انتخابات الأرض.. ترامب يجمع الخصوم ويفرق الأصدقاء

د. ولات ح محمد
 ما يميز الانتخابات الأمريكية عن مثيلاتها في كل أرجاء العالم أن صخبها الإعلامي الواسع والمستمر والمحتدم لا يقتصر نطاق صداه على الأمريكيين أصحاب الشأن وحدهم، بل يشمل العالم بأسره. لكن الأمر لا يتوقف على الجانب الإعلامي، بل يبدو الأمر في العديد من مناطق العالم وكأنه استحقاق محلي داخلي، إذ يجد سكان الأرض أنفسهم منشغلين (شاؤوا أم أبوا) بتلك الانتخابات ومعنيين بها منقسمين بين الميل لهذا المرشح أو ذاك. المثير أنه لا يكتفي كل قسم بدور المتابع المتفرج والمشجع والمتعاطف مع أحد المرشحين، بل يعمل ما يستطيع (ولو إعلامياً) لإنجاحه وإسقاط الآخر. هذا الانقسام يتسم عادة بالوضوح فيعرف كل طرف مع من تكون مصلحته، غير أنه في هذه المرة أفرز مواقف بدت متناقضة إلى حد أنها جمعت خصوماً تقليديين حول المرشح الرئاسي وفرقت أصدقاء حميمين بسبب المرشح ذاته.
 إيران على رأس الدول التي كانت تنتظر بفارغ الصبر خسارة ترامب ومجيء أي رئيس آخر قد يفتح أمامها نافذة أمل للتخلص من العقوبات المفروضة من الرئيس الحالي والموعودة بالمزيد. في المقابل تماماً كانت دول الخليج وعلى رأسها السعودية ومعها مصر تأمل في استمرار ترامب في الحكم، ليس فقط لإبقاء إيران ضعيفة وتحت الضغط، بل ربما أيضاً خوفاً من فتح الديمقراطيين المجال أمام جماعة الإخوان من جديد في المنطقة والعالم كما فعل أوباما الذي كان بايدن نائباً له. هذا الانقسام تقليدي وطبيعي ومنطقي، ولكن المفارقة تكمن في موقف أردوغان الذي كان من المفترض أن يلتقي موقفه مع رغبة الحليف الإيراني ويتعارض مع موقفي الخصمين السعودي والمصري من الرئيس الأمريكي المرغوب به 
    أردوغان على الرغم من خلافه العميق مع كل من السعودية والإمارات ومصر وقربه من إيران في السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من أنه يُعتبر الداعم الأكبر للإخوان المسلمين في المنطقة والعالم (وهذا هو سبب خلافه مع تلك الدول) فإنه وضع كل ذلك خلف ظهره وانضم لخصومه في دعم ترامب، لأنه نظر إلى المعادلة من زاوية نفعية شخصية بحت؛ فأردوغان الطامع في البقاء في السلطة يعلم أن فوز بايدن يعني فقدانه امتياز دعم ترامب الذي كانت تربطه به علاقة شخصية ومصلحية ساعدته في مشروعه التوسعي، إذ حصل منه على موافقة عبر التليفون باحتلال مدينتين من الشمال السوري. أضف إلى ذلك أن بايدن توعد قبل شهور بدعم المعارضة التركية وإسقاط أردوغان في حال فوزه بالرئاسة. ولهذا لم يجد أردوغان غضاضة في أن يقف في الجانب الذي يقف فيه خصومه من الرئاسة الأمريكية، ما دام ذلك قد يساعده على البقاء في الحكم. أما معارضته في المقابل فقد رحبت بفوز بايدن أيما ترحيب.
    التناقض الآخر ظهر بوضوح في مواقف دول التحالف الثلاثي الروسي الإيراني التركي؛ فعلى الرغم من أن ما يجمع أردوغان وخامنئي في السنوات الأخيرة أكثر مما يفرقهما فإن موقعهما من ترامب فرق بينهما ووضعهما على طرفي نقيض: الأول رأى في بقاء الرئيس بقاءه، بينما رأى الآخر في بقائه فناءه. أما روسيا ثالثة الأثافي فكانت تأمل مثل حليفتها تركيا في بقاء ترامب لأربع سنوات جديدة، وذلك بخلاف رغبة “الحليفة” الأخرى إيران. ولهذا لم يقم كل من أردوغان وبوتين حتى الآن بتهنئة بايدن بحجة أنهما ينتظران صدور النتائج الرسمية، بينما قام نوري المالكي بتهنئته نيابة عن إيران، بخلاف القوى العراقية الأخرى التي كانت تتمنى استمرار ترامب للحد من تمادي إيران. 
    إعلامياً كان موقف قناة الجزيرة لافتاً في هذا الإطار، إذ وقفت بوضوح وبقوة ضد ترامب ومع بايدن. وإذا كان هذا ينسجم مع موقف قطر وإيران والإخوان فإنه كان على النقيض من موقف صديقهم الأكبر وداعم الإخوان أردوغان. وهذا يشير من جديد إلى أن أردوغان هو الذي خرج عن السرب وعن الموقف الطبيعي المفترض لمشروعه الآيديولوجي واختار موقفاً انتهازياً يفيده على الصعيد الشخصي فقط. وهذا ما جعل يقف على النقيض من مواقف حلفائه.
    من جهتهم بدا موقف الكورد من الانتخابات الأمريكية أكثر موحداً ومنسجماً مع تطلعاتهم؛ فعلى الرغم من الخلافات الكثيرة التي تفرق بين ساستهم، فإنهم اجتمعوا على عدم رغبتهم في رؤية ترامب لأربع سنوات أخرى في البيت الأبيض. ذلك ليس لأنهم يظنون أن بايدن سيبني لهم كوردستان، بل لأنهم يدركون أنهم بخلاف ذلك سيعيشون أربع سنوات أخرى من القلق والخوف والترقب تحت رحمة تقلبات ترامب ومزاجيته ارتجاليته التي أفقدتهم ثلاث مدن نزعها من حلفائه وسلمها لخصومه: اثنتان منها بإذن صريح منه لأردوغان عبر مكالمة تلفونية، والأخرى بإذن خفي سمح به لإيران “عدوته!!” وميليشياتها بالتقدم لاحتلال المدينة مكتفياً بمتابعة المشهد.
     هي انتخابات الأرض أو “كلاسيكو الأرض” السياسي، ليس فقط لأن العالم بأسره مشغول بها وبمتابعتها إعلامياً، بل لأن عليها يتوقف مصير العديد من قضايا العالم شئنا أم أبينا، ولأن هناك من الرؤساء والحكومات من يتحسس كرسيه إذا فاز هذا المرشح وهناك من يطمع في ذلك الكرسي إذا فاز المرشح الآخر. هذه الحسابات السياسية والاقتصادية والأطماع الذاتية في السلطة هي التي قد تباعد بين حلفاء وتقارب بين خصوم في مواقفهم من الرئيس الأمريكي المأمول. ويمكن للمرء أن يتصور ما يترتب على كل ذلك من مصائر الشعوب والحكومات وحساباتها الداخلية سلباً أو إيجاباً. 
   هي انتخابات الأرض التي يتابعها العالم كله (صغيره وكبيره)، مضطراً لا مختاراً، كي يضبط دوزان سياساته على إيقاع نتائجها. وإذا كان كل طرف يميل قلباً أو قالباً إلى هذا المرشح أو ذاك متوسماً فيه ما يلبي طموحه، فإن الكورد ليسوا استثناء من ذلك. وإذا كان أصحاب الدول والممالك والإمبراطوريات يفعلون هذا مدفوعين بقلق على أنفسهم أو بطمع في سلطة، فإن الكورد أحوج من غيرهم إلى ذلك وهم الذين لا يملكون من أمرهم ما يدفعون به شر المتربصين بهم ولا ما يكفيهم عون الآخر أو حمايته لهم في مواجهة القادم المجهول. 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…