آلة الاستبداد ولذة المواجهة (شهادة ذاتية) … 3/4

إبراهيم اليوسف

البريد
الإلكتروني المفتوح

في اليوم التالي، اضطررت لحجز مقعد في باص عبر إحدى
شركات النقل، لأصل إلى دمشق، وأتفاجأ بأنموذج جد غريب من التحقيقات، حيث تمت
مساءلتي عن بعض كتاباتي، ومراسلاتي، لأرافع عن وجهات نظري المنشورة، وأرفض الاعتراف
بتلك المراسلات. امتدت فترة التحقيقات أكثر من أسبوعين، وكنت كلما أغادر الفرع،
أتوجه إلى أحد محال الإنترنت، أعلم بعض أصدقائي، في الخارج، بمجريات التحقيق، ومن
بين هؤلاء: دانا جلال – محمد عفيف الحسيني – محمد سعيد آلوجي وآخرون، أقول لأحدهم
“إن نجوت المرة من هؤلاء الـ”…” سوف أفعل كذا وكذا”. 
بعد بضعة أيام من المراجعات اليومية، منذ بداية الدوام النهاري حتى نهايته، رحت
صباحاً إلى الفرع فوجدت المحقق قد خرج عن طوره، وهو يقول: “بريدك كله بين أيدينا
وأنت منذ أيام تحاول استغباءنا”، وصرت أقرأ بعض هذه الرسائل، وما كان علي إلا أن
أواصل موقفي، رغم يقيني بأنهم لن يصدقوني، إذ أنني أيقنت أني معتقل لا محالة، سألني
المحقق الشركسي ذو العينين الخضراوين، يعاونه أحدهم من آل الشوفي:
 – أليس
هذا إيميلك؟
أجبت: بلى.
–  أليست هذه رسائلك؟
أجبت: لا.
ارتفعت
نبرة صوته، وبات يواصل وعيده، وتهديداته، وهو يسألني:
–  إذاً من كتب كل
ذلك؟!
أجبت: أنتم!
جن جنون الرجل، وهو يسمع إجابتي المخادعة، المراوغة،
وسألني: “قل لي … كيف؟”
أجبت وأنا أحاول جاهداً أن أوارب توتري وشفتي
المتيبستين ظمأ:
–  بريدي الإلكتروني كلمة مروره معي، وما دمت أنت قد قرأت
ما فيه من رسائل، إذاً هي رسائلكم أنتم كتبتموها باسمي، بعد أن اخترقتموه!
وكان
من بين تلك الرسائل إحداها للصديق دانا جلال يقول لي فيها:
“لا تقلق يا إبراهيم،
والله إن اعتقلوك، سنقيم الدنيا على رؤوسهم، من خلال استمرار المظاهرات أمام
سفاراتهم إلخ…، إلى جانب الكثير من العبارات ذات العيار القوي التي لا يقبلها
هؤلاء على أنفسهم، وكانت بيني ودانا وآخرين رسائل إلكترونية يومية حول مشروعنا
“الاتحاد الإعلامي الكردستاني”، وغير ذلك.
سألني المحقق: “هل في الشقة التي
استأجرها أبناؤك في دمشق كمبيوتر وإنترنت؟”
أجبته: لا.
ولا أعرف، لم تراجع عن
إعداد دورية لتفتيش الشقة التي استأجرها أولادي، مع آخرين، وكانت مليئة آنذاك، بما
يعده النظام من الممنوعات، وكانت يدي على قلبي، إلى أن تم تجاوز هذه النقطة. مساء،
عدت إلى شقة أولادي، طلبت منهم أن يبعدوا كل الكتب والمنشورات والصور الممنوعة، وأن
ينظفوا بريدي الإلكتروني – الذي سرعان ما غيرته – لآتي في اليوم التالي، وأنا أحسُّ
أن الأمور سارت تجاه اعتقالي، لا محالة.
فور وصولي، في يوم 30 نيسان2006 إلى
الفرع، قيل لي: سيادة العميد يريدك؟
ثم قادوني إلى مكتبه “علمت فيما بعد أن اسمه
جلال الحايك”، فاستقبلني بأريحية كبيرة، بعد طوال حفلة التعذيب النفسي على امتداد
حوالي ثمانية عشر يوماً وكأنه يقول لي إن هذا هو الأمن الحقيقي وما تم عابر، فقدم
لي علبة السكاكر لأتناول منها قطعة ثم طلب لي كأساً كبيرة من الشاي، ثم سألني هل
تعرف فلاناً:
قلت: سمعت به.
قال: إنه وطني كردي ولديه مشروع ممتاز.
لم
أعلق على كلامه البتة.
أيضاً قال لي:
هناك فلان وآخرون يجمعون في مقهى
“الروضة” التواقيع رداً على بيان إعلان بيروت – دمشق. لا أعرف إن كانت التسمية
دقيقة؟ إلى جانب إشارته إلى أنهم وجدوا في بريدي مقالات موجهة إلى أحد المواقع
المشبوهة، وكان من الضروري التحقيق معي.
في نهاية الجلسة، قال: في إمكانك أن
تستعيد بطاقتك الشخصية، وتمضي لأهلك، ولكن: بلدنا مستهدف إلخ…، استعدت بعض
الطمأنينة، وصرت أعد الثواني، والدقائق، لأتخلص من هذا الكابوس اللعين، بيد أن ذلك
لم يتحقق لي، لأن المحقق الشركسي صار يستدعيني مرات عدة، يعيد في كل منها على مسمعي
ما استجد من كتاباتي المنشورة، وهو يواصل تهديداته، إلى أن قلت له:
أنا كاتب،
ولن أتوقف عن نقد كل ما أراه خاطئاً، فإما أن تعتقلني – الآن – وإما فأنا مضطر
لإعلامك بأني  لن آتي في المرة المقبلة، إلا “موجوداً” بحسب مصطلحهم، لأني اضطررت
في هذه المرة لأن أبيع “ثلاجة بيتي” كي أغطي بثمنها نفقات السفر إلى دمشق.
قصص
الاستدعاءات جد كثيرة، وكلها تصلح لتكون نواة أفلام رعب، بل يمكن الكتابة عنها
باستفاضة، لاسيما تلك التي تمت في فرع “أمن الدولة” في دمشق في العام 2008 ، حيث
مارس ضابط برتبة عقيد أو عميد اسمه الأول “عبد الناصر” على ما أذكر، كل صنوف
الإساءة، والشتم، والتهديد بحقي، مستنداً في مواجهاته لي، على معلومة نقلت لهم من
قبل أحدهم، وراح بدوره يستعرض بعض مقالاتي، ويواجهني ببعض أسفاري إلى خارج سوريا، و
يتوقف عند الندوات التي شاركت بها في موسكو عام 2008، وهو يقول لمدير مكتبه – وكان
من منطقة “وادي العيون” واسمه الأول إبراهيم – وقد زار قامشلي باعتباره ممن ألفوا
كتابا من مجلدات عن سوريا بيئة ومواطنين وغير ذلك: “هيا أوقفه فوراً!”.
ويبدو أن
رئيس مكتبه الذي مضى بي إلى مكتبه، كان يعرف أن ذلك من أساليب التخويف، حيث راح
يشرح لي عن خطورة المرحلة، واستهداف البلد، والمؤامرات الدولية، وغيرها، ثم
استدعاني بعدها مرة أخرى، لأسمع منه تهديدات بنبرة أعلى من ذي قبل، وهو يقول: في
المرة المقبلة، إن رأيت “وجهك” هنا، فلا تلم إلا نفسك!


منع
السفر

بعد حادثة تربسبي/ قبورالبيض التي لم يكتف النظام بترجمتها “قبور
البيض” فراح يعربها إلى “القحطانية” التي سأتحدث عنها بعد قليل تقدمت بأوراقي على 
التقاعد المبكر، وأمن لي صديقي الكاتب مروان كلش فرصة عمل في مدرسة “الوكرة” في
قطر، براتب عال، بيد أنني اصطدمت بعقبة منعي من السفر، إذ أدرج اسمي، ضمن قائمة
لمئات الكتاب والإعلاميين والناشطين السوريين، فأعلم سكرتير حزب كردي الشخصية
الوطنية (إبراهيم باشا المللي) من سري كانيي / رأس العين بما أتعرض له، ليتعهد بأن
يؤمن لي موافقة السماح بالسفر. 
ذات يوم في نهاية صيف 2007، اتصل بي الباشا
المللي، ومعه أحد أبناء عمومته وهو إسماعيل المللي، وحدد مكاناً للالتقاء به في
مدينة الحسكة ليصحبني إلى فرع الأمن السياسي في الحسكة للحصول على الموافقة. ما إن
وصلنا إلى المكان، ودخلنا مكتب رئيس الفرع، حتى وجدت أكواماً من مقالاتي على
طاولته، وراح يهمس في أذن الباشا، قائلاً له: اقرأ ما يقول!
ثم رفع صوته قائلاً:
العمى حتى عن سيادة الرئيس؟
وجدت نفسي في موقف محرج، عندما علمت أنه يستعرض
مقالاً لي رددت فيه على بشار الأسد، مشيراً إليه باسمه، وقلت في نفسي: آن لي أن
أدافع عن وجهة نظري، فرددت عليه: من قال الرئيس لا يخطئ؟ إنه بشر، القرآن الكريم
نفسه يقرأ نقدياً، بعدها خرج رئيس الفرع والشيخ المللي إلى غرفة صغيرة ضمن مكتبه،
وبدأا يتحدثان في أمر ما، عرفت أنه كان يحدثه عن الذكرى المئوية لجده الشيخ إبراهيم
باشا المللي، كما أنه قدم له مبلغاً من المال، على الدرج، حدثني الشيخ إسماعيل
قائلاً: أحيي شجاعتك!
قلت له: مكرهاً كنت، لم أسكت خلال حياتي على توبيخ أحد لي.
سافرت أنا لقطر، لأعمل فيها مدة خمسين يوماً، دون أن أتمكن من الاستمرار بسبب تفاهة
طلابها، ولأعود في 2-11-2007، ولأعلم أن الشيخ الباشا في السجن، على خلفية حادث ثأر
عشائري، وهكذا فقد مات مشروع إحياء ذكرى مئوية الباشا
المللي.


أجل حتى عن “الرئيس” نفسه!

أكثر
من مرة، كتبت نقداً عن بشار الأسد، وكانت المرة الأولى عندما زار تركيا وقال: إقامة
دولة كردية خط أحمر، فنشرت مقالاً لي في موقع “الحوار المتمدن” وغيره من المواقع
الإلكترونية، كما أنني كتبت عن “استفتاء الولاء لولاية ثانية”، أكثر من مرة، من
بينها بعض آرائي الاستفزازية في حوار أجراه معي أحد مراسلي موقع “سروة” آنذاك.
وأتصور أن موقع “كسكسور” الذي كان بعض أفراد أسرتي يديرونه، فضح هذا الاستفتاء، وما
رافقه من كرنفالات مزورة، كان أن أودى رصاصها بحياة بعض الأبرياء، منهم أحد أبناء
حي الهلالية في مدينتي. 
يتبع ….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…