ماجد ع محمد
“ما أظلم من يعطيك من جيبه ليأخذ من قلبك”
جبران خليل جبران
أحياناً لا يحتاج الواحد منا إلى البحث في أسباب حدثٍ معين والتفكير بما وراء وخلفيات موقفٍ ما صادر عن أحدهم حتى يستنفر ويحضِّر لها الأجوبة، طالما أن تلك الأجوبة كانت جاهزة ولا تحتاج مننا الكثير من الاشتغال عليها، إنما يكفي أن يكون لنا القدرة على المقاربة والاتيان بجوابٍ قيل في زمنٍ قديم رداً على سؤالٍ مماثل للاستفسار الجديد، ليس من باب الكسل إنما لأنه ليس من الحكمة اختراع شيء لقضاء حاجة وقتية بينما لدينا المنتج نفسه متوفر ولا يُطلب منا سوى بعض الجمع وإعادة الترتيب، بما أن الجواب السابق مناسب تماماً للسؤال المطروح راهناً، ولا يحتاج المرء لعناء البحث والتنقيب لاختراع الجواب، إنما يكفي القص واللصق باسلوب الكولاج الذي يجمع قصاصات سابقة لتكوين عمل فني جديد وبسرعة مطلوبة، وذلك بدلاً من إطالة التفكير باختراع الأجوبة لأسئلة تتكرر بشكلٍ يومي.
ومن كل بد أن حسنة الاستعانة بالأمثلة الجاهزة تعود لعملية تذكر الوقائع واستحضار المواقف، مع عدم النسيان بأن الإنسان يتذكر فقط مضمون أو فحوى القصص أو الأخبار التي سمع بها وفق الباحث البريطاني في علم النفس التجريبي، فريدريك بارتليت، وبالتالي فإنه لا يتذكر كل التفاصيل المتعلقة بالواقعة أو القصة، ما يعنى بأنه لكي يسترجع تفاصيل أي قصة فلربما كان عليه الاستعانة بذاكرة عدة أشخاص حتى يكمِّل كل واحد منهم الجزء الناقص من القصة، وهذه العملية قد تأخذ وقتاً طويلاً جداً، ثم من أين للمرء جمع كل الملمين بتفاصيل واقعةٍ ما؟ في الوقت الذي فرّقت فيه الحروب شمل معظمهم، وفي هذه الحالة يبقى المكتوب هو أهم مرجعٍ يمكن الاعتماد عليه.
ومن فضائل عملية التذكر أني بعد رؤية منشورٍ على صفحة أحد النشطاء السوريين وهو يحاول من خلال ذلك المكتوبِ أن يروّج لمجموعة من الفاسدين، الذين استولوا على بيوت وممتلكات أهالي ناحية شيخ الحديد وقراها في منطقة عفرين، هذا بعد أن قامت الجهة التي توظفهم وتسوقهم بإطلاق يدهم في المنطقة ليعيثوا فيها الفساد ويسلبوا وينهبوا ما شاؤوا من أملاك المواطنين الكرد بدون أي حسيب أو رقيب على ممارساتهم منذ شهر آذار 2018 وإلى تاريخ كتابة هذه المادة؛ وحيث جاء في الإعلان الذي نشره ذلك الناشط في 22 تشرين الثاني 2020 “أنه بتوجيهات من قائد فرقة السلطان سليمان شاه محمد الجاسم أبو عمشة، قام ضباط الفرقة وعناصرها بتوزيع مادة الطحين على الفقراء والمحتاجين في ناحية شيخ الحديد وتوزيع لباس شتوي للأطفال (جواكيت وأحذية)” فبعد قراءة المنشور الدعائي الرخيص تذكرت على الفور قصة اللص والموظف الغلبان، تلك القصة المنشورة بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي والتي مضمونها أنه في يوم ما “قبض موظف مرتبه الشهري ثمّ ركب الباص المزدحم ليصل إلى بيته ويفرّح أطفاله بما قد يجلبه لهم بفضل الراتب، وصودف أن كان هناك لصّ يراقب ذلك الموظف، وبعد أن صعد الموظف إلى الباص لحقه اللص ووقف خلفه، ولم يمضي الكثير من الوقت حتى قام بسرقة الراتب من جيبه، وعندما طلب الجابي ـ معاون السائق ـ ثمن التذكرة من الركاب، فبعد البحث المضني لم يجد الموظّف في جيبه شيئاً ليدفعه للجابي، وهنا احمرّ وجهه خجلاً، وعجز لسانه عن الكلام، فقال له الجابي مُستهزئاً: (عيب عليك.. مسوي حالك محترم كلّ يوم نشوف من هالنمرة كثير!) عندها فما كان من اللصّ الذي ضربته النخوة بعد سماعه ذلك الحوار، إلّا أن يُظهر للركاب كرمه، وقال على الفور للجابي: أخي أجرة الأستاذ عليي فابتسم الموظف، وقال للحرامي: الله يبارك فيك ويكتر من أمثالك ياشهم، وراح بعض الركاب يمدحون الحرامي، ويثنون على أخلاقه العالية ويدعون له ولأمثاله بأن يبارك الله فيه ويزيد في أعداد أمثاله”.
ولا شك أن الأكثر قبحاً في القصة هو ليس مديح الركاب للحرامي ودعائهم له بدوام الصحة والعافية وبأن يكثر الله من السراق من أمثاله، وذلك باعتبار أن الركاب قد تم خداعهم من قِبل الحرامي الذي مثّل أماهم بشكل جيّد، وقدم نفسه على أساس أنه صاحب نخوة وواجب، وقلبه على الناس الذين للتوِ كان قد سرق ثمن نبضات قلوبهم عن شهرٍ كامل في دقائق معدودات، إنما الأقبح هو دور هذا الناشط وأمثاله العارفين بكنه وخلفية السارق والفاسد من رأسه حتى قدميه، وحيث أنهم يساهمون في توليد اللصوص ويعملون ليل نهار على إنتاج وإخراج المزيد من اللصوص وقطاع الطرق، عبر شراء ذممهم بمبالغ تافهة مقابل بيع ضمائرهم والترويج للمفسدين في الأرض.
ومن كل بد أن هكذا نماذج من مدّعي الثورة على النظام السوري يؤكدون للعالم بأن الحرية التي يبغونها هي حرية الفساد، حرية الفلتان، حرية الفوضى الأمنية وحرية أن يكونوا هم الطغمة الفاسدة عوضاً عن طاقم النظام، وليس هدفهم الحرية والكرامة التي خرج من أجلها الشعب السوري في 2011، وحقيقة أن إعادة نفس سيستم البعث الفاسد في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، يذكرنا بما قاله الشاعر التشيلي نيكانور بارا أي: “أؤمن بعالمٍ آخر، تتحقق فيه كل المُثُل، الصداقة، المساواة، الإخاء، باستثناء الحرية، فتلك لا يمكن بلوغها في أي مكان، نحن عبيد بالطبيعة”، ولو لم يكن الأمر كذلك فكيف لمن يدّعي محاربة نظام الفساد والإجرام هناك بأن يمدح الفاسدين والمجرمين هنا، وكيف لمن يدعو إلى التحرر من أجهزة المخابرات هناك، بالمقابل يصبح عبداً مأموراً لدى جهات مخابراتية أخرى في مكانٍ آخر؟.
على كل حال فبعد الانتهاء من مقاربة موضوع اللصوص والفاسدين والمروجين لهم، أعود إلى موضوع تذكر القصص واستحضارها وضرورة ذكر قائلها من باب الإنصاف، إذ من محاسن التذكر أني استطعت استرجاع فحوى القصة التي قرأتها من قبل في مكان ما، وأراحتني قصة اللص مِن هم البحث عن الجواب الشافي لمن يروج لأولئك اللصوص ولكل من يتورط في مديح النهابين والمفسدين مثله، ولكن حيال المثلبة المتعلقة بعدم القدرة على استدعاء القصة كما هي أو الحصول على المعلومات بتمامها وكمالها من مستوعات الذاكرة ومخازنها، فلا إشكال هنا مع التفاصيل باعتبار أن النص الذي استعنا به مدوّن على الصفحات الزرقاء، وسهلٌ العودة إليه، والتأكد مِن بعض الأجزاء أو التفاصيل المهمة فيه، إنما المثلبة هي في ظاهرة عدم نشر المصادر في الكثير من المواد المنشورة على الفيس بوك والشبكة العنكبوتية، إذ حيال قصة اللص والموظف قمت بعملية البحث لأعرف مَن هو صاحبها فظهر لديَ عشرات الأشخاص الذين نشروها بدون أن يشير أي واحد منهم إلى المصدر، وأغلبهم اكتفى بكتابة كلمة “منقول” في نهاية القصة، وعدا الصفحات الشخصية فبعضهم نشرها في مواقع الكترونية، والأغرب أن واحدهم ولكي ليوحي للقارئ بأن القصة من منجمه الخاص وبنات خياله كتب اسمه فوق النص هكذا بقلم: فلان الفلاني!!.
وفي الختام بودنا أن نذكر بأنه إضافة إلى مداحي اللصوص ومروجي الفساد في عموم بلادنا، فإن هذه المثلبة الأخيرة المتعلقة بالنسخ واللصق بدون ذكر المصدر والتي تقترب نوعاً من اللصوصية الكتابية تزعجني كشخص إلى درجة أنه حين يكون لديَ مصدر معلوم فحتى ولو كان المطلوب منه ضعيف الحجة فقد أفضّله على المصدر المجهول رغم قوة حجته، وذلك حتى لا أكون أنا الآخر أشبه بأولئك اللصوصِ المتطاولين على ممتلكات الغير، أو ممن هضم حق مؤلفه من خلال نسخ ولصق ونشر المادة بدون الإشارة إلى أصلها المجتمعي أو صاحبها كفرد من هذا المجتمع أو ذاك.