من طمر الثورة السورية

د. محمود عباس

  الثورة السورية لم تحرف، بذرتها موجودة
هناك في تربة الوطن، مطمورة بين ركام من الفوضى الخلاقة، وتحت أقدام التنظيمات
العسكرية الإسلامية التكفيرية والإرهابية، حيث الحروب الأهلية، والطائفية، والمدارة
بالوكالة، والمتداخلة فيها كل أشرار العالم وتجار الحروب، والدول الإقليمية الفاسدة
والفاسقة مذهبيا وثقافيا، المتصارعة على الأرض السورية وبدماء السوريين.
  حاولت
سلطة بشار الأسد قتل الثورة والثوار، وجرفت أئمة ولاية الفقيه ومعها السعودية
وتركيا ودول الخليج لدفنها معا، الأول، رهبة من أن تقضى عليه بفترة زمنية مشابهة
لفترة إسقاط طاغية تونس، والأخرين لئلا تنتقل جذورها إلى أراضيهم وتقلب عليهم
العروش، فهي كانت قد ظهرت على أعتاب تجارب عدة ثورات متلاحقة، حيث الخبرات
والمعلومات كانت تنقل وتتناقل بين الشباب الثوري وبينهم وبين الشعب دون رقيب
وبثواني، ونسي الطغاة والسلطات الشمولية أن الثورة السورية بذرة لنبتة عظيمة ستنمو
عند أول سقاية، كما قالتها ابنة أخي (روناز عباس).
   ورغم فشل هذه الثورات حتى اللحظة، لكنهن نجحوا في تغيير بعض السلطات، لكنه نجاح
ملثوم ومرعب، برزت على أعتابها وجوه لا تقل بشاعة عن السلطات الشمولية السابقة، وهي
وجوه لشريحة كانوا حتى البارحة منها أو في أحضانها، أو تدرج ضمن خانة ثقافة النظام
نفسه، معظمهم من الإسلام السياسي – العروبي، والشريحة السياسية الانتهازية، وتجار
بيع الوطنيات، ومافيات تجار الحروب. 
  سيطر هؤلاء على المسيرة بمساعدة الدول
الإقليمية، بسبب رهبتهم من مفاهيم الثورة، وغاياتها، فهؤلاء المتصارعون على جثث
الطفل السوري وأمهاتهم الثكلى، أصابهم الهزع فتحركوا بأقصى ما يتمكنون عليه، لأنهم
أدركوا بأن نهاية عروشهم وسلطاتهم بدأت تقترب. فالشباب الثوري بدأوا يعلنونها وبشكل
علني، أن الوطن والشعب لست أملاكهم، ولا يحق لهم التصرف بها كثروات شخصية، فأصبحوا
ينتبهون إلى أن الشباب الثائر ستنزعها منهم، وستعري مفاسدهم، ومقاصدهم. 
  لا شك
المد الشيعي ولا سلطة بشار الأسد، لم  ترهب سلطات الدول العابثة بسوريا، فهم ورغم
الخلافات المذهبية، يتلاقون في الفكر والثقافة والنفاق الديني السياسي، يحكمون شعوب
المنطقة عن طريق مذاهبهم الشاذة، ويمتصون دمائهم، بل الذي أرعب هذه الدول ومعها
القوى السياسية التي اقتحمت الثورة السورية وأوصلت بشعبها إلى هذا الدرك من
المعاناة، هي مسيرات السلام التي ألهبت شعوب الشرق الأوسط، وعندما تأكدت سلطة بشار
الأسد والدول المجاورة بأنها لن تستطيع إيقاف التوسع الثوري الشبابي السلمي،
اشتركوا بشكل غير معلن على تسليط قوى انتهازية منافقة، وتجار الحروب، وخلقوا منظمات
تكفيرية راديكالية إسلامية ومن كل المذاهب، لتتلاءم وأجندات كل الأطراف، مثلما
خلقوا وساندوا معا منظمة داعش لتلبي طلبات الجميع، وتحقق مطامحهم، وغاية الجميع قتل
الثورة في المنطقة.
   لكل الدول والمنظمات التكفيرية والأحزاب الانتهازية
الإسلامية والعروبية، هدف واحد مشترك، حتى ولو اختلفوا على الطرق، وتصارعوا على
السلطات، بدماء الشعب السوري وعلى أنقاض وطن مدمر، للاستيلاء على ثورته وطمرها.
ساندتهم جميع الدول الكبرى المؤيدة لسلطة بشار الأسد والمعارضة له، فتاهت بينهم
الشريحة الوطنية، وهي لا تزال غير متمكنة من الظهور، تصارع البقاء، والشريحة الثورة
غابت عن الساحة، وطمرت لتنبت عندما أول الفرص المناسبة أو ظهور البيئة الملائمة،
ورغم أن شعوب هذه الدول بلغت من القناعة أن الجاري لا علاقة لها بالثورات ، بل
للثورات علاقة بها، فهي من مفرزاتها، وتعد تصفية للمجتمع من الأوبئة والشرائح
الفاسدة التي خلقتها ثقافة الأنظمة السابقة، فلم يكن عبثا رفع شعر أسقاط النظام،
فهؤلاء هم من جسم النظام الفاسد نفسه، والجاري هي نتيجة جدلية التغييرات الكبرى في
مسيرة التاريخ البشري، وما يجري سيمتد على مدى عقود قادمة، فهي مسيرة حتمية لبداية
الثورات، وهذه الثورة لها خصوصياتها،  لنوعية العصر، والمعرفة البشرية، والتكنلوجيا
التي انعدمت فيها المسافات والزمن، وحيث يمكن جمع مكاتب التاريخ على صفحة واحدة أو
مرآة عاكسة، وإحضار أفكار ومفاهيم جميع فلاسفة التاريخ وقادتها في لحظات.
  أدرك
أئمة ولاية الفقيه هذه المعادلة، فشاركت وبكل إمكانياتها، سلطة بشار الأسد على طمر
الثورة السورية، وسخرت كل أدواتها في المنطقة، خوفا من أن المسيرات السلمية ستؤكد
سقوط سلطة الأسد وستسهل عملية انتقالها إلى أراضيها، لأنها تعلم أن الأجواء في
الشارع الإيراني أكثر من ملائمة، حيث المعارضة السياسية النائمة، وحركات تحرر
الشعوب ضمن إيران المتأهبة للنهوض للخلاص من القيود الفارسية-الدينية الإلهية،
كحركات الشعبين الكردي والبلوجي. فطغاة رجال الدين عن طريق القوة المستخدمة تحت
غطاء الشورى، والديمقراطية المزيفة، والمحصورة ضمن حزب وحيد مسيطر، مسنود بقوة
عسكرية رهيبة، تحكم باسم الله، وشريعة كتاب مقدس، وجدت أن للثورة السورية جذور
واضحة تمتد إلى داخل إيران، فأرهبتها أكثر مما أرهبتها المعارضة الإيرانية المنتفضة
قبلها بسنتين.
وآل سعود بدورهم في المملكة، ارتعشوا ضمن شبه الجزيرة التي طبعوها
باسمهم، ونفوا قريشية الرسول، والكناية العربية عنها، ورهبتهم من الثورة لم تختلف
عن رهبة أئمة ولاية الفقيه، لكنهم في هذا وجدوا حجة مغايرة لطمرها، وهي مساندة
الشعب السوري المسلم السني، ضد طغيان الطائفة العلوية، ولتكن الحجة مقنعة، خلقوا
أبشع المنظمات التكفيرية كالنصرة، وساندوا داعش البعثية الإسلامية التكفيرية،
وسمحوا بخروج جحافل السلفيين من المدارس والتكيات، ومهدوا لهم الطرق لبلوغ أرض
سوريا والعراق، تحت شعار الجهاد ونصر السنة، ومساندة الشعب السوري في ثورته. وهم
بهذا كانوا يؤدون دورهم في مساعدة سلطة بشار الأسد على طمر الثورة، ولم تهمهم تدمير
سوريا من قبل بشار الأسد وتهجير واجتثاث أمة بكاملها من أرضه، وفي هذا شاركت دول
الخليج بكل الطرق، حتى ولو اختلفت في التفاصيل، ونوعية المنظمات وملائمتها
لمخططاتهم وأجنداتهم، لكنهم اتفقوا على تشويه وإفساد المعارضة السورية السياسية في
الخارج منذ أول يوم، تدخلوا بشكل سافر في شخصياتها وتجمعاتها وتشكيلاتها، وساندوا
هيئاتها الأكثر انتهازية وفسادا وعنصرية. 
ولم تكن تركيا بأقل رهبة منهم، فهي
التي تعرف مرارة ثلاثين سنة من الحرب مع الكرد، ونتائج ثوراتهم وعلى مدى أكثر من
قرن لا تزال حاضرة في ذاكرة الحكومة التركية، والثورة السورية ومنذ أول أيامها
احتضنها الشعب الكردي في سوريا، وترقبها الشعب نفسه على الطرف الآخر من الحدود، فلم
يكن هناك من خطة أخرى أمام الحكومة الأردوغانية، غير الانجراف مع طريقة السعودية
لطمر الثورة، فاستخدمت سلطة أردوغان، أدواتها السياسية والدينية والعسكرية،
والمشابهة في كثيرة أدوات دول الخليج وحتى أدوات أئمة ولاية الفقيه، ولو كانت
النوعية مختلفة، قامت بمشاركة الدول الصديقة للشعب السوري، على وضع الخطط السياسية
لحل أزمة الشعب السوري، لكن بالطرق التي تناسبها، وضغطت على الدول الكبرى والهيئات
الدولية تحت حجة ثقل النازحين، بقبول حلولها، وكانت واضحة إنها تخدم أجنداتها وليس
الشعب السوري، وفي هذا كانت معظم  المعارضة السورية السياسية  لانتهازيتها، تتقبل
ما تعرضه حكومة أردوغان، وبدون نقاش، مقابل احتضانها لهم. ومن جهة أخرى حركت الجانب
المذهبي، بالتركيز على نهج الخلافة العثمانية، وجمع حوله على أساسها كل المنظمات
السورية الإسلامية من الإخوان المسلمين إلى التكفيريين والإرهابيين، وفتحت لهم
حدودها ومطاراتها ليدخلوا إلى أرض سوريا ويعبثوا فيها، والغاية في النهاية لم تكن
إسقاط سلطة بشار الأسد بل طمس الثورة، ولم يتردد أردوغان في تقديم الخدمات
العسكرية، من التدريب إلى السلاح، إلى فتح الممرات العسكرية، وقدمت لداعش في هذه
مساعدات تعادل ما قدمته لجميع المعارضة العسكرية الأخرى، وللتغطية ساعدت مجموعات
أخرى مماثلة، كالنصرة وغيرها.
التمعن في مسيرة الثورة السورية وغيابها، سيتوضح
بأن هؤلاء جميعا، لم يدعموا الثورة السورية ولم يعملوا بشكل جدي على تغيير النظام،
وبهذا يمكن القول أنهم ساندوا بشار الأسد وأئمة ولاية الفقيه في طمر بذرة الثورة،
ولهم أيادي ملطخة بالدم السوري، وساهموا في جرائم ومجازر بشار الأسد، ولهم دور في
تنشيف الدموع من أعين الأم السورية، وألقاء الكهل المقتول، من قبل مجرمي الطاغية
بشار وكلاب الجهنم من إيران وأدواتها، على قارعة الطرق بدون دفن، وذبح الإنسان
السوري بكل بساطة، وتدمير بيته، وتهجير أطفاله، وترميل زوجته، وهم من ساهموا في خلق
معاناة الشعب، ومحنه، ومآسيه، وهم الذين شاركوا في تدمير مدن هذا الوطن العزيز، ولم
يكونوا صادقين على إزالة المجرم بشار الأسد. وفي الأعالي حيث الأوامر، ستظهر روسيا
وأمريكا، بوتين وأوباما، كأكبر قاتلين للطفل السوري، وهما من بين الذين سيشتكي
عليهم الطفل السوري عند الله.

د. محمود
عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

8-27-2015

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…