بلقاسم إدير- المغرب
اعني بالخطاب السياسي الأداة الشفوية المباشرة والتي تعقد علاقة التواصل بين النخبة السياسية المكلفة بتسيير الشأن العام لمنتخبيهم من الطبقة العامة والتي تسمى في العلمين السياسي والاجتماعي بالشعب هذه العلاقة التواصلية موصوفة ومحددة عرفيا بمبادىء عامة توجب على سياسيي القمة اتجاه جمهور القاعدة الالتزام بقواعد مضبوطة لا في لغة التواصل المباشرة ولا حتى في طريقة تفعيل الخطاب بما فيه حتى شكل وحركة وهندام المخاطب حيث يفرض على المخاطب السياسي أيا كانت مكانته السياسية أكان ملكا أو رئيس دولة أو رئيس حكومة أو وزير إلى أدنى درجات المسؤولية السياسية أو الادارية في الدولة .. بحيث يتحتم على أي من هؤلاء التجرد من كل ماهو ذاتي والتزام لغة تواصلية تنتقي بعناية ألفاظ دقيقة وعامة أيضا دون الدخول في التفاصيل الرتيبة والواضحة للعموم ومركزة أيضا وملخصة ملتزمة بزمن خطابي يوجز الدلالة ..
في الثلاثة العقود الأخيرة تدنى الخطاب السياسي إلى مستويات مقلقة حيث ساهم اتساع نفوذ الشعبوية واكتساحها لحدود الطبقة العليا في تراجع اللّغة العالمة والملتزمة وظهور لغة العوام أو اللغة الدارجة أو لغة السوق .. تحليل هذا التدني المرعب يجعل المحللين أمام مفترق طرق متشعبة وأنفاق لا نهاية لها .. أسئلة كثيرة قد تطرح حول هذا التحول في لغة الخطاب السياسي ما أسبابه ؟ وما تداعياته على مستقبل اللغة العالمة والتي يطلق عليها عادة باللغة الأكاديمية ؟ هل للديموقراطية الاجتماعية دخل في هذا ؟ وهل الشعبوية السياسية المتجلية في الخطاب السياسي المتدهور لغويا أصبح ضرورة لمسايرة التفاهة التي اكتسحت كل مناحي الحياة ؟ وهل يمكن إصلاح الخطاب السياسي والعودة به إلى ما قبل ظهور المد الشعبوي الغارق في أسلوب المباشرة و الوضوح الفاضح ؟ أسئلة كثيرة تستدعي نقاشا واسعا من طرف المثقفين ومحللي الوضع في الحدود الفاصلة بين النخبة القائدة و طبقة العوام المقتادة ..
توضيحا لما قدم فالعلاقة بين النخبة و الطبقة الدنيا تقننها اللغة الملتزمة بقواعد معينة متفق عليها . مثلا عندما يقدم ملك دولة أو رئيسها خطابا إلى شعبه على الخطاب أن يكون ملخصا يكتفي بالعناوين والبنود الكبيرة وعلى الدواوين التي يعنيها الخطاب أن توضح للشعب بالتفاصيل المسكوت عنه في الخطاب الرسمي .. ونفس الشيء في خطابات كل المسؤولين يوحون فقط ولا يوضحون وبلغة تنتقي أدق الألفاظ المعبرة بعيدا عن لغة الشارع . في الدول العربية والتي جعلت اللغة العربية لغة رسمية لها قبل عقد التسعينات تلقى الخطابات السياسية بالفصحى وبقواعد ملزمة .. لكن استطاعت الشعبوية أن تفرض نفسها وغزت الدارجة المحلية شيئا فشيئا الخطابات حتى أصبحت هي الأداة في الخطابات الرسمية.. الكثير من الشعبويين الجدد يعزون ذلك إلى تدني التعليم الرسمي والأكاديمي ( الذي كانوا هم سبب تدنيه ) ويبررون ضرورة عدم التقيد بأية ضوابط معقدة وعلى الخطاب السياسي أن يكون تلقائيا ومرتجلا حتى يفهمه ويستوعبه العوام ويتواصلون بسهولة مع محكوميهم بل و يجب استعمال لغة العوام الدارجة كونها سهلة الالقاء وسهلة التلقي ولا تحتاج إلى قواعد معينة بل ويضيفون أن من الديموقراطية أن تكون الأمور مكشوفة أمام العوام .. بمعنى آخر أن على النخبة النزول إلى الشارع وترك أبراجهم العاجية سواء في خطاباتهم أو حتى في أمور تسيير حياتهم الخاصة . هؤلاء يرون أن الرئيس أو الملك عليه أن يتبضّع من السوق الشعبي كغيره من العوام عليه أن يلبس كالعوام وعليه أيضا أن يتحدث كالعوام حتى في خطاباته الرسمية .
قبل ظهور الأنترنيت عل الأقل في دول الجنوب وفي الدول الناطقة بالعربية على الخصوص كانت هذه الدول لحماية نفسها من ما يسمى بالغزو الثقافي الخارجي والدخيل على الثقافة المحلية ، كانت تستظل وتحمي نفسها بما يسمى ب ” الخصوصية المحلية ” بما فيها استعمال اللغة المحلية الغير المثبتة في الدساتير على أنها لغة رسمية كان ذلك في الخطابات الشفوية لكن سرعان ما انتشر الخطاب الدارجي في المكتوب أيضا و امتد إلى التعليم الرسمي وإلى كل وسائل الاعلام وفنون الغناء و المسرح والسنيما .. وبالتالي أصبحت اللغة العامية كسلاح للمقاومة والدفاع عن الخصوصية لكن المشكلة العويصة التي وجد فيها من يدافعون على المحلية أن استعمال العامية كلغة تواصل في كل شيء جعل حتى سلوك العامة والرعاع وتدني القيم والفضيلة ينتشر بين النخبة وأصبحت التفاهة وتردي السلوك الفردي والجماعي هو الطابع الرسمي للمجتمع وللدولة ككل .. وهذا ما توسع لاحقا عند ظهور الأنترنيت ومواقع التواصل الإجتماعي .. وكان هذا كله مناخا لظهور طبقة جديدة من السياسيين كانوا أشباه مثقفين ينحدرون من الطبقة الدنيا أو من الطبقة البعيدة كل البعد عن الثقافة أو من الأميين والجهلة أصحاب الأموال أصبحوا فيما بعد سادة في مراكز القرار استغلوا أجواء الانفتاح الديموقراطي فاكتسحوا الانتخابات باستعمال الخطاب السياسي الشعبوي الغارق في الضحالة . نجحوا فقط لأنهم يقدمون أنفسهم على أنهم من الشعب وسيبقون كذلك ..
باراك أوباما ذاك الافريقي الذي جاء من أصول غارقة في البؤس والفقر أصبح رئيسا لأقوى دولة في العالم .. في المغرب صعد نجم حزب العدالة والتنمية وأصبح بعد مدة قصيرة هو من يحكم ويقرر في مستقبل المغرب وزعيمه بنكيران ومعظم وزراء حزب العدالة والتنمية من الطبقة الدنيا من بؤساء وفقراء الشعب .. في خطاباته السياسية وخطابات أعضاء الحزب ووزراء حكومته نفهم كيف أن الشعبوية وضيعة جدا ولا يجب أن تكون خطابات ذوي القرار في أي دولة في مستوى الدناءة والوضاعة حيث أن السيد بنكيران لم يجد أي حرج في تحرير خطاباته بلغة عامية وسوقية أيضا باستعمال ألفاظ قدحية أحيانا ضد معارضيه و تقارير تافهة و بطريقة مرتجلة يضطر أحيانا أن يظهر في لقاءاته الصحفية كمهرج أو كوميدي وليس كرئيس حكومة .. هذا في المغرب أما في ليبيا في عهد القدافي فحدث ولا حرج .. في الشرق الأوسط أثار خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله اليد اليمنى للنظام الايراني بلبنان أثار جدالا واسعا كان يجد بالخطاب أن يكون سياسيا لكم كان خطبة كخطبة الحجاج بن يوسف في العراق . تهديد ووعيد وسب وشتم في حق القادة والشعوب . ولم يسلم من سبه وشتمه حتى زعيم الكرد مسعود البارزاني المشهود له بالحكمة والرزانة والذي يحترمه القاصي والداني قال عنه ما لا يمكن أن يقال في لص وفاجر ولقيط .. المشكلة أن خطابه كان بحضور شخصيات وازنة وباسم الأمة الاسلامية ويقدمه عبر الشاشات الكبيرة ولا يعرف أحد من أين يقدمه أكان مباشرا حقا أم كان مسجلا .. على غرار هذا الخطاب كان الخطاب السياسي لساسة ايران بعد قتل أمريكا لقاسم سليماني واسقاط الطائرة الأوكرانية . يقولون شيئا بالليل ثم يكذبون أنفسهم بالنهار وهكذا دواليك دون مراعاة العقل البشري أكان للشعب الايراني أم للعقل الانساني الذي يسمع ويرى من يخطب في اللحظة نفسها ..
ترامب رئيس الولايات المتحدة في الحقيقة يمثل قمة الشعبوية في خطاباته السياسية ، خطاباته مباشرة لا تراعي أي مفهوم للذوق الجمعي أو الذوق العام العالمي كرئيس لأكبر وأقوى دولة في العالم ويتابع خطاباته أغلب ساكني الأرض .. خطابه السياسي تلقائي مباشر يصرح أكثر ما يلمح .. أمريكا طوال وجودها في الشرق الأوسط كل رؤسائها يقبضون الاموال بالملايير مقابل خدمات عسكرية دفاعية أو هجومية لصالح من يطلب منها ذلك وهذا يتم سابقا في الكواليس ، لكن ترامب يصرح بوضوح ويفسر بالتفصيل كل تحركات أمريكا في العالم ناهيك عن أسراره الخاصة التي لم يجد حرجا في إظهارها للعلن .
عصر العولمة وتطور العلوم واكتساح التيكنولوجيا الرقمية والهواتف والحواسب الذكية لكل مناحي الحياة البشرية كل ذلك يقتضي تطورا كبيرا في العقل البشري والسلوك وتخليق طرق التواصل بين مختلف طبقات المجتمع الانساني أخص بالذكر الطبة المثقفة والراقية علما وسلوكا بينها وبين الطبقات الدنيا الأقل حظا في التثقيف والترقي المعرفي .. يقتضي الواقع الجديد أن تعمل النخبة في رقي الطبقات الدنيا وأن تساعدها في تسلق درجات التكوين اللائق بانسان الالفية الثالثة لا أن تنزل هي إليها وإلى مراتع الضحالة والتفاهة والميوعة والانحلال ..