مهادنة مع الأعداء ومواجهة مع الأبناء

قهرمان مرعي
منذ أن ترسّخت فكرة لكل جزء من كوردستان ظروفه الذاتية والموضوعية بمعزل عن الأجزاء الأخرى و كذلك بأن حل القضية الكوردية لا تُحَل إلا في عواصم الدول الغاصبة، أقنعت أغلبية أحزاب الحركة الكوردية نفسها وأنصارها في الجزء الكوردستاني الملحق بالدولة السورية، بأنه لا حل لقضية الشعب الكوردي إلا في دمشق ولم تزل تلك الأغلبية تكرر رؤيتها ولا تترد بالإفصاح عن قناعاتها، بعد ثماني سنوات من إجرام نظام الأسد بحق السوريين عموماً، لهذا أصبح مهادنة النظام وسياساته الإقصائية واستبداده وإجرامه قبل الثورة وخلالها ولغاية تاريخه، جزء من الرؤية السياسية لأغلبية أصحاب الأحزاب، حيث أصبح لكل حزب (سياسي) في الحركة الكوردية، مالك حصري، أرتبط الحزب بشخصه، بحيث يشكل ترادف الاسمين، اسم الحزب واسم صاحبه، علامة فارقة عن النسخة المكررة من العناوين الحزبية .
 فمن جملة تبريرات تلك المهادنة التي يلوحون بها ويرفعونها في وجه ناقديهم، الواقعية السياسية والمقارنة بين سياسات النظام خلال الثورة السورية والمعارضة السياسية والمسلحة إضافة إلى عامل التدخل الإقليمي الدولي، بحيث أصبح مناطق النفوذ تلون السكان والنفوس بصبغتها من خلال السيطرة على الأرض وارتهان القرار السياسي لتلك المعارضات أو النظام لمصالح تلك الدول.
لا شك أنَّ الرؤية السلمية لحل القضية الكوردية، كإستراتيجية تبنتها الحركة السياسية الكوردية في سورية بالمقارنة مع الكفاح المسلح في الأجزاء الأخرى من كوردستان، فرضتها الظروف الموضوعية والذاتية ولكن، جعلت هذه الحركة أسيرة تلك النزعة ، مما جعل النظام وخاصة بعد انقلاب حافظ أسد/1970 يستغلها أبشع استغلال، بالتآمر والإنكار, من خلال سياسات استيطانية وإجراءات أمنية، طالت الهوية القومية، قابلتها الحركة بمزيد من الاستكانة والجمود،  و كان لمجرد تبني شعار عام  كحق تقرير المصير للشعب الكوردي في سوريا، من أحد الأحزاب، في بداية الثمانينات من القرن الماضي كفيل بتكالب أغلبية أحزاب الحركة بمواجهته نيابة عن النظام والتصدي له، في مسعى منهم لترضية دكتاتور دموي يقود نظاماً عسكرياً و أمنياً اجرامياً ، كإجراء احترازي  بعدم  نقل عدوى هذه الفكرة العالمية إلى الجماهير الكوردية وتقية سياسية  مُتجذّرة  في الوعي الحزبي الكوردي بعدم المساس  بالشعور القومي للقومية السائدة وعدم الاقتراب من منطلقات بعث الأمة للحزب الحاكم (البعث الأسدي) تلك المنطلقات التي تلغي الآخر المختلف مع وثنيتها اثنياً وتواجهه بالتوغل والابتلاع، بحيث لا يصح  مزاحمتها بحقوق الشعوب التي تشاركها في الوطن ولو بحد الدرجة الأدنى وكما كان دارج ولم يزل في أدبياتنا السياسية بأننا نُشكّل القومية الثانية من خلال الإشارة إلى عدد سكان الكورد، دون أي اعتبار للأرض و الجغرافية و المشاعر القومية و الخصوصية الثقافية والحقوق المشروعة .
بالجرد الحسابي ما كان من المتوقع  وقوعه بقضاء { الله } و قدره من ضحايا، لو تم اختيار بما يسمى بالنضال السلبي طويل الأمد والمواجه السلمية مع النظام بدءاً من التظاهر إلى الاحتجاج والعصيان المدني كمنهج للحفاظ على أرواح شعبنا و ما تم التضحية به من الشهداء  بالتآمر من النظام يفوق تضحيات الكفاح المسلح في بقية الأجزاء قبل الثورة وما جرى على أرض الواقع، من خلال تمكين تجنيد الشباب والشابات في سنوات عمر التعليم والبناء، لصالح منظومة (ب.ك.ك) منذ /1984، كان كفيل بتحقيق مشروعنا السياسي بإجبار النظام على الاعتراف بحقوقنا القومية ورفع السياسات الاستثنائية المفروضة على مناطقنا، وتنمية إقليمنا الواحد امتداداً من الجزيرة إلى عفرين مروراً بـ كوباني  وما حصل خلال الثورة السورية ـ آذار/2011 من التفاف على مطالب الحراك الثوري في المناطق الكوردية بالتوازي مع تطور مراحل الثورة في عموم سوريا، جلبت الويلات على أبناء وبنات الشعب الكوردي من خلال التضحية بآلاف الشهداء في ظل معادلة معقدة من تشابك الصراعات الإقليمية والدولية  للأزمة السورية تتحمل الحركة السياسية الكوردية المنقسمة على نفسها جزءاً كبيراً من المسؤولية لأسباب كثيرة يأتي في مقدمتها بقائها أسيرة سلوكها الخانع مع الاستبداد وعدم قدرتها عن الانفكاك عن ارثها النضالي المستكين والمهادن، وهنا من الممكن الإشارة إلى الصور التي تحصل الآن من اصطفاف لتسويق فكرة عودة النظام من خلال تجديد خطاب الحل يبدأ من دمشق والتمجيد لبطولات الوكلاء، منظري ومنفذي الثورة المضادة، الذين لا يكتمون عن استمرار العلاقة العضوية مع النظام، التي هي في طور الشراكة المتجددة والاتفاق المرتقب وفقاَ لتطور الأحداث في شرق الفرات، فيما المؤشرات تدل على أن المساومة بهذه العلاقة تقترب أكثر في موعدها وفقاً للتقارب الروسي التركي الذي تعزز في الفترة الأخيرة من خلال صفقة صواريخ إس400، فيما موقف الإدارة الأمريكية يتوزع  بين الحل السياسي مع بقاء النظام و الحفاظ على تحالفها مع تركيا دون جدوى وإخضاع إيران سياسياً واقتصادياً في ظل تطورات الأوضاع الأمنية في الخليج وبحر عمان، فيما يزداد وتيرة الآثار الكارثية  في الواقع على الوجود الكوردي، يفوق على ما لو اخترنا المواجهة مع النظام في البداية، على ما كنا  نأمل تعزيزه بالسلم والمراوغة وقصور الرؤية ، وها نحن نتعرض لسياسة الأرض المحروقة، يطال البشر والشجر والحجر بدءاً بتدمير كوباني ومروراً باحتلال عفرين و انتهاءً  بالجزيرة بالإفراغ والحرق والتهديد .
 كان الخوف هو الهاجس الذي لا يغيب عن بال منظري سياسات الحركة الكوردية الأتقياء، هو عدم خلق المبرر لنظام الدكتاتور المجرم ـ الأسد الأب، بالاستفراد بالحركة السياسية الكوردية كما حدثت لحركة الإخوان المسلمين في سوريا وبالتالي الحفاظ على ذواتهم الاعتبارية  كأحزاب هشة قابلة للانقسام، غير فاعلة على الساحة، بل وصل رد فعلهم الإستباقي بالنيابة عن النظام، الوقوف في وجه كل فعل نضالي عند كل محطة نتجت عن متغيرات عالمية أو إقليمية، كما حدث عند سقوط الإتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية الفاسدة في تسعينيات القرن الماضي، على إثر المحاولات التي جرت من مجموعة أحزب في طور الوحدة، للخروج من السرية المُكبِلة، إلى الاحتجاج في الشارع  وكذلك عند سقوط بغداد وانتفاضة الشعب الكوردي في آذار/2004 .
والأمور لا تحتاج إلى مزيد من التدقيق ما حصل ويحصل بين الأحزاب الكوردية من صراع على استئثار القرار في مختلف أوجه العمل الجماعي من تحالفات سابقة ولاحقة، لتوجيه إرادة أنصار الحركة  نحو الخنوع والإذلال من خلال تقزيم  قضية شعب حي، مضحي إلى حد اللامعقول، بسبب التعاطف الصرف مع قضيته القومية في عموم كوردستان وأصبحت الآمال مع مرور الزمن تتحول وهماً وسراباً مع ازدياد عوامل الفشل بعد كل انعطافة مصيرية  وما حدث للمجلس الوطني الكوردي من مواجهة، من قبل منظومة (ب.ك.ك)، وهو في طور التأسيس من الداخل من خلال أصحاب الأحزاب وأشباه الأحزاب والشخصيات المستقلة، الذين كانوا يمثلون الطرف المناقض لفكرة الحرية والكرامة ناهيك عن مناصرة الحق المتمثل في عدالة قضيتنا القومية والإنسانية و ما حصل من اصطفاف خلف الثورة المضادة في غرب كوردستان ومناطق التواجد الكوردي، دليل دامغ لا يقبل الشك على بؤس هذه الحركة السياسية إذا اعتبرناها تضم كل حزب يحمل اسماً  كوردياً ضمن جناحها المكسور . وتفاقم الأمر عند دخول الأحزاب المتبقية في المجلس الكوردي مرحلة الامتيازات و الكسب الشخصي، المادي والمعنوي، لأسباب معروفة لعامة الناس، يعود جزء من الأسباب إلى ما حدث من تدخلات دولية وإقليمية  في القضية السورية عامة وأخرى خاصة تتعلق بـالوعي الظاهري غير المكتمل للشخصية القيادية الكوردية القابلة  للتحول نحو الانكفاء الشخصي، بمجرد وجود الإغراءات، من وجاهة ومال وتغيَّر الحال، وهذه الأوضاع بمجملها تعمل فعلها الانشطاري في جسم الحركة وتنعكس على الحياة الداخلية لتلك الأحزاب، وما حدث لحزبنا يكــيتي الكوردي / الكوردستاني خلال مؤتمره الثامن المنعقد في نهاية عام /2018، ليس وليد تلك المحطة الشرعية، التي تأخرت لثلاث سنوات، بل نتيجة حتمية لتراكمات سلبية  قاصمة و سابقة، كانت محل مناكفة ومنازعة لأكثر من عامين بسبب اختلاف الموقف السياسي لقضايا معروفة تتمحور حول خصوصيتنا القومية، في خضم الصراع السوري والإقليمي، بدأت بالاستفراد وانتهت بالتكتلات التنظيمية، الإقصائية التي عملت على تحييد الآخر المختلف بتهميش دوره حيناً و تكبيله بإجراءات تنظيمية كيدية حيناً آخر و بالتالي إبعاده عن دائرة القرار (ديمقراطياً …؟ ) وفق ظاهرة التصويت في مجتمعاتنا المتخلفة المكبلة بالموروث الثقافي الثأري الشخصي و القبلي و المناطقي أو تفويت الفرصة بوضع شروط وآليات الترشيح على مقصلة تنظيم الداخل والخارج، بهذه العقلية تم ضرب الركيزة الأساسية لحزب مناضل قائم على التنوع واختلاف الرؤيا التي صقَّلتها تعدد المنابع المعرفية وعلى خطابه السياسي الواضح والعمل النضالي الميداني لقادته وكوادره وأعضاءه مما أكسبه المزيد من الأنصار والمساندين الأوفياء لهذا النهج القويم .
كان بإمكان أغلبية اللجنة السياسية الحالية، التي تدعي بإنفراد الشرعية، من خلال الاستئثار بإمكانيات الحزب وتمثيله وعلاقاته، كما هو حال كل انقسام حزبي يصاب به  جسم الحركة السياسية الكوردية وعلى اعتبارها كانت، أعلى هيئة تنظيمية وسياسية، كان من الواجب أن تمارس صلاحياتها كحاضنة تنظيمية، بتغليب الإرادة الجماعية الواعية عن تلك الإرادة الشخصية المتنازعة  والبدء من ظاهر الأمور و منطق الأشياء، بتنفيذ مقترحات (اللجنة الاستشارية)في البدء كاملة، بعد أن تم التوافق عليها مباشرةً من الطرفين، وعدم التردد والمماطلة، لإعادة الثقة والبناء عليها من جديد مع  أعضاء القيادة المستنكفين، لأن المهمة الأساسية لتلك الهيئة العليا ، كانت الحفاظ على وحدة الحزب وبالتالي إيجاد الحلول لمعظم المشاكل والمعضلات التي تعترض مسيرته التنظيمية، وما حصل من مقترحات ومناشدات من داخل الحزب ومن أنصاره الذين وقفوا معه في مسيرته النضالية في مواجهة النظام المجرم والذين فاقت أعدادهم  حجم كل التوقعات خلال  مسيرة الحركة السياسية الكوردية في سوريا و كذلك من النخب السياسية والثقافية المستقلة والمؤثرة في المشهد السياسي والثقافي، دفع  الطرف المستقوي بالأغلبية العددية إلى مزيد من التصلب وعدم المرونة،، باتجاه قطع الطريق عن كل المحاولات التي كانت تهدف صيانة وحدة الحزب، مما دفع الطرف الآخر المستمسك بموقفه السياسي، إلى ردود الفعل وتشكيل هيئات تنظيمية موازية، و ما تلاها من إجراءات التهديد والوعيد و الفصل والطرد بدل القبول والانسجام وإعادة الاعتبار، نتجت بالمحصلة تنظيمين (كوردستانيين) باسم واحد،  مع بقاء الكثير من الأعضاء  والكوادر والقيادات السابقة خارج الحزبين، قد يتبلور إلى  إصطفافات أكثر وضوحاً  مع مرور الزمن .
الهدم في الحالة الحزبية الكوردية، لا يحتاج إلى مزيد من التعقيد و الجهد. قد يحصل بفعل شخصي متغِّول أصبح بحكم الاستفراد والامتيازات  ذو تأثير على مجموعته التي تشاركه في المصلحة و التي تنموا عادةً مع مرور الزمن على حساب قدسية المبدأ وفق مربط التابع يتبع المتبوع  والذي  يهدف بالأساس إلى الانتقام،عندما ينازعه الآخرون على المنصب أو عندما يرى من يخالفه الرأي ويضع له الحدود و يسهل الهدم عندما تتقاطع مصالح بعض الأشخاص المتنفذين معاً، على الرغم من اختلاف وجهات النظر، قد  يؤدي على المدى المنظور قرباً أو بعداً إلى انعدام الثقة، حيث سيتكرر مشهد الانقسام بينهم عندما ينتهي الاحتياج، على عكس مراحل البناء السياسي والتنظيمي المتسلسل والمتراكم، القائم على الجهد الجماعي وعلى مسار المشروع السياسي الذي يتم إقرار برنامجه والتكييف مع واقع الحال وفق المتغيرات والمعطيات التي ترافق مراحل تنفيذه من خلال الرؤيا الواضحة والمبصرة واستثمار التنظيم وتنميته بشرياَ على مبدأ التنوع والاختلاف الحر الغير مقيّد  في الرأي وعلى مبدأ تكافئ الفرص و التمكين و المنافسة الايجابية والتضحية والاحترام القائم على الصدق، لأن العمل الحزبي بالأساس انتماء طوعي، يجمع الأعضاء هدف مشترك وغاية نبيلة والتزام أخلاقي وفي حالتنا قائم على نكران الذات في سبيل قضية عادلة لشعب عانى الويلات ولم يزل، وفي كل الأحوال البناء يلزمه بنائيين ولكن البنائين ليسوا كلهم مهرة.     
  في 27/6/2019

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…