د. ولات ح محمد
ماذا يعني أن يكون الفنان أكثر من مجرد فنان؟. قد يكون السؤال مستفزاً بدرجة ما، ولكنه في الآن ذاته قد يقودنا إلى معرفة من يكون سعيد يوسف؟. ما يعرفه الجمهور أن سعيد يوسف ملحن ومغنٍّ وعازف بزق بارع وأنه أبدع في كل تلك الفروع وجمع بينها ليقدم على مدى أكثر من نصف قرن الكثير الكثير للأغنية الكوردية، فماذا بعد؟
في مجال التلحين برع سعيد يوسف وبرز اسمه بوصفه ملحناً متميزاً بالتنويع وسرعة البديهة وغزارة الإنتاج. وإلى جانب كونه مغنياً وملحناً يعد يوسف شاعراً غنائياً من الدرجة الأولى وله دواوين عدة غير مطبوعة حتى الآن كما أظن.
ومما يتميز به فن سعيد يوسف في هذا المقام هو أن كلمات أغانيه كلها من شعره هو؛ ففي حوار طويل أجريته معه قبل أكثر من عقد ونصف (نشرتْ قسماً منه جريدة خليجية آنذاك)، وفي سياق جوابه عن سؤال حول رأيه في كلمات الأغنية الكوردية في ذلك الوقت قال إن كل أغانيه من كلماته هو، وإنه لم يلحن لأي شاعر ما عدا قصيدة وحيدة لجكرخوين لحنها وغناها في بداياته، وهي أغنية (gava seher rabe ji xew). وأضاف في ذلك الحوار أن معاني قصائده المغناة ليست عشوائية اعتباطية، بل تستند إلى قصة أو حكاية أو موضوع واقعي.
سعيد يوسف توج ثالوث الشاعر والملحن والمغني بعزف بارع على آلة البزق عنوانه الوحيد: المهارة والإمتاع والإدهاش. وفي النتيجة، سعيد يوسف ليس مجرد شاعر أنيق أو مغن عاشق أو ملحن مبدع أو عازف ماهر، بل هو كل ذلك، بل هو أكثر من ذلك؛ فعندما تجتمع كل هذه الإبداعات في شخص واحد وتتمازج في مختبره الفني وعلى مدى زمني يمتد لأكثر من نصف قرن يصبح ذلك المبدع بالتأكيد أكثر مما يعنيه كل جانب من تلك الجوانب على حدة، أي إنه لن يكون مجرد فنان.
في مجال العزف كثيرون عزفوا ويعزفون بمهارة على آلة موسيقية ما، لكن القليل منهم ارتبط اسمه بالآلة التي لعب أو يلعب عليها. كثيرون ـ على نحو أكثر تحديداً ـ مارسوا العزف على آلة البزق، ولكن سعيد يوسف هو الذي تمكن من إبراز جمالها وأناقتها وعذوبة صوتها وأسهم في انتشارها حتى ارتبط اسمه باسمها كما لم يرتبط اسم عازف باسم آلة من قبل في كل المنطقة. وصار بذلك سعيد يوسف والبزق صنوين، فما إن يُذكر أحدهما حتى يكون الآخر حاضراً في الحديث والنقاش بالضرورة. وأظن أن الوضع سيبقى على ما هو عليه لأجيال قادمة، ليس لأنه لن يكون هناك عازفون آخرون، بل لأن سعيد يوسف سيبقى نسخة وحيدة على أكثر من صعيد غير قابلة للنسخ، كما هي حالة كل عمالقة الفن الذين صاروا ظواهر في عصورهم ومجتمعاتهم، أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهم. وهذا أحد وجوه كون سعيد يوسف أكثر من مجرد فنان.
سعيد يوسف أكثر من مجرد فنان ـ كذلك ـ لأن إرثه الإبداعي المديد والضخم والمتنوع ليس مجرد أغان وحسب، بل يعد جزءاً مهماً من تاريخ الفن الكوردي الحديث. لذلك لن يبقى فن سعيد يوسف فقط حاضراً في أذهان الناس وفي وجداناتهم وعلى ألسنتهم، بل سيصبح لاحقاً أكثر حضوراً في أحاديث الفن والإبداع الكورديين لأن منجزه الفني المتميز بالتكامل سيكون ـ من جهة ـ أحد أعمدة تاريخ الفن الكوردي الحديث عند من سوف يتصدى يوماً ما لدراسته أو تأريخه، ولأنه كذلك يشغل جزءاً مهماً من الذاكرة الغنائية الشعبية الكوردية الناشطة في المجالين الشفاهي والسمعي من جهة ثانية.
ترجّلتْ أنامل سعيد يوسف عن صهوة الوتر؟ نعم. وضع الفنان المبدع نقطة على سطر الإبداع؟ نعم. لن يكتب الشاعر أو يلحن الفنان أو يغني المطرب أو يعزف العازف بعد الآن؟ نعم. هذه حقيقة سنسلم بها. ولكن الوجه الآخر من الحقيقة هي أن فن سعيد يوسف سيظل في قلوب الناس وأنه سيظل يدهشهم من خلال ذلك الإرث الفني الضخم الذي حفر عميقاً في تلك القلوب. لذلك آثرت كتابة العنوان (والكثير مما جاء في المقال) بصيغة الحاضر المستمر دلالةً على أن فن سعيد يوسف لم ولن يغادر الناس، وأنه لم يبلغ بعدُ (مثل روحهِ) نقطة النهاية، بل على العكس من ذلك قد نكتشف من الآن فصاعداً في فنه ما لم نكن نعلمه حتى الآن.
قد يصبح فن سعيد يوسف منذ هذا التاريخ أكثر حضوراً من خلال اهتمام الدارسين به ومن خلال إعادة الفنانين الشباب لتسجيل أغانيه بأصواتهم وبأشكال ووسائل فنية حديثة. لذلك لن نسأل سعيد يوسف: “لماذا تركت (البزق) وحيداً؟”، فلكل بداية نهاية، بل نقول: إنْ كان سعيد يوسف قد ترك صنوه وحيداً فإن ما أودعه لدى الناس يبقيه حاضراً عندهم إلى الأبد، وإنْ كانت أنامله قد نزلت عن صهوة الأوتار، لأنه ببساطة ليس مجرد فنان.