د. محمود عباس
إشكالية تركيا مع الناتو وأمريكا حول س-400 عسكرية وليست سياسية، بعكس خلافاتهم على سوريا وليبيا ومصر، أو الدعم التركي للمنظمات التكفيرية، فلأول مرة في تاريخ العلاقات بينهم، وخاصة منذ انضمام تركيا إلى الناتو يطفوا الخلاف العسكري إلى هذه السوية من الحدة، والتي قد تؤدي إلى تعميق نتائج غير التي انتهت إليها تضارب موقفهما السياسية في الماضي، وعليه يتردد بين دول الناتو مقولة: وهي أن تركيا ليست حليفة ولا هي عدوة، أو كما يقال أحيانا أخرى أنها حليفة وليست صديقة، رغم ما قاله رئيس الناتو الجنرال جينس ستولتينبورغ كتهدئة للوضع” أن تركيا كعضو في الناتو أكثر أهمية من س-400″ ويعتقد أن عداوة تركيا لأمريكا أكثر من امتعاض أمريكا لها،
ولذلك فالمواجهة قد تنتهي بعد فترة، فيما إذا استمر دونالد ترمب على موقفه المرن معها، وخاصة وأنه حتى الأن لم يوافق على مطلب الكونغرس بفرض حصار اقتصادي عليها، كما وأنتظر قرابة أربعة أيام قبل أن يخرج بتصريحه وبانتقاد خفيف، عند وصول الدفعة الأولى من مواد الصواريخ الروسية إلى القواعد التركية، والأبعد أن الرئيس دونالد ترمب ولأكثر من مرة وضع اللوم على الرئيس السابق براك أوباما بدفع تركيا إلى شراء الصواريخ الروسية لتعقيده صفقة بيع صواريخ الباتريوت الأمريكية لها.
ومن جهة أخرى، يتوقع البعض من المراقبين العسكريين أن غاية تركيا من هذه الصفقة هي التأكيد على استقلالية قراراتها رغم عضويتها في الناتو، والتي بينتها حكومة العدالة والتنمية بشكل صريح وواضح في العقدين الأخيرين، على أنها كانت أٍسيرة المواقف الأمريكية على مدى العقود الماضية، خاصة عندما دخلت مجموعة العشرين، وحضرت مؤتمراتها، وبرزت كقوة اقتصادية -عسكرية لا يستهان بها، وأظهرت الحكومة الإسلامية موقفها الرافض من عملية العراق وبشكل واضح في عام 2003م ولأغلبيتهم في البرلمان، لم يوافقوا من خلاله لأمريكا باستخدام قاعدتها إنجرليك، ومنعت قواتها من دخول شمال العراق من خلال أراضيها. وبها أرادت أن ترسل رسالة إلى العالمين الإسلامي والعربي، على أنها لا تقبل الأوامر من أمريكا عندما تكون ضد مصالحها، أو تؤثر على مبادئها الإسلامية، فمن حينها تطمح إلى قيادة هذين العالمين، خاصة في فترة الهيمنة المطلقة لحكم العدالة والتنمية.
والسبب الثاني، يعتقد أن قصف ف-16 في يوم الانقلاب على أردوغان عام 2016م لبعض المواقع ومن ضمنها البرلمان دون وجود رادع جوي لإيقافها، وجهت أنظار أردوغان للحصول على دفاعات ضد الطائرات الأمريكية داخل تركيا في حال ظهور مثل هذه الإشكالية ثانية مستقبلا. وبالتأكيد أن مساعدة بوتين له كما يقال، في إفشال الانقلاب، تأتي على رأس قائمة الأسباب، وهي التي دفع أردوغان لهذه الصفقة وغيرها من الاتفاقيات التجارية مع روسيا كرد لحسن الجميل، ولا شك أن لروسيا دور لا يستهان به فيما يحصل على الساحة.
الخلافات السياسية الأمريكية التركية لها عمق في الماضي وكانت أحيانا تتجاوز ما بلغته حتى الأن، حدثت أن تطورت الخلافات إلى درجة المواجهة شبه القطيعة ولسنوات، وذلك منذ انضمام تركيا إلى الناتو عام 1952م ويعتقد أن هذه ستنتهي أيضا بحلول سترضي تركيا على حساب المصالح الأمريكية والناتو مثلما تمت في السابق، رغم أنها عسكرية قبل أن تكون سياسية وتأثيراتها قد تكون أعمق من مجرد صفقة، بل ربما تصل إلى عمق الصراع التكنلوجي بين روسيا وأمريكا.
1 ففي 4 تموز عام 2003م وبعد الانتهاء من عملية العراق، وعدم سماح تركيا لقوات التحالف استخدام قاعدة إنجرليك، بينت أمريكا بشكل غير مباشر على أنها من الممكن أن تقوم بمساندة مطالب حزب العمال الكردستاني، ففي عملية عسكرية تركية كانت قد أرسلت فيها مجموعات من مشاتها لضرب قواعد الحزب في شمال العراق في محافظة السليمانية، قبضت القوات الأمريكية على 11 فردا من الجنود الأتراك، سجنتهم بعدما عصبت أعينهم، ولم تطلق سراحهم إلا بعد الحوارات الساخنة بين نائب الرئيس الأمريكي ديك جيني حينها ورئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان لمدة طويلة.
2 فعلا كررت أمريكا مثل هذا الموقف وبطرق مختلفة، وبشكل غير مباشر كدعم لـ ب ك ك ولفترة، وكعملية استباقية، وخوفا من أن تنتهي إلى دعم مباشر، تسارعت حكومة أردوغان إلى عقد اتفاقية السلام مع الحزب، ولا يستبعد أن أمريكا كانت وراءها، أو كما يقال رد على الموقف التركي من حرب الخليج. كما ويقال إنها كانت وبشكل غير مباشر وراء نقضها فيما بعد، من خلال تهدئة الأمور مع تركيا، وتوضيح موقفها من الحزب، مصرحة على الإعلام ومن خلال منشوراتها السنوية، على أن حزب العمال الكردستاني منسقة ضمن قائمة الإرهاب، أي أنها لا تدعمها، وهنا اطمأنت تركيا ولم تعد ترى من ضرورة للسير في عملية السلام، وخلقت إشكالية قتل جنودها لتنقض الاتفاقية.
3 كما وحدث خلاف حاد بينهما عندما احتلت تركيا الجزء الشمالي من قبرص في 20 من تموز عام 1974م، تحت حجة الدفاع عن أتراك قبرص، ومحاولتها تأسيس قبرص الفيدرالية الشمالية، على أمل أن تجعل من قبرص دولة فيدرالية، وبعد فشلها أعلنت عام 1983م عن استقلال قبرص الشمالية، وهنا كان موقف أمريكا صارما، قطعت عنها السلاح لسنوات، وأمتد الخلاف بينهما لفترة طويلة رغم حدة الحرب الباردة. ومن الغريب أنها ترفض كليا النظام الفيدرالي للمناطق الكردية في تركيا وسوريا المشابهة للتي حاولت إقامتها في شمال قبرص، وكانت ضدها في العراق رغم الضغوطات الأمريكية.
لا شك أن العلاقات بينهما أعمق من أن تتأثر بصفقة الصواريخ هذه، فمن الناحية الاقتصادية بينهما تبادل تجاري تبلغ قيمتها السنوية 100 مليار دولار، في الوقت الذي لا يتجاوز الـ 10 مليار دولار بينها وبين روسيا، ويتوقع أن ترتفع إلى 30 مليار دولار بعد سنوات الأربع القادمة. كما وهناك أكثر من 12 قاعدة عسكرية أمريكية منتشرة في كل أنحاء تركيا، وأهمها قاعدة الناتو المزروعة فيها الصواريخ الأمريكية النووية، وهذه بحد ذاتها تعطي فكرة على عمق ومتانة العلاقات، وحتى فيما إذا قطعت كم من السنين سيحتاج الطرفان للفصل.
مع ذلك وكأبعاد سياسية والتي لا توجد فيها القيم الأخلاقية أو الصداقات الدائمة بل هناك المصالح، ففيما إذا تعرضت مصالح أي الطرفين للطعن، فلا يستبعد أن يتم عزل أو ابتعاد ما أكثر من الماضي، وقد يظهر في المستقبل حصار اقتصادي محدد على الاقتصاد التركي، مثلما تطمح إليه مجموعة غير قليلة من أعضاء الكونغرس، وخاصة على خلفية مواقفها من إسرائيل، ومعارضتها للدعم الأمريكي لها.
وفي حال توسع الشرخ بينهما، يرجح معظم المراقبون السياسيون، دعم لوجستي أمريكي للكرد في سوريا أكثر مما تقدمه اليوم، وقد تتباطأ بمثلها للكرد في تركيا، ولكن لا يستبعد من إثارتها، حتى ولو كانت مثلا عن طريق الضغط عليها بإخلاء سبيل زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، من خلال بعض منظمات حقوق الإنسان، أو التابعة لهيئة الأمم، أو عن طريق منظمات أوروبية إنسانية. وبالتالي فالكرد هم الورقة الأكثر تداولا في المنطقة وفي هذه الصراعات الدولية، ومن الأهمية ذكره، هل سنتمكن من تكوين نفسنا وتقوية العامل الذاتي لنكون على قدر المسؤولية، ونعرف كيفية الاستفادة من مجريات الأحداث؟ أم أننا سنبقى مشتتين نخون بعضنا، وبالتالي نظل جميعنا وبدون استثناء أدوات سهلة للكل؟
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
20/7/2019م