الانفصاليون العرب والوحدويون الكورد «اليمن نموذجاً»

آزاد أحمد علي

إحتفل اليمنيون الجنوبيون يوم الأحد (30) تشرين الثاني الماضي بالذكرى الـ (47) للاستقلالهم عن بريطانيا عام 1967، وبهذه المناسبة توافدت أعداد كبيرة من الجنوبيين المطالبين بالانفصال إلى ساحة العروض (الشابات) في حي خور مكسر بعدن العاصمة السابقة لدولة اليمن الجنوبي (الديمقراطي). هذا المشهد وكذلك مجموع الأحداث في الأيام الأخيرة، بما فيه ابتلاع حركة أنصار الله (الحوثية) لدولة اليمن، تشجع على التوقف والتمعن ليس بواقع ومستقبل الدول العربية القائمة فحسب، وإنما في حقيقة كونها دولا غير مستقرة، وكيانات إنتقالية مؤقتة تنزلق نحو إنقسامات كبرى.
نظرياً يشكل العرب أمة واحدة حسب المعايير المتفق عليها. ولديهم من المشتركات أكثر مما لدى غيرهم من الأمم والشعوب، التي حققت وحدتها القومية في أصقاع مختلفة من العالم.
عمليا تعتبر الأمة العربية، الأمة الوحيدة في العالم التي تسكن جغرافية متصلة، ولها كل هذه العوامل الموحدة والمشتركات وتتوزع في الوقت نفسه على أكثر من عشرين دولة مستقلة، منفصلة الواحدة عن جارتها! ومهما كانت المبررات السياسية، وكيفما تنوعت الخلفيات الثقافية، وبرزت الاختلافات في البيئتين الاجتماعية والجغرافية، فلا يمكن أن نسمي هذه الحالة النادرة إلا بالإنفصال السياسي الإستثنائي، حتى وإن إختزلنا عدد هذه الدول إلى نصف عددها الراهن.
    وبذلك يشكل العرب – مع التحفظ على تعميم المصطلح الذي لابد منه في السياق – أكبر شعب ذات نزعات إنفصالية على وجه الأرض!  كما أن تعايش وتصالح النخب العربية الثقافية منها والسياسية مع هذا الواقع الإنفصالي تؤهلها لتكون نخبا “إنفصالية”  بصيغة أو بأخرى. ما يسند فرضيتنا أن عدد من الدول العربية القائمة مرشحة اليوم بقوة للإنقسام، ليس اليمن بل كل من ليبيا وسورية وغيرهما. 
في الجوار العربي تتواجد أمة أو شعب سماهم العرب قبل غيرهم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام بالأكراد أو الكورد، أمة تمتلك من العوامل الموحدة والمشتركات الثقافية والأثنية بين أبناءها ما تؤهلها لكي تكون أمة مستقلة بذاتها. تعيش هذه الأمة على رقعة جغرافية متصلة وثابتة تقريبا منذ آلاف السنين، كما لديها في الوقت نفسه من المقومات، ومن العوامل والمحفزات الموضوعية ما يستدعي أن تعبر عن نفسها سياسيا وتؤسس دولتها القومية الخاصة، أكثر مما لدى الكثير من الشعوب والأمم التي تعيش في دول مستقلة، صغيرة كانت أم كبيرة. وبذلك يشكل الكورد أكبر شعب أو أمة بين شعوب وأمم الأرض، لم تتمكن من إنجاز إستقلالها السياسي، وبناء دولتها القومية المستقلة.
عمليا شارك الكورد عبر تاريخهم، وبحكم جوارهم اللصيق بالعرب، في نهضة الشعوب العربية. وقدموا للعرب الكثير من الدعم والمساندة التي لا مجال لذكرها. وعندما تحررت الشعوب العربية في مطلع القرن العشرين من الحكم العثماني، وأعلنت دولها الوطنية – الإقليمية ألحقت مناطق واسعة من بلاد الكورد (التي سماها أيضا البلدانيون والمؤرخون العرب قبل غيرهم بكردستان) بدولتي العراق وسوريا المستحدثتين عهدئذ. بدأت النخب العربية الحاكمة بإقصاء الكورد عن الإدارات، بدءا بدخول الملك فيصل دمشق عام 1918، وإلى أن تحولت حالة الإقصاء إلى إضطهاد، ومن ثم إنحدرت إلى هاوية القتل والإبادة الجماعية، إبان حكم البعث في العراق وسوريا.
حدثت هذه المأساة وبررت نظريا “بمحاربة دعوات الانفصال”، إذ عرف الأكراد مطولا في هذين البلدين “بالانفصاليين والمتمردين والخونة والمرتبطين بالاستعمار”، وبسبب هذه التهم تم محاكمة السياسيين، ونفذت بالعديد منهم أحكام الإعدام. كما تعرض المدنيين إلى حملات الإبادة، التي لا يمكن تصورها وتصديقها. فكان الكورد ومازالوا متهمين بتقسيم هذين البلدين، والتآمر على وحدة الأمة العربية التي تعيش حالة إنفصال منقطعة النظير. الغريب أنه لم يظهر على الساحة العربية أصوات تنادي بمساواة الكورد مع جيرانهم العرب، حتى إعتبارهم كقبيلة يحق لها إنشاء دويلة أو إمارة، باستثناء قلة من الشخصيات العربية النبيلة التي ساندت الكورد في تقرير مصيرهم السياسي، دون تهيئة البيئة والأرضية لذلك. حاليا في المناقشات الجارية لترتيب مستقبل سورية، أي دعوة تطالب بحكم محلي ذاتي أو إدارة إنتقالية للمناطق ذات الغالبية الكوردية، تفهم سلفا بأنها دعوة إنفصالية. علما أن القوى الكردية مازالت تطالب بالحقوق السياسية والثقافية داخل الوحدة السياسية لهذين البلدين.
 وعلى الرغم من ذلك لنفترض بأن الكورد طالبوا اليوم بالإستقلال، أو (الإنفصال) عن دول المنطقة التي تقتسم بلادهم، بمعنى التوجه نحو إنجاز الاستقلال وتكوين كيانهم السياسي على أرضهم وفي مناطقهم، فهم وحدويون وإستقلاليون من زاويتهم القومية الخاصة، وليسوا بإنفصاليين، إلا بالمعنى الميكانيكي والسطحي والإعلامي.
 كما سنفترض بأن الكورد سيحققون وحدتهم السياسية وينجزون بناء دولة قومية مستقبلا، فهي وإن كانت دولة جديدة بهويتها الخاصة، لكنها دولة لا تختلف كثيرا عن مجموع الدول العربية القائمة، فمشروعية قيامها لا تقل بأي شكل من الأشكال عن مشروعية قيام وإستمرارية الدول القطرية العربية، ولاتختلف بيئتها الاجتماعية عن بيئة الدول العربية. فيمكن اعتبارها “دولة عربية” إضافية، أو دويلة قريبة جغرافيا وثقافيا من العرب. ومهما كان شكل هذه الدولة فهي لن تكن كائنا سياسيا استثنائيا، بل دولة عادية مثلها مثل سائر الدول المتعددة في الجوار. ولم لا تكون دولة كردستان دولة صديقة؟!، تتمركز في زاوية ما من جغرافية هذه المنطقة التي تعج بالدول والممالك العربية وغير العربية. ولنفترض أيضا بأن عدد دول الجامعة العربية أو المنظومة الإقليمية العربية قد زادت بدولة واحدة، هل ستقوم قيامة جيوسياسية؟! أم ستحل كارثة اجتماعية؟  ستكون على الأرجح دولة جارة وصديقة تفصل بين كل من دولتي إيران وتركيا، وتعيد صياغة حجميهما الحقيقي. إذ أن معظم مساحة المناطق الكوردية وثقل سكانها واقعان تحت حكم دولتي تركيا وإيران المستقرتان.
في الوقت الذي تشهد الساحة العربية الغليان والتناقضات وخاصة اليمنية منها، تثير موضوعات الإستقلال ، الإنفصال والإتحاد العديد من الأسئلة المصيرية، لأن مسلمات الركون لشكل وعدد الدول السابقة تهتز يوما بعد آخر، والتناقضات التي برزت في الساحة اليمنية، تشكل مفتاحا لمرحلة جديدة وخطرة، قد لا تسعفها شكل الإتحادات المحلية فقط. وعلى الرغم من اتفاق الأطراف اليمنية على قيام دولة اتحادية  مؤلفة من ستة أقاليم، غير أن قياديات عديدة وخاصة في الحزب الاشتراكي اليمني، الذي كان يحكم الجنوب قبل قيام الوحدة اليمنية في عام 1990 يفضلون العودة إلى شكل الدولتين اليمنيتين.
 تجربة اليمن كدولة عربية أصيلة ومتمركزة في عمق الجغرافية التاريخية العربية، وما مرت بها من صراعات على السلطة، منذ أكثر من ستين سنة، وصولا إلى الصعود الحوثي الأخير، فالعودة الى خيار الانفصال في أكثر من إقليم، تساهم في تهشيم العديد من القناعات والمسلمات…  فهذا الشعب العربي الأصيل غير قادر أن يحافظ على إرثه التاريخي ودولته، ووحدة مجتمعه؟! لقد تفاقمت النزعة الاقليمية والقبلية إلى مستوى من التعطشف للكيانات الصغرى، لدرجة أن الخطاب الإعلامي للحراك الجنوبي، وخاصة (فضائية عدن) تصف قوات الحكومة المركزية: “بقوات الإحتلال اليمني”؟! 
 العديد من الأسئلة الملحة ستظل بدون إجابات وافية، قبل التحقق من أغلب الافتراضات السابقة، والتأكد من إستقرار الدول العربية القائمة، لذلك من الصعب أن نحكم على حقيقة من هم الإنفصاليون، ومن هم الوحدويون من بين مكونات شعوب المنطقة ونخبها، قبل أن نعيد قرأة الواقع وتضاريسه بعين نقدية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…