ماجد ع محمد
بعد أن غزا فايروس كورونا عموم تركيا واسطنبول على وجه الخصوص، ألزمنا أنفسنا نحن الأقارب والمعارف في الحارة التي نقيم فيها بالتباعد الطوعي، وكان القرار بالإجماع هو ألا نزور بعضنا طوال فترة الحظر، وبقينا نتواصل عبر الواتس أب والتلفون حوالي ثلاثة أشهر، خوفاً من أن ينقل أيّ واحد منا الفايروس إلى الأقارب والمعارف، ولكن مع كل هذه السبل الاحترازية كنا بشيء وصرنا بشيء آخر، إذ أن حرصنا على بعضنا، وخوفنا من أن نكون من متسببي إصابة الآخرين بالفايروس، وحفاظاً على الصحة والسلامة الشخصية للأقارب، تفاجأنا بأن بعض المعارف من خارج الحارة منزعجين جداً من تصرفنا ذاك، لأننا حسب رأيهم كشفنا عن بُخلنا ولا نستقبل الضيوف بحجة كورونا، وبالتالي والقولُ لهم بأن علة كورونا ليست أكثر من ذريعة نسوقها لئلا نجعل من بيوتنا مضافات لبعض العاطلين عن العمل بسبب الفايروس نفسه، بما أن بعض الورشات توقف إنتاجها حينها من وراء انتشار ذلك الفايروس اللعين.
وعندما تفاجأنا بهذه المواقف التي لم تكن على البال والخاطر في أوج المحنة، أدركنا بأن قصة أن يكون المرء ناقلاً للمرض أو أن يتسبب الواحد منا بموت أحدهم وخاصة كبار السن الذين لا قدرة لأجسامهم على مقاومة الفايروس، ربما لم تخطر على بال تلك الجوقة المنزعجة جداً من إغلاق أبواب المضافات المنزلية، مَن يدري ربما كان موضوع التفكير بأمن وسلامة الآخر لديهم دون مرامي وأهداف الزيارات؟ وعلى الأرجح لم يخطر على بالهم قط كنه المشاعر التي ستنتابهم عند معرفتهم بأن وفاة أحدهم كان بسبب زيارتهم!.
وبما أن الإنسان إلى تاريخ اليوم منذ ظهور الفايروس حسب الكثير من التقارير هو الناقل الأساسي للمرض إلى أقرانه البشر، فمن الطبيعي إذن أن يكون المرء حذراً في تواصله مع الآخرين، غرباء كانوا أم قريبين منه، وحيث أن التقديرات وفق ما ذكر موقع “الحرة” في تقريرٍ نشر في 30 آذار 2020 تشير إلى أن الشخص الواحد المصاب بفيروس كورونا، يمكن أن يتسبب بالعدوى لشخصين إلى ثلاثة أشخاص في دورة واحدة، إلاّ أن السيناريو الأسوأ لعدد الإصابات والصادم، ينجم عن تكرار دورات العدوى، وبحسب اختصاصيين، فإن الشخص الواحد بمقدوره أن يتسبب بأكثر من 88 ألف شخص في غضون 10 دورات فقط، وفي تقريرٍ نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، ذكر كارل زيمر أنه في أعقاب حفل عيد ميلاد في تكساس في 30 أيار، أفادت التقارير بأن شخصاً واحداً نقل عدوى فيروس كورونا إلى 17 فرد من أفراد أسرته.
وبالرغم من كل المعطيات التي تشير إلى أن الفرد الواحد إن كان مصاباً قادر على أن يكون بؤرة مرضية متنقلة، أو عبارة عن صندوق ناقل للفيروس إن لم يحجر نفسه أو يلتزم بقواعد التباعد الاجتماعي، فهناك إهمال واضح ولامبالاة مقيته لدى قسم منا، إضافةً إلى تأخر صحوة الضمير لدى بعضنا الآخر، علماً أن أي واحد منا إن حدّق في الخارطة الاجتماعية والجغرافيا لانتشار المرض، قد يكتشف بأن العديد من الأشخاص حولنا كانوا السبب المباشر برحيل ذويهم، وذلك بعد أن جلبوا الفايروس من الخارج وأودعوه في حجر كبار السن في منازلهم، ولا نود هنا ذكر أسماء أحد من الذين ساهموا بتعجيل موت أبائهم أو أمهاتهم أو اخوتهم أو أقربائم، إنما كثيراً ما يخطر على بالي سؤال ماهية مشاعرهم تجاه ما تسببوا به أو اقترفوه بحق قناديل بيوتهم أو أعمدة منازلهم؟.
ولكن بما أن الأسف إلى الآن لم يزر بعض هؤلاء المشار إليهم تلميحاً من دون تحديدهم، ولم يقض مضاجعهم الأسى على ما قاموا به سهواً أو عمداً، بودي أن أذكرهم وأذكر مَن في حكمهم بالاحساس العالي لدى إحداهن بالندم والحزن على المعتدي فور إعلان موته مع أنها كانت سابقاً ضحية ذلك الميت، وذلك ليقارن ناقل الفايروس نفسه وحالته حيال أهله الطيبين الذين كان وراء رحيلهم السريع، مع هواجس وحالة تلك الأديبة التي غمرتها الكآبة لشعورها بأنها كانت وراء مقتل من اغتصبها في السابق؛ إذ يقال بأن الشاعرة الأمريكية من أصل زنجي مارغريت آن جونسون المعروفة باسم مايا آنجلو، أصيبت بالخرس لمدة تقارب الخمس سنوات، وذلك لإحساسها الدائم بالندم بما أنها حسب تصورها بأنها مَن تسببت بمقتل المعتدي عليها، وحيث داهمها الحزن الطويل بعد حادثة موت المعتدي، بل وطالت موجة الأسف والكآبة في ديارها لشعورها المتواصل بالذنب وتأنيب الضمير، بكونها أخبرت أخاها وأهلها عما جرى لها يوم كانت في سن الثامنة، وحزنها استمر لسنوات ليس بسبب تعرضها للاغتصاب وحسب، إنما نتيجة تفكيرها الدائم بأنها كانت وراء مقتل الذي اغتصبها، مغتصبها الذي لم يكن سوى عشيق والدتها، فسيطرت عليها الكآبة وغدت بكماء من وراء الحادث، علماً بأن الرجل لم يكن بريئاً قط، إنما كان قد ثبت إدانته بما اقترفه، وسجن بسبب اغتصابه للفتاة الصغيرة سنة واحدة، ولكنه بعد خروجه من السجن بأربعة أيام عُثر عليه مقتولاً؛ فتصوروا موقف ضحية يتفطر قلبها حزناً على مقتل شخص ٍعدواني، غرائزي، معتدي ومغتصب، شخصٍ تسوقه الأهواء والشهوة سوق الدواب، شخص دمّر طفولتها ومع ذلك فوخزات ضميرها كانت حادة جداً حيال الواقعة، وقارنوا موقفها ذاك بموقف الذي كان السبب المباشر برحيل أعز وأطيب وأفضل الناس بالنسبة له!.
وحقيقة كلما أرى مَن يستخف بالفايروس أو ينكره أو لا يعترف به رغم استنفار العالم من فوقه ومن تحته، من ورائه ومن أمامه، أو يكون من أبرز ناقليه للغير ولا يعلن عن أسفه عما بدر منه، أقارنه على الفور بالشاعرة الأمريكية التي حزنت على مقتل من قام باغتصابها، وأقول في سري يا ترى هؤلاء الذين كانوا وراء موت أبائهم أو أمهاتهم أو أحد أقربائهم أو أحبائهم بسبب نقل العدوى إليهم، بماذا شعروا عندما علموا بأنهم كانوا السلك الناقل للموت؟ ماذا تصرفوا يوم عرفوا بأنهم كانوا بمثابة السيارة التي حملت عزرائيل إلى المنزل؟ وما الذي ينتابهم كلما لاح طيف الراحل أو الراحلة أمامهم؟.