بطولة الماضي والزمن المضارع…!.

إبراهيم اليوسف

تستهوي البطولة
المثقف -عادة- ويحاول أن يكون له نصيبه فيها، أو أن تسجل باسمه، عبر قول كلمته،
لاسيما إذا كانت في مواجهة الاستبداد دفاعاً عن قضية عامة، لأن الأنظار تتطلع في
مثل هذه المواقف صوب شريحة المثقفين، باعتبارها تمتلك قوة التأثير في الرأي العام،
فيما إذا كانت لها مصداقية حضورها، ناهيك عن أن آلة الاستبداد ترتعب من قوة خطابه،
وتحاول أن تستميله، وتحتضنه إلى حين، وإن كانت ستتركه بعد أن تجرده من صفة
المصداقية المذكورة أمام محيطه، أو أنها ستمارس معه أشكال القمع، بدرجاتها
المختلفة، بما يكفي إسكاته، حتى وإن أدى ذلك إلى إطفاء حياته، مادام أن هذا يعني
التخلص من أي مصدر خطورة على وجوده ومستقبله.
والمثقف الغيري الذي لايعيش ذاتيته إلا في حدود خصوصية إنتاجه الثقافي، مكرساً إياه
للعامة، من خلال تبني أسئلتهم، لاسيما إزاء استشراس آلة الاستبداد في مواجهتهم، أو
حين فترات المحن، والتحولات كأحد الأكلاف الكبرى التي لايقدم عليها إلا الندرة، وهو
السر في أن مواقف المثقفين تكون متباينة من أحداث مفصلية في حياة مجتمعاتهم،
وأممهم، وشعوبهم، على صعيد الموقف من أدوات الظلم، حيث هناك من يتواطأ معها
-متضرعاً إليها- مقدماً مايلزم لذلك، من أجل منافع واقعية أو افتراضية، مقابل من
يتعالى على مثل هذه المنافع، لا مبالياً بردود فعل هذه الأدوات أية
كانت…!؟
ومادام فعل المثقف الغيري يكون موضع احترام وإشادة من قبل المحيط
العام، فإن ذلك لم يأت إلا نتيجة تمكنه من اتخاذ موقف أخلاقي من هذا الحدث أو ذاك
ضمن ظرف تاريخي، غير ممكن التكرار، وهو ما يجعل أنداده من المثقفين الذين لم يتخذوا
مثل هذا الموقف الأخلاقي ضمن ذلك الحيز الزمني-تحديداً- باعتبار عامل الزمن، كما
قال هيراقليطس أشبه ب” “ماء النهر الذي لا يمكن السباحة”  فيه نفسه” مرتين”.،
يعيشون عقدة غريبة من نوعها، لما تتبلور تسميتها، الاصطلاحية، من قبل أحد بعد، وهي
نتاج الإحساس بالخطيئة، أو التقصير من قبل يقظ الضمير الذي لم يستطع أداء رسالته
المتوخاة منه، أومن قبل معطوب القيم الإنسانية الذي يخبىء وجهه الحقيقي وراء
الأقنعة، و يروم ربح-الاحتمالات- كلها، كما يحدث مع كثيرين في زمن الثورات، لاسيما
أن “فرائصهم ترتعد” وهم ينقادون وراء منفعيتهم، بل أن هذه المنفعية التي يبوصلونها،
وهي تمضي تحت تأثير شحنات مزأبقة، لا تجدي في الأجواء المضببة، أوالمعكرة،
لافتقادها إلى كهرباء مصداقيتها، ناهيك عن أنها تتوه بسبب عدم مقدرتها على الحسم،
وهنا مكمن سر تهافت من كان ينتمي إلى السلطة حتى لحظة بدء الثورة السورية بيد أنها،
ومن دون مايلزم من القناعات راح يرتدي قميص الثورة، ليخلعه، إزاء أية صدمة جديدة
بدعوى- انحراف الثورة- وهي قابلة للانحراف، أو انحرفت كما في هذا الحالة على مدى
مئة وثمانين درجة بعكس الوجهة التي شاءها لها صانعوها، غير أن ما هو مطلوب في هذا
المقام ألا يكون ما حدث دافعاُ لاشتعال أوار “النوستالجيا” تجاه أحضان النظام الذي
أوصل واقع السوريين إلى هذا المستنقع  الآسن، الذي تشكل بعد  كل هذا الدم والدمار 
المؤلمين.
وتتفاقم عقدة المثقف الذي أذعن إلى دواعي الطمأنينة، الموهومة، بينما
تتوجه آلة الاستبداد إلى التنكيل بسواه، بعيد انتهاء الحدث، ما يجعله يتعرض إلى
“محاكمة ذاتية” إما تحت وطأة “يقظة الضمير”  التي  تبين له صورته في مرايا 
الآخرين، أو تحت وطأة فحيح” شهوة النرجسية” التي تدعوه إلى القلق على مكانته  نتيجة
تشوش صورته لدى “السلطة المقبلة” بما يهدد عامل الحظوة أو المكانة المنفعيتين. وإذا
كنا نجد-هنا- من يقر علانية بخطئه، ويحاول أن يجعل ذلك دافعاً للتعويض عما تعرض له،
شأن قلة جد قليلة، فإن هناك من يلجأ إلى محاولة تزيين صورته، عبر مونتاج التزوير،
وهو ما لا يتم ، بنظره، إلا بعد تشويه صور من أدوا واجبهم، أثناء سقوطه الشخصي، أو
فلسفة الأمور والتمترس وراء أخطاء البرهة المعيشة، من خلال ” توأمة الماضي
والمضارع”، عبر سرير بروغوستي، متناف مع خصيصة دورة الزمن، والانطلاق من معطيات 
اللحظة في استقراء الماضي، لا العكس، وهو زعم استنبائي، يتدرأ وراءه بعضهم.
لقد
ظهر بعضهم، بعيد سقوط شبح الخوف، ولو على نحو نسبي، ليقدم نفسه على غير ما هوعليه
فعلاً، مدفوعاً بوهم إمكان  ديمومة تلفيق الذاكرة، خارج مدونة المرحلة التي بات في
الإمكان الاستعانة بها، وإن كان هناك من يكرس تزويرها، عبر كيفية التعاطي معها،
بإخفاء أو إظهار ما هو مطلوب، لأجل خدمة وجهة نظر محددة، في مواجهة أخرى، أو تقزيم
عملاق، أو عملقة قزم، وغير ذلك من الأساليب التي يبرع فيها بعض الضالعين في فقه
الخديعة، أفراداً، أو مؤسسات، على حد سواء.
ثمة درس كردي من الماضي القريب،
مختصره أنه  بعد أن سحب النظام السوري قناصته المتمترسين، حول المدن الكردية،
ومداخلها، وفوق أسطح عماراتها ، عائداً إلى قمعه التقليدي،  بعيد انتفاضة الثاني
عشر من آذار2004 والتي انهزم فيها النظام، في عمقه، رغم كل ما واجه به المدنيين
العزل من  قتل، وقمع، وسجون..إلخ، في محاولة منه  لإعلان استعادة قبضته على المكان،
لطم بعض المثقفين رؤوسهم، وهم يجدون أنفسهم، أمام أسئلة ملحة باتت تطرح عليهم:”
ماذا كان دوركم في هذه الأيام العصيبة من تاريخ  أهلكم؟” وهو نفسه ما دفع بعض هؤلاء
للاستعاضة عن هزيمتهم، وتبييض صحائفهم مع ثورة السوريين الجديدة، وراح آخرون يكررون
تجربتهم المريرة السابقة، أو يفلسفون صمتهم، بل أن هناك من يجعل هزيمته بطولة ومآثر
قومية، غير أن السؤال سيظل  يتصادى، وبالوتيرة نفسها:” ماذا كان دوركم في هذه
الأيام العصيبة من تاريخ شعبكم؟” .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…