الرأسماليون الجدد لنا ربنا ولكم شيطانكم ودولاراتكم

جوان حسين (كردي)

     في حياة كل سوري يوميات من
البؤس الذي لا ينتهي حدوده بمغص سياسي ، أو وجع اقتصادي ، أو ما شابه من أزمات و
ضغوط نفسية و اجتماعية، خرجت من أزمة الاستعصاء الكوني للمسألة السورية. كما هو حال
أبي جومرد الخمسيني في العمر حين خرج من بيته متوجها الى السوق ليشتري لعائلته ما
يلزم من حاجات ضرورية، فاصطدم بزوبعة الدولار الذي نكـّد حياته رأسا على عقب، فشتم
كعادته و احتجّ على الغلاء الفاحش، واسعار التي لا ترحم أحدا، وقد أصبحت على هوا
كل تاجر، وصاحب دكان، ما أن يسمع كلمة ” غالي كتير ” من أحد زبائنه حتى يرد علية
ببرودة قلب و لا مبالاة ” الدولار مرتفع ” في حين أن بعضهم يختلق ألف عذر، في سبيل
أن يبرّروا ربحهم المغشوش، ما دامت العملة الخضراء شريكة أرباحهم في كل صادر و
وارد،
 لكن ضيق يد أبي جومرد و عجزه عن تدبير حاله، ثم خبر صعود الدولار الى عتبة
الشيطان، كان كفيلا أن يعرضه لنوبة قلبية خفيفة، على أثرها نام يوما بتمامه في
المشفى دون أن يشعر بوجع المنغّصات التي اعتاد أن يتجرعها كل يوم، منذ أن بدأت
مسرحية الدولار و سعادة الحرامي، و بعد أربع و عشرين ساعة من راحة قصيرة، مات إثر
نوبة قلبية حادة، حين علم من أحد زائريه أن سعر الدولار تجاوز درجة الغليان و أصبح
مثل النار، طامة على رؤوس الفقراء، و صار أغلى من الانسان وكرامته.
       لم
يكن أبو جومرد أخر ضحايا العملة الخضراء التي تحصد في كل يوم أحلاما تنبت في سكون
اليالي، وتنتهي في كوابيس النهار، فبين الحين و الحين و على وقع قذيفة أو مجزرة، أو
كرّ و فرّ على شبر أرض في صحراء بعيدة ، يتأرجح ميزان العملات تباعا لزخّات الرصاص
و الصواريخ، و حجم الدمار والخراب، فأعداد القتلى و الجرحى، وفق خوارزميات الحرب و
المال يعني أن حاصل ما يرتكب من جرائم بحق الوطن بين المتحاربين، من قتل و تشريد و
تدمير و فوضى، فإن العملة المحلية تذوب في طاحونة الحرب و بالمقابل تصعد العملات
الاجنبية على أكتاف المواطن الذي عليه أن يدفع ضريبة وطن يتقاسمه مافيا الموت
والمال، هذه المعادلة الحرب – مالية المافيوية سحقت أحلام شعب بأكمله، و قضت على
طموح جيل من اطفال و الشباب، و في المقابل أنتجت طبقة جديدة من الرأسماليين الجُدد
الذين خرجوا من حضيض المجتمع، و انتهزوا فرصة الفوضى ليحققوا ما لم يحلموا به يوما،
مثلما فعل لصوص الثورة الروسية في القرن العشرين الذين تبوأوا فيما بعد سدّة المال
والسلطة في الدولة، و صاروا الى ما هم عليه اليوم من استبداد و فساد منظم لا يخضع
لدستور أو قانون سوى هيمنة المافيا الحاكمة الخارجة على شرعية الشعب.
       في
حين أن الرأسمال الوطني بقي الى أجل محدود يصارع سكرة الليرة المحلية حتى تمّ
تصديره لينجو بنفسه من شبح السقوط والانهيار الاقتصادي المفاجيء في أي لحظة، أما
الفئة اخرى من مستثمري الثورة فقد وجدوا أن الفرصة ملائمة أكثر من أي وقت مضى لفرض
هيمنتهم على اسواق، و جني ارباح الخيالية من خلف كواليس لعبة الحرب و الدولار،
بحجة فقدان الأمن و هبوط العملة المحلية الى درجة صار فيها المواطن العملة الأرخص
في بورصة السوق. فلم تعد ظاهرة اختلاف الاسعار بين تاجر و آخر أمرا مثيرا للدهشة
طالما أن الاعذار و الحجج وجدت عن سبق اصرار و تصميم، لتبرير التحول الاقتصادي
الجديد. لهذا تحولت الأسواق شيئا فشيئا في الشارع السوري الى غول يبتلع الفقراء و
أصحاب الدخل المحدود، و غدا المواطن سلعة في سوق العرض والطلب يرتفع ضغط دمه مع
ارتفاع الدولار، و تنتظم انفاسه مع هبوط العملة و هو بين حالتي الانكماش الاقتصادي
و انحسار الضمير الإنساني يتعرض بين الليلة و ضحاها لعشر هزات نفسية و عقلية، كلما
استجدّ جديد في اسعار صرف العملات.
       إن ميلاد الرأسماليين الجدد يزيل
الغموض عن أي لبس لواقع تدهور الاقتصاد الوطني، و هبوط القيمة النقدية لليرة
المحلية أمام الارتفاع الحاد للدولار و اليورو، و بالتالي لم يبق مثيرا للدهشة أن
يتبوأ الوطنيون الجدد و أذنابهم من المنتفعين باستمرار الثورة الى أمد طويل،
ليستثمروا الفوضى وغياب الرقابة من أجل جمع أكبر قدر من الثروات و أموال الشعب،
الذي دخل رغما عنه في لعبة تجّار الثورة و الحرب، يفكر في قوت يومه، وسداد رمقه، و
يقتات على أمل العودة الى الماضي الجميل، أو المستقبل المهدد بشبح الدولار الذي
ينبئ طلوعه الحاد بين الحين و الحين، وسيطرته على أغلب مفاصل الحياة، بغد وخيم لن
ينجو منه الشعب مرور الكرام، إذا ما استمر الوضع الراهن نحو انهيار البنى التحتية و
المؤسساتية، عماد الاقتصاد الوطني، عندئذ سيحصد الدولار مزيدا من الأرواح و يزيد في
حجم الفجوة الاجتماعية بين طبقة ساحقة من الشعب لا تملك أبسط حقوق العيش، و فئة
قليلة من الرأسماليين الجدد الذي يملكون السلطة و المال.
كاتب و مخرج
سينمائي

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس في لحظات التحولات الكبرى، لا يرحم التاريخ أولئك الذين عجزوا عن رؤية الإشارات حين كان بإمكانهم أن يتداركوا المسار، وعلى مفترق المصائر، لا يُقاس القادة بما كانوا يلوّحون به من شعارات، بل بما أنجزوه أو فرّطوا فيه عند الامتحان. اليوم، تقف حكومة أحمد الشرع عند منعطف مصيري خطير، وإلى الآن لا تزال أمامها فرصة حقيقية…

نظام مير محمدي * الجدية والحسم، مطلبان غربيان صارا يفرضان نفسهما على أي حوار أو تفاوض مع النظام الإيراني بشأن برنامجه النووي، ذلك إن هذا الموضوع قد إستغرق وقتا أطول بکثير من ذلك الذي يستحقه ويتطلبه. منذ أن بدأ الغرب بالتفاوض مع النظام الإيراني من أجل معالجة سلمية تضع حدا لظلال الشك المخيمة على برنامجه النووي، فإن الضبابية والغموض کانتا…

ألبيرتو نيغري النقل عن الفرنسية: إبراهيم محمود ” تاريخ نشر المقال يرجع إلى ست سنوات، لكن محتواه يظهِر إلى أي مدى يعاصرنا، ككرد، أي ما أشبه اليوم بالأمس، إذا كان المعنيون الكرد ” الكرد ” لديهم حس بالزمن، ووعي بمستجداته، ليحسنوا التحرك بين أمسهم وغدهم، والنظر في صورتهم في حاضرهم ” المترجم   يتغير العالم من وقت لآخر: في…

شادي حاجي مبارك نجاح كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي في روژآڤاي كردستان في قامشلو ٢٦ نيسان ٢٠٢٥ الذي جاء نتيجة اتفاقية بين المجلس الوطني الكردي السوري (ENKS) واتحاد الأحزاب الوطنية (PYNK) بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي بعد مفاوضات طويلة ومضنية على مدى سنوات بمبادرات وضغوط كردستانية واقليمية ودولية وشعبية كثيرة بتصديق وإقرار الحركة الكردية في سوريا بمعظم أحزابها ومنظماتها الثقافية…