السياسيَّة، التي تظنُّ نفسها أحزاباً!؟.
منطق العلوم الإنسانيَّة والتطبيقيَّة، يقضي بالكفِّ عن معاودة تكرار التجربة الفاشلة، بنفس الصيغة.

وبل البحث الجاد عن صيغ أخرى مختلفة، وصولاً للنتائج المرجوَّة.

ويقال أن أديسون، حتَّى وصول لاكتشاف المصباح الكهربائي، أجرى 1000 تجربة.

وحين سُئل: “لقد استنزفت وقتاً، أخذ منك إجراء 999 تجربة.

فردَّ: هذا الوقت لم يذهب هدراً وسُدى.

إذ تعرَّفتُ على 999 عطل يمكن أن يصيب المصباح”.

مقصد القول: يبدو أن “الصبر والجَلَد” الموجود لدى شعبنا الكردي السوري، وصل به لإعادة التجربة السياسيَّة الفاشلة، بنفس الصيغة الفاشلة، لأكثر من 50 سنة، دون أن يفكِّر أو يجازف في التفكير، في محاولة تغيير صيغة التجربة، أو إصلاحها!.

وحين تسأل الشارع الكردي السوري: هل أنت راضٍ عن أداء أحزابك الكرديَّة؟.

يقول لك، دون تردد: لا.

وحين تسأل السياسي والمثقف الكردي السوري، الحزبي والمستقلّ، هل أنت راضٍ عن أداء الأحزاب الكرديَّة، سيأتيك الردُّ: لا.

والسؤال: لماذا إذاً، لا يعمل هؤلاء غير الراضين عن الأحزاب الكرديَّة السورية، لتغيير هذه الأحزاب، منذ 50 سنة، عملاً بقول شيكسبير: “إن لم تعجبك حياتك فغيّرها”؟!.
إذن، نحن أمام عدم رضا من الحال السياسيَّة الكرديَّة، طيلة 50 سنة، وعجزٍ وشللٍ تام عن القدرة على تغيير هذه الحالة، طيلة 50 سنة.

هذه النتيجة المؤسفة والمرعبة في آن، تشير إلى مدى استشراء العطب والخراب والعطالة والضعف والتلف في حياتنا الثقافيَّة والسياسيَّة الكرديَّة السوريَّة.
وبديهيٌّ أن عدم الرضا عن الحال السياسيَّة الكرديَّة في سورية، وانعدام القدرة على إصلاحها وتغييرها من الداخل، دفع قطاعات واسعة من الشعب الكردي السوري لتبنِّى الخيار الكردستاني الآتي من كردستان الشماليَّة، “حزب العمال الكردستاني”.

يعني، إن الخراب والعطب السياسي الكردي، والعجز عن الإصلاح والتغيير، عزز موقف الكردستاني، وساهم في انتشاره بين أبناء الشعب الكردي السوري، في فترة زمنيَّة قياسيَّة.

فضلاً عمَّا لمسه الشعب الكردي في سورية، من إخلاص وتضحية وتفاني ونكرات للذات لدى هذا الفصيل، وما كان يتمتَّع به من قدرة على التُأثير والتغيير، وتحويل الأقوال إلى أفعال.

لقد استطاع العمال الكردستاني، وحتَّى الآن، وعلى علله وأخطائه ونواقصه، جذب مئات الألوف من الكرد السوريين لنضاله.

ومن بين هؤلاء الكرد، عشرات الآلاف من محازبي الأحزاب الكرديَّة السوريَّة.

ولم تعرف الأحزاب الكرديَّة السوريَّة، أنه بعطبها وخرابها وإفلاسها، قد قدَّمت خدمة جليلة للعمال الكردستاني، الذي أعطى نموذجاً نضاليَّاً جديداً وفريداً، هزَّ كردستان، بأجزائها، وهزَّ الشرق الأوسط والعالم، ولمَّا يزل.

يعني، من يتباكى وبمنتهى البجاحة، على الشباب الكردي السوري، الذي استدرج للجبال والقتال دفاعاً عن قضيَّة “ليست قضيته”، لماذا لا يحمِّلون الأحزاب الكرديَّة الفاشلة مسؤوليَّة ذلك؟!.

فلو كانت هذه الأحزاب بخير، فهل كان كل هذا الكمّ من الشباب الكردي السوري متَّجهاً نحو خيارٍِ كردستاني آخر، يلبِّي طموحاته وتطلعاته، ويطلق طاقاته؟!.

حين تذكِّرهم بهذا، يقولون: يذمُّ أحزابنا، ويمدح “حزبه”!.

وحين تردُّ عن نفسك قبيح القول وشنيع التهم، بالحجَّة والدعوة للمصارحة، والإشارة إلى ما قد يجهله القارئ عنك، يقولون: يمدح نفسه، لأنه لم يجد من يمدحه!؟.

والحال هذه، يبدو أن اليباس في الذات الكرديَّة السوريَّة سياسيَّاً وثقافيَّاً، وصلت لمرحلة الاحتطاب، بمحاولة التواري عن حقيقتها، والعجز عن طرق التابوهات الوهميَّة سياسيَّة وثقافيَّاً.

فحين طرحت سؤال: لماذا لم يكتب شاعرنا الكبير جكرخوين قصيدة في الزعيم الرحال ملا مصطفى بارزاني؟ أو في ثورته؟، رغم أنه مدح كل ثورات العالم في أسيا وأفريقياً وأمريكا اللاتينيَّة؟!.

لم ألقَ جواباً!.

وحين ذكرت شيئاً عن نشأة أول تعبير سياسي كردي في سورية، “الحزب الديمقراطي الكردستاني في سورية” سنة 1957، وعلاقته بالدعم أو التغطية التي قدمها له أقطاب البعث كأكرم الحوارني وصلاح البيطار، والقومي العربي، كعفيف البزري، ودولة الوحدة السوريَّة _ المصريَّة وعبدالحميد السراج، بغية إحداث قلاقل في تركيا، لأنها كانت في حلف بغداد المناهض للسوفيت، أصدقاء البعثيين والناصريين.

وقد ذكرها الراحل ملا حسن كرد في إحدى مخطوطات كتبه، وذكرها السيد شوكت حنان في كتاب له، حسب ما أورد ليّ من قبل بعض الأصدقاء الكرد السوريين، من كوادر الحركة الحزبيَّة القدامى، لم يأتني من يقول: ما هذا التجنِّي، ويقدَّم دلائله وقرائنه الدامغة المفنِّدة لهذه الآراء.

وحين ذكرت في بعض مقالاتي، حادثتين عن تجربة الحزب الديمقراطي الكردي في سورية _ اليمين، حول برقيَّة أرسلها الحزب المذكور، مهنِّئاً النظام العراقي البائد على إطلاقه قانون الحكم الذاتي سنة 1974، وكلفة تلك البرقيَّة على هذا الحزب آنذاك.

كما ذكرت حادثة تواجد الأستاذ حميد درويش في بيروت، وما تردد وقتها عن تواصله مع السفارة العراقيَّة سنة 1974، بتنسيق من طالباني، وتقديم مجموعة من كوادر هذا الحزب استقالة جماعيَّة استنكاراً لسياسات قيادة الحزب سنة 1977.

وطالبت بعض المعاصرين لتلك الحقبة بالإدلاء بشاهدتهم حول هذه القضايا، فلم أتلقَّ ردَّاً، سوى من السيد أنور علي “أبو شورش” من كوباني، والذي يقيم حاليَّاً في مدريد.

وهي رسالة، بخطِّ يده، طواها على شهادته على تلك الحقبة، أضع فحواها في متناول القارئ العزيز حرفيَّاً، مع ضبط النص بالترقيم، شاكراً متابعته وموقفه وتحليّه بروح المسؤوليَّة الوطنيَّة والقوميَّة، وإرساله لهذه الشهادة الهامَّة.

وإليكم نصُّها:
(حين قرأت مقال الكاتب هوشنك أوسي، ومراجعتي لنفسي من عدة جوانب، وصدور القانون الجديد في سورية، الذي يمنع على الأكراد الاحتفالات إلا بقرار من وزير الداخلية، وإحالة مَن يرفع الأعلام الكردية على محكمة أمن الدولة السيئة الصيت، تحت بند الخيانة العظمى، واقتطاع جزء من الأراضي السورية، وقناعة مني أن القضية الكردية في غرب كردستان لابد أن تدخل في خانة العمل النضالي الفعلي الشاق، أورد ما يلي:
1 _ في أواسط السبعينات، حيث كنت أنتمي إلى الحزب الديمقراطي الكردي في سورية (اليمين)، وكنا نعمل بلزوم حل القضية الكردية لرفع الظلم والاضطهاد.

وكانت عملية الوحدة قد فشلت بسبب عدم جدية كلا الطرفين لعملية الوحدة “يقصد جناحي الحزب، اليمين واليسار”، وكذلك اللجان التي انبثقت عن المؤتمر الوطني، لم تكن على مستوى المسؤولية، ولهم غاياتهم التي ظهرت من خلال تأسيس حزب ثالث.

وحدثت أزمة بين كوادر الحزب اليميني، لوصول بعض الإشاعات من لبنان عن علاقات القيادة في بيروت.

وترسَّخت تلك الإشاعات عن علاقة قيادة الحزب بالسفارة العراقية، بعد سماعنا من إذاعة العراق بالذات، بالبرقية التي أرسلتها القيادة الكردية إلى القيادة العراقية، تهنئهم على الحكم الذاتي في شمال العراق.

وبين التأكيد والنفي، طالبنا الالتقاء بالقيادة لاستفسار عن الأوضاع.

فكانت حجتهم أن ننتظر مؤتمر الحزب الذي سينعقد عن قريب.

إلا أنه طال أكثر من عام.

وفي النهاية انعقد المؤتمر في مدينة حلب.

ولكن دون معرفة قيادة الحزب في عين العرب به.

وعلمنا فيما بعد أنه استدعوا إلى المؤتمر اثنين من شباب المنطقة من المؤيدين للحزب.

ولم يكونا حزبييَن.

وعند الاستفسار عن سبب ذلك، كانت حجتهم أن المؤتمر انعقد أثناء امتحانات الثانوية العامة.

وحرصاً على المستقبل الدراسي للشباب الحزبيين، لم تستدعيهم القيادة.
طبعاً، كانت ردة فعل منطقة عين العرب قوية.

فعقدنا اجتماعاً في منطقة عن العرب في تموز 1975.

وكل من حضر الاجتماع لا زالوا على قيد الحياة، باستثناء واحد منهم، قد وافته المنية.

وخلال ذلك الاجتماع، قدمنا استقالات جماعية.

ولكني سمعت أن أثنين من الذين كتبوا ذلك التقرير، وقدما استقالتهما، قد عادا لصفوف الحزب.
طبعاً، هذا غيض من فيض.

ولكن أريد ان أذكر أن البرقية قد أرسلت من قيادة الحزب الديمقراطي الكردي في سورية “اليمين”، إلى القيادة العراقية.

وكذلك موضوع علاقة قيادة الحزب بالسفارة العراقية كان موضع جدل في ذلك الوقت.
2 _ بعد تلك الاستقالات الجماعية واعتكاف مئات الكوادر الحزبية عن العمل السياسي، والتزامهم بيوتهم.

وبعد الانتكاسة التي حصلت لثورة الجنوب “يقصد جنوب كردستان” سنة 1975، بدأت الحركة بين تلك الكوادر، وبدأت النقاشات، وأنه لا بد من بديل للأحزاب التي كانت على الساحة.

انعقد اجتماع موسَّع في مدينة حلب، ضم الكوادر القديمة من كل المناطق الكردية في سورية، بالإضافة إلى دمشق وحلب.

وتأسست لجان للعمل على شكل جديد للعمل السياسي، دون تحديد أي اسم، أو ما هو الشكل الذي سيكون.

من منطقة عين العرب، تم اختيار 4 أشخاص هم: السيد صالح نعسان “كيلو”، والأستاذ الشهيد عثمان سليمان، وحجي بوزان، وأنور علي.

وعدنا للمنطقة، وكلنا حيوية.

وبدأنا بعقد الندوات والاجتماعات الجماهيرية في المنطقة.

وكان الكل جاهزاً للعمل مرة أخرى، إن كان هنالك جدية.

واستطيع القول أننا دخلنا معظم البيوت للبدء بالعمل.

ولكن جاء موعد انعقاد الاجتماع الثاني، إلا أنه لم يحصل.

وانتظرنا طويلاً دون جدوى.

وعلمنا فيما بعد بأن حميد حاج درويش قد أرشى بعضهم بعضوية اللجنة المركزية.

هذا ما قيل عن إبراهيم عارف من عفرين مثلاً.

وكذلك كان للسيد جلال طالباني دوراً سلبياً في تشتيت تلك البذرة الفتية.
ولكم كل الاحترام
أنور علي مدريد).
يتضح من هذه الشهادة، وعطفاً على ما تمَّ ذكره أعلاه، بأن حالة الفتن والدسائس والخلافات والطعن والفساد في الحركة الحزبيَّة الكرديَّة السوريَّة، لَهي عريقة ومتأصِّلة، وتعود لعقود خلت.

وإن الحاضر المزري لهذه الحركة، هو انعكاس للماضي المزري لها.

وإن من أفسدها، لا ولن يعوَّل عليه في إصلاحها.

وإن التطاحن والتشاحن والتناحر والانشقاق بين أوصال هذه الحركة البالية، بات من أبرز معالم وتقاليد الحراك السياسي الكردي.

وأن هذه الأحزاب لم تعطِ يوماً أذناً صاغية لمناشدات ونداءات واستغاثات الوطنيين الكرد السوريين، الداعية للمِّ الشمل والاتفاق، وإعلان الطلاق عن ثقافة الشقاق، ولن تكترث بأيّ نداء أو مناشدة لاحقة، قد تصدر من هنا وهناك.

وسط هذا الخراب، لا بديل عن الإصلاح، الذي ينبغي على الشعب الكردي السوري البحث الجاد عنه.

وقد يكون هذا الإصلاح، مدخلاً لخيار جديد، يلزم قيادات هذه الأحزاب على التنحِّي.

وإن بقي هذا الشعب ونخبه عاجزين عن خلق البديل والخيار الجديد، واختصر خياراتهم في السائد المزري والمخزي، عملاً بمبدأ “الجود بالموجود”، فليس من المجازفة القول: حلالٌ ما يُمارس في حقِّنا من قمع واضطهاد وفساد واستبداد على كافة الصعد.
 
لقد كان أكراد تركيا، في حالة قطيعة مع الحراك السياسي الفاعل والنشط، لنصف قرن، من 1938 ولغاية 1984.

ورغم حالة القمع والصهر القومي والمجازر الفظيعة، إلا أن هذا الشعب، أنجب خياراً جديداً، خرج من رحم الطلبة المثقَّفة، وقاد ثورة وكفاح عسكري، لا زال مستمراً، وهزَّ أركان تركة آل عثمان وآل طوران وأتاتورك، حتى بعد اعتقال الزعيم الكردي أوجلان.

فما حالنا نحن أكراد سورية، ومنذ نصف قرن من النشاط والحراك السياسي، لم ننجز سوى الخراب والتلف والشقاق.

وأقصد هنا، الاستفادة من تجربة حزب العمال، وعدم اتخاذها بديلاً.

وهكذا كلام، معلوم أنه لن يرضي بعض كتبة الأحزاب الكرديَّة ومحازبيها.

المهم في الأمر، أن الشعب الكردي، قد بات متقيناً من فقدان التجربة السياسيَّة الكرديَّة لثقة الشارع الكردي.

وقد أثبتت انتفاضة 12 آذار هذا.

فضلاً عن حالة الضمور والانكماش التي تشهدها هذه الأحزاب، وانعدام جماهيريتها، لدرجة باتت أخيلة أو ظلال أحزاب، أو شلل سياسيَّة، لا أكثر، ولا أقلّ.

إن لم يستطع الشعب الكردي السوري إنتاج وإنضاج البديل، الذي قد يكون في البداية سيّئاً، فعلى هذا الشعب السلام.

كل معاناة وجراحات الشعب الكردي السوري، وحجم الاضطهاد والقمع الممارس بحقِّه، والذي وصل حتى تدنيس قبور شهدائه، لم تشفع له لدى الأحزاب الكرديَّة كي تجتمع على كلمة سواء، ورمي الخلافات الفارغة جانباً!.

وربما ينتظر الشعب الكردي السوري معجزة من السماء، أو من خارج الحدود، حتَّى تجبر هذه الأحزاب على الالتفاف حول موقف وكلمة واحدة، كما حصل من أحزاب كردستان العراق.

لكن، هذا لن يتحقق.

فقد ولَّى زمن المعجزات والتعويل على الخارج.

“بافي آزاد” لم ولن يفعل شيئاً لأكراد سورية، كما كان ولا زال يتوَّهم البعض.

وكفانا نظراً لما وراء الحدود، أو في انتظار المعجزات.

ورغم حجم الخراب والفساد، يبقى الأمل حاضراً.

فـ”ما أضيق الحياة ولولا فسحة الأملِ”.

لكن، الأمل ينبغي أن يقترن بالعمل.

سئمنا أقولاً، وبتنا بحاجة للأفعال.

والقول الحقُّ هو مدخلٌ للفعل الحقَّ.

وقلتها سابقاً: لن يكفي الحقُّ بأن يكون وراءه مطالب، حتَّى لا يضيع.

وجهلنا، وتراخينا، هو سيكون سبب ضياع حقَّنا، نحن الكرد السوريون.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…