إبراهيم اليوسف
انتابني هلع كبير، بعيد صدمتي الكبيرة بسماع نبأ رحيل الفنان سعيد يوسف، بما يوازي الحزن الكبير الذي هيمن علي، وهزني، بسبب هذا النبأ الجارح، وإذا كان سبب هذا الحزن هو إحساسي بالألم من جراء رحيل مبدع استثنائي في عالم الأغنية والموسيقا، ولطالما سميته بيني ونفسي عبقرياً، ذا موهبة فريدة، أضف إلى كل هذا عامل قد لا يكون شخصياً، فحسب، ألا وهو ما يربط بيننا من صداقة امتدت حوالي ثلاثة عقود، أجريت خلالها أكثر من حوار معه، أحدها كان في العام1993، وقد نشر في أحد مجلاتنا آنذاك، وثانيها عثرت عليه في الشبكة العنكبوتية، أما عن سبب الهلع الذي انتابني فهو يتعلق بموقفي من دفن المقربين، بل أبناء المكان. البلد، وغيره، عامة، خارج مهادهم،
وما إن كنت أسمع بمواراة أحد أبناء مدينتي تراباً غريباً، حتى كنت أشعر في قرارتي بحزن عميق، ولعل أسرة الصديق أحمد حسين- وهي في المدينة التي أقيم فيها إيسن- تتذكر مراسلتي لها، بعيد سماعي نبأ رحيل أ. أحمد طالباً منها دفنه في مسقط رأسه، ولعلي كتبت عن ذلك، في متابعة لي، على أحد مواقعنا الإلكترونية، كما أنني- تآمرت- وأعترف. تآمرت كثيراً، على قرار أسرة الصديق سيامند إبراهيم بدفنه في ألمانيا” وكان هو أيضاً أحد خيارات وصاياه التي ائتمنني عليها، قبيل وفاته بأيام جد قليلة في حال عدم تسني المجال لدفنه في الوطن، واستعنت ببعض أهله لترجيح الموقف، كما أن صديقاً إعلامياً تدبر ما يلزم من مال لتسفيره، بعد أن راسلت أكثر من جهة، من أجل ذلك.
خوفي من عدم نقل جسد أبي زورو الطاهر إلى الوطن كان لداع آخر، يتعلق بتشابك لوحة المشهد السياسي، إلا أن بعض وجوه المجلس الوطني الكردي وأذكرهم: سعود الملا-عبدالباسط حمو- سعيد سوري- سهلوا الأمر، وكان موقف نجله زورو وأسرته جدّ إيجابي، ولا أنسى دور السياسي: عبدالقادر خليل- أحد أصدقاء أبي زورو- وهناك العشرات والمئات من المعنيين والعاملين- كل منهم يستحق ذكر اسمه، إلا أن هؤلاء من عملوا- كما شهدت- بوتائر عالية، بالإضافة إلى الموقف الإيجابي ل أ. محمد إسماعيل، وترجمة شمدين نبي لآخر مقترح تم في هذا المجال، ومعه. معهم العشرات. المئات، بل الآلاف من أبناء شعبنا.
إني -هنا- مجرد ذاكر، راصد لأصحاب الجهود، ومنهم من كان جهده كبيراً، ومنهم من كان جهده أقل من ذلك
حقيقة، ثمة كوابح صغيرة ظهرت، على حين غرة، ومنها: عدم إمكان نقله بالطائرة إلى أربيل/ هولير، على نحو مباشر، بالرغم من تأمين المجلس لتكاليف نقل الجثمان، ومرافقيه، وتأمين ما يلزم من- فيز- بل وترتيب كل ما هو لوجستي، اعتماداً على الدعم الذي قدمته رئاسة وحكومة الإقليم ، فيما يتعلق بنقل الجنازة من مطار شرف الدين آلجي- في شرنخ- إلى زاخو، وكيفية الاستقبال. تأمين “منامة” المرافقين، والترتيب لنقل الجنازة إلى قامشلو. كل ذلك تم تجاوزه، ومواجهته، وإن كانت ترجمة ذلك – اتصالات- بعضهم، عبر الهاتف، والعمل الميداني، من قبل آخرين، في استنبول وهولير، ومن ثم زاخو، وهلمجرا، ولست بصدد الحديث عن كيفية استقبال الجنازة، والاحتفاء بالفنان الكبير سعيد يوسف، في ليلته الأخيرة في زاخو.
قلت لأستاذنا صديق شرنخي:
لقد استطاع أبو زورو أن يجول وهو راحل بين ثلاثة أجزاء من كردستان، خلال أربع وعشرين ساعة، فحسب، وليت المشرفين على موكب الجنازة ساروا به أبعد، ضمن الجزء الرابع، أي: كردستان إيران، قبل أن يصل إلى مسقط رأسه، قامشلي، ويوارى الثرى هناك، ملفوفاً بالعلم الكردستاني، كجزء رئيس من وصيته: ادفنوني في قامشلو ولفوني بعلم كردستان!
ولابد، ولو استطراداً، أن أشير، إلى أن سعيد يوسف، تمكن، ولو بعد رحيله أن يمتحننا جميعاً. يمتحن أعماقنا. أعماق من لم يبالوا به، وهو في أحد مشافي استنبول يواجه سرطان القلب، القاهر، إذ إن شبكات التواصل الاجتماعي اتشحت بهالة من الحزن، مع أول نبأ تصادى في أربعة أجزاء كردستان:
توقف قلب أبي زورو عن النبض
إذ إنه خبر تنافرنا، وأدرك مدى ظلمنا له، وهو يعيش بين ظهرانينا، وأعني بالإشارة إلى من ظلموه محض قلة منا، إلا أنها كانت موجودة، حيث ثمة من يظهر بيننا – عادة- ولا يرضيه ظهور علم بارز من جبلتنا، وما إن يتعرض هذا العلم لمحنة ما حتى تستيقظ مشاعره تجاه، دفعة واحدة، وهو ما كتبته ضمن مقال لي بعنوان ” سعيد يوسف ومحنة المبدع الكردي الاستثنائي- مقاربات وعلامات فارقة”، سينشر غداً في جريدة “كردستان”، ظاهرة استعدائنا لوجوهنا البارزة جد خطيرة، لأعلامنا. لمناضلينا. وأنا لا أعني تحصين كل هؤلاء من النقد، بل لابد من نقد جميعنا، ولكن بلغة النقد، وليس بلغة الطعن، والشتم، والإعدام التي وجدت لها في الفيسبوك، ووسائل التواصل الاجتماعي مراتع بيئة منعشة لها!؟
أجل، لأقل بعض مالدي، هنا، كانت يدي على قلبي، وأنا أتابع خط سير الجنازة، بعد وصولها مطار “شرنخ “، وظللت هكذا إلى لحظة تجاوزها معبر إبراهيم الخليل، كي أطمئن، وأهتف لبعض من كنا نتواصل بصدد الأمر:
الآن، يمكننا القول: تراب قامشلو سيحضن ابنه البار أبو زورو
كان سبب خوفي وجيهاً وله أسبابه التي لامجال لذكرها الآن!
تراب قامشلو، الذي شهد ولادة سعيد يوسف في 10-4-1947* سيحضن جسده الطاهر في آخر يوم من الشباط الكبيسي 29-2-2020، وبعد سبعين سنة ونيف من الحلم. من الهرولة. من المعاناة. من القهر. من النضال. أجل من النضال، كما أم رؤوم عاد إليها فلذة كبدها، بعد أن تعرض لآلاف الجراح، وهل من جرح أكبر من جرح الفنان. المبدع، وهكذا كل أصيل تحتل أرضه، وتدنسها أحذية الغزاة، ويغدو شاهداً، مكبلاً، مطارداً وهو بين ظهراني مكانه، أو خارجه. أجل لا جرح أكبر من هذا الجرح إلا جرح التراب الذي احتضنه وهو يحكي له حكاية جراحاته العظيمة، لاسيما تلك التي لما تزل تنز دماً وألماً عظيمين.
صباح
29-2-2020
*ملاحظة
يصادف أربعون فناننا سعيد يوسف يوم ميلاده!
يتبع
مالم يقله سعيد يوسف….!