إيران بين الدور والإنتصار

 آزاد احمد
علي

تصاعدت في الأيام الأخيرة وتيرة السجالات، كما نشرت عشرات
المقالات حول إنتصار ايران، ونجاح مشروعها في المنطقة. إلى آخر هذا النسق من الخطاب
التهويلي السياسي، وإمتلأت صفحات العديد من الجرائد العربية بمقالات مكررة، لكتاب
معروفين ومحترمين تصر على موضوعي خطورة ايران وانتصاراتها.
قبل عام ساد مناخ
اعلامي – سياسي مشابه، فما الذي تغير؟! نشرت حينها مقال بعنوان: لماذا إنحنت القوى
العظمى أمام حكام طهران؟  في محاولة لإستشراف الدور الإيراني المتوقع. يبدو اليوم
وعلى الرغم من المتغيرات العسكرية على الأرض، أن المناخات السياسية لم تتغير في
المنطقة، وعلى المهتمين أن يتنبهوا لحقيقة أن إيران لا تقوم إلا بتنفيذ أجنداتها
المتوافقة مع طبيعة الحكم فيها، وتقوم في المحصلة بدور يتناغم كثيرا مع (المشروع
الغربي) إن جاز التعبير. 
ولمعرفة جوانب مفترضة من هذا الدور أدعو القارئ الكريم إلى قراءة ما كتبت في العام
الماضي من جديد: “ثمة قاعدة سياسية تشير إلى أنه اذا لم تستطع مواجهة العاصفة
فانحني لها، فأي عاصفة هبت أو كادت ان تعصف لدرجة أن انحنى قادة القوى العظمى – بل
قادة الغرب بتعبيره الواسع – أمام حكام طهران، الذين يفترض أنهم غير قادرين على حكم
إيران بطريقة ديمقراطية وشرعية. 
أنجز إتفاق جنيف الخاص بالملف النووي
الايراني في ساعة عصيبة ومتأخرة من مساء السبت  23/11/2013، لكن الطريقة الكرنفالية
لحفل التوقيع، وما صاحبه من عناق حار بين ممثلي القوى العظمى، وخاصة بين كيري
وآشتون، إن دل على شئ إنما يدل على أن إنجازا كبيرا وإتفاقا إستثنائيا قد تحقق. لقد
كتب الكثير عن الاتفاق – الصفقة ((Deal، لدرجة إن المتابع لم يعد قادرا في الأسابيع
القليلة الماضية ان يتصفحها، والتمعن في التحليلات العديدة التي
تناولتها.
 
ثمة انجاز وحدث مهم بكل المقاييس، لكن أي انجاز ولصالح أي طرف؟
وما السر في هذا الفرح الطفولي العارم الذي ساد اوساط الموقعين بعد التوقيع؟ فكلا
الطرفين قد احتفلا بالحدث! ان المشهدية الاحتفالية المبالغ بها، وكذلك الدراما
الاعلامية – السياسية التي رافقتها، قد تهدف الى التعتم على بعض الحقائق، فالحدث،
وبالتالي مشروع الاتفاق الأولي ليس بهذه الأهمية بحد ذاته، بقدر أهميته في التمهيد
لقضايا سياسية واستراتيجية أكبر، وملامسته لمسائل ذات علاقة عضوية ببيئة الاتفاق
وأطرافه.
 السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه بمناسبة توقيع هذا الاتفاق،
واستمرار انعقاد جولات التفاوض، ماذا لو  تمكنت طهران من امتلاك القدرات التقنية
لصناعة قنبلة نووية؟ مالذي يميزها عندئذ عن كوريا الشمالية، أو بشكل أكثر دقة عن
باكستان المجاورة. ومتى كانت الدول الصغيرة قادرة على تحقيق اضطراب كبير في توازن
الرعب النووي الذي تم تثبيته بين القوتين النوويتين الرئيستين بعد الحرب العالمية
الثانية؟
 يمكن طرح مائة سؤال فرعي آخر دون الحصول على اجابات مقنعة، لذلك
يفضل التركيز على بحث المسألة خارج  الموضوع  النووي، أو على تخومه في أقل تقدير.
ويستحسن احالة الحدث الى ما يشبه نهاية دراما طويلة لعلاقة حكام ايران مع
الغرب.
 اول فصل في الدراما تدور حول ملابسات تنحي شاه ايران السابق، والتي
تذكرنا اليوم بطريقة تنحي زين العابدين بن علي في تونس. ثم بدأت الحلقة الثانية مع
هبوط الامام الخميني من طائرة فرنسية في مطار طهران. وزيادة التوتر بين الحكام
الجدد وأمريكا لاحقا اثر احتلال الطلاب لسفارتها في طهران نهاية عام 1979، مرورا
بالحرب العراقية – الايرانية، حيث لم يترك الغرب حكام طهران الجدد وحيدين في مواجهة
نظام صدام (ايران غيت). والملفت أنه قد رافق التوتر في العلاقات الغربية مع نظام
طهران عدم اهتمام بالمعارضة الايرانية العلمانية والاسلامية المختلفة جوهريا عن حكم
الملالي، خاصة الكردية واليسارية منها، هذه القوى التي ساهمت بفعالية في قلب نظام
حكم الشاه، وتثبيت اسس ثورة الشعوب الايرانية. فقد صنفت أغلب الدول الغربية منظمة
مجاهدي خلق ضمن المنظمات الارهابية، ومهدت موضوعيا لتفيكيك قوتها، خطوة بعد اخرى
لصالح الحكم الجديد في طهران، عن طريق تأمين المناخ لعزلها ودفعها الى أحضان نظام
بغداد، وبالتالي هبوطها نحو أدنى درجات الضعف، وفقدان القاعدة الشعبية، فالفشل
السياسي. الى أن تم قتل وتشريد ما تبقى منهم في معسكر أشرف في السنوات
الأخيرة. 
 في الجانب الآخر المثير لدهشة المراقبين والمهتمين والمنطوي على
الكثير من التناقض، نجد اهمالا شبه تام للمعارضة الكردية الايرانية القوية والعريقة
(حيث انها اسست جمهورية في كردستان ايران عام 1946)، اذ أنها لم تتلقى اي دعم او
تعاطف من قبل الغرب الأورو – الأميركي يوما، لذلك وبعد أن كانت على وشك إعادة إعلان
إستقلال كردستان الايرانية بين أعوام (1979- 1982)، تراجعت عاما بعد آخر. وتم تصفية
قيادتها بالقتل المباشر في اوربا (سكرتيري الحزب الديمقراطي الكردستاني في ايران د.
عبدالرحمن قاسملو، وصادق شرف كندي)، والغريب أن المتهمين بالقتل يتجولون في اوربا
بزيارات عمل حكومي ودبلوماسي.  فصول قصة تدليل (الغرب) لحكام طهران قد بدأت منذ
أكثر من ثلاثين سنة ولم تنتهي بعد، دون أن تنتابها إلا  شيء من الصراع  الظاهري
والخلاف ذات الطابع الاعلامي والدبلوماسي.
حتى انه قبل عدة أيام من اتفاق
جنيف تم إعدام عدد من المعارضين البلوش (السنة) بتهة الارهاب، اضافة الى أن إعدام
العديد من النشطاء الكورد (العلمانيين السنة) مستمر قبل وبعد لقاءات جنيف، دون
ايلاء اي أهمية للحدث المروع، من قبل الجهات الغربية المختصة، ودون اعتراض من احد،
لا المنظمات الانسانية الاورو- امريكية، ولا ممثلي الحكومات المتفاوضة مع طهران.
لقد اغلقوا اعينهم تماما، لدرجة انهم لم يوظفوا سلسلة الاعدامات حتى كورقة في
المفاوضات كالعادة.
لايمكن ان أكرر ما قيل بخصوص هذا الاتفاق خاصة في شقه
التقني، لكن ما يبدو لي مؤكدا، ان الغرب متمثلا في القوى العظمى قد قدمت خدمة
سياسية كبرى لحكام طهران، فاما هذا الغرب ساذج، على الرغم من نفي هذه التهمة من قبل
الوزير كيري بعد توقيع الاتفاق، واثناء زيارة التطمين للمملكة العربية السعودية:
“نحن لسنا سذجا في التعامل مع ايران”، أو أن القوى العظمى تفتعل هذه السذاجة
كإستكمال لفصول قصتها مع حكام طهران، ولتحقيق هدف مستقبلي رئيس متمثل في إعادة
تأهيل نظام الملالي سياسيا، وانقاذه اقتصاديا، وفك عزلته، وإلا لماذا مهدت الطريق
 للطبقة الحاكمة في طهران لتحقق هذا المنجز السياسي والدبلوماسي بعد ثلاثين سنة من
حكمها المطرب، وفي ذروة أزمتها المركبة؟
  لقد مر الحدث – الاتفاق كنهاية
لخديعة كبرى، وتم ادراجه كخاتمة لمشكلة وموضوع باهت ومستهلك هو (امتلاك السلاح
النووي). فاذا كان ممثلي الغرب ليس سذجا، وهم كذلك بالتأكيد، فمن السذاجة أيضا أن
لا نأخذ من مجمل  سيرة  تعاملهم مع حكام طهران بعض النتائج الجوهرية:
أولها
ان الغرب الحاكم لاينظر الى القضايا العالمية بمنظار أخلاقي ولا عاطفي، وإنما يقيس
المسائل بمعايير المصالح والنتائج العملية، وحسب قاعدة: درئ المخاطر وتأمين
المكاسب. وقد نجح حكام طهران في فهم هذه القاعدة، وتوفير إجابات واضحة لها، خلال
عدة عقود. فقد أثبتوا أنهم قوة مخالفة على الأرض، قادرة على خلط الأوراق، وقلب
الحسابات الاقليمية، وتقويض السياسات الأمريكية والغربية بطرق وأساليب شتى.   سياسة
الغرب الراهنة تفتقد الى منظومة قيم أخلاقية، كما أنها غير محملة بمضامين فكرية
واضحة، وهي بعيدة عن هموم وتطلعات شعوب المنطقة، لذلك بدت مشوشة ومضطربة وفي
المحصلة ضعيفة وتحتاج الى مسار جديد، بل الى سند اقليمي، لإعادة ترسيم مسارها. اذن
ما هو تفسير تظاهر حكام طهران بالقوة، وحتى التهديد بالغاء الاتفاق قبل وبعد كل
جولة جديدة من المفاوضات، سوى حاجة الغرب لدورهم الجديد.
لقد ساهم ايضا في
تفضيل الغرب النسبي لحكام طهران في هذه المرحلة المضطربة من تاريخ الشرق الأوسط،
فشل النموذج التركي وعدم إسلتهامه في العالمين العربي والاسلامي. كما أن أخطاء
الاخوان المسلمين في مصر عجلت من إعادة النظر في (المشروع المتعاطف) التجريبي
والحذر، لاستلام تيار الاسلام المعتدل للحكم في بعض الدول العربية.
أخيرا
يبدو أن انقسام العالم الاسلامي بين دول ومرجعيات تقليدية (السعودية، مصر، تركيا)،
وطبع الحركات الجهادية والسلفية المتطرفة بختم (الاسلام السني)، قد توجت حكام طهران
كقطب مذهبي أكثر اعتدالا، ومرجعية سياسية وروحية اسلامية منفتحة فكريا، وأكثر
تنظيما وتمركزا. لقد تشكل موضوعيا في العقود الأخيرة قطب مذهبي وحيد وصلب، قادر على
أن يرسخ الثنائية المذهبية الاسلامية، ويلبي متطلبات الغرب المرحلية بفعالية، وإن
عبر أجندات وشعارات مخادعة. 
وفي سياق عملية التشكل والتبلور هذا، تم منذ
عدة سنوات تفهم ومباركة التجاذب الروسي – الايراني السياسي، ومتابعة تطوره الى
مستوى التحالف في أكثر من مكان، ليتحول الى ما يشبه حلف أيديولوجي مذهبي أرثوزكسي –
شيعي لخرق وحدة العالم الاسلامي الظاهرية، وتثبيت انقسامه.
أخيرا ما يستشف
من حالة ضعف الغرب وانحنائه أمام حكام طهران، انها فقدت بوصلة التعامل مع العالم
الاسلامي في هذه المرحلة، وهي لاتخشى رقعة الفوضى التي قد تتسع فحسب، وانما وبالقدر
نفسه تخشى وحدة هذا العالم ووفاقه. وفي كلتا الحالتين قطبية وفعالية نظام طهران
مطلوبة، وهذا ما يهمها في المقام الأول، وليس مراكز تخصيب اليورانيوم في ايران،
الذي يدرك حكام طهران قبل غيرهم أنها محض مسألة (فيزياء تطبيقية).” 
   بعد
مرور عام على الإتفاق الأولي، ورجحان موازين القوى لصالح تيار طهران، التي قطفت أول
ثمار مفاوضاتها مع الغرب، وإستثمرت تماما عامل الزمن كعاتها، فما الجديد الآخر في
عام ايران الثاني؟  
  إن شئنا الدقة يمكن التجرؤ والقول لا جديد، فليسس ثمة
منجزات استراتيجية لصالح طهران، لأنه من الغرابة أن نتخيل ايران وهي لا تؤدي
وظيفتها الأيديولوجية، كما أنه من السذاجة أن نتصور إيران المذهبية في موقع غير هذا
الذي هي فيه! إن منظومتها المذهبية – السياسية مصممة للسير على هذه السكة. بمعنى
آخر إيران لم تحقق أي انتصار، قد يتمدد نفوذها قليلا أو كثيرا، لكنها تؤدي الدور،
وتملئ الفراغ فقط، أنها تجيد التفتيت والهدم، لكن من الصعب عليها بناء نظام اقليمي،
أو قيادته، وذلك لإستحالة تأسيس كيانات سياسية مذهبية معاصرة ومستقرة في المنطقة.
المشكلة إذن ليست في إيران بل في القراءات، القراءات السابقة واللاحقة
لها.
إيران لم تنتصر بالتأكيد، فقط الآخرون قد فشلوا في تنفيذ وبلورة
مشاريعهم، وخاصة قيادات ونخب العرب السنة في سورية والعراق، الذين يتمتعون بعناد
غريب للعيش في الماضي السياسي المجيد، ويفتقرون إلى القدرة على قراءة المتغيرات
بعين نقدية وموضوعية. حكام طهران يستنزفون طاقات المنطقة وإيران ولا مكاسب
استراتيجية في الأفق البعيد، حتى الشعوب الايرانية ستدفع الثمن، والأثنية الفارسية
قد تكون الخاسر الأول مستقبلا.

المصدر :” روداو

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…