إدريس سالم
رغم الفوارق السياسية والعسكرية، التي تشهدها مناطق شرقي الفرات في غربي كوردستان، حيال المنطقة الآمنة التي تريدها تركيا، أو المنطقة الأمنية «ممرّ السلام» التي تتناور عليها أمريكا مماطلة واستفزازاً، محاولة كسب الوقت؛ لكيلا تخسر الورقية الكوردية – ولو على المدى القريب – لسببين رئيسيين، أولهما، أمام عصيان تركي على عدّة ملفّات سياسية ساخنة، لازالت تشهد توتراً مع الإدارة الأمريكية، وثانيهما لعبة التهديد والوعيد الأمريكية – الإيرانية المتبادلة فيما بينهما، والتي أنتجت عن صفقات سلاح مليارية رابحة، وقّعتها أمريكا مع الخليج ومحيطها، بلغت مجملها حتى الآن أكثر من (22) صفقة، إضافة إلى عشرات الصفقات الاستثمارية الأخرى، أهمها توقيع اتفاقية، لشراء (5) ملايين طن من الغاز الطبيعي.
طالما أن أمريكا لا تريد أن تتخلّى عن إيران، ومكانتها الإستراتيجية وحضورها العسكري؛ خاصة بعد الانفتاح «السرّي» عليها، هذا الانفتاح الذي بدأ يطفو على الساحة السياسية، منذ تولّي «باراك أوباما» سدّة الحكم في البيت الأبيض، وتماشي «دونالد ترامب» على هذه السياسة، حيث أقال الأخير عدداً من المسؤولين البارزين في إدارته، فكيف لأمريكا أن تتخلّى عن تركيا، حليفتها القوية، وشريكتها الطائعة في حلف الناتو؟ ربّما هو سؤال سياسي كُتب بالخطّ العريض، ويجب أن نفكّر فيه، ونعطيه أهمية كبيرة، قبل أن نطلق التحليلات والآراء، التي تفتقر إلى الفكري السياسي العقلاني والموضوعي.
لا يجب أن ننسى مقارنة حضور الطرفين، التركي والإيراني في سوريا؛ ذلك أن تركيا تفضّل سياسة القضم والتثبُّت في الأرض، خاصة وهي تحتفظ بأوراق مهمّة؛ بسبب وجود حدود طويلة مع سوريا. فيما إيران المحظوظة بخصومها تعمل على الانتشار أفقياً والتغلغل شبه المستتر في مفاصل الحياة والمؤسّسات الرسمية السورية. تركيا تمتاز عن نظيرتها إيران بامتلاكها إمكانية التنسيق مع كلتا القوّتين الدوليّتين، أمريكا وروسيا، واللعب على خلافاتهما وصراعاتهما، في حين اقتصرت إيران على التنسيق مع روسيا فقط، يضاف إلى ذلك معاناتها من الحصار الاقتصادي الأمريكي، وتعرضها للضربات المباشرة من قبل إسرائيل، القوة الحاضرة – الغائبة في كل ما يتعلق بالسياستين الروسية والأمريكية في سوريا، وبقية دول الشرق الأوسط.
فشل مواجهة عسكرية أمريكية مع إيران:
كانت رسالة إيران واضحة في آخر فصول التصعيد، عندما أسقطت طائرة استطلاع أمريكية متطوّرة، قادرة على التقاط وجمع صور عالية الجودة، لمناطق واسعة في الليل والنهار، وفي مختلف حالات الطقس، حيث قال الحرس الثوري الإيراني، إنها اخترقت المجال الجوّي الإيراني، وذاك خطّ أحمر بالنسبة لطهران. وهذا الحدث لم يكن عادياً، فهذه المرّة الأولى التي تسقط فيها طائرة أمريكية من هذا النوع في المنطقة، وتحديداً في مضيق «هرمز» وليس سواه، ومَن أسقطها هي إيران.
وحول ردّ الفعل الأمريكي المحتمل على إسقاط الطائرة الاستطلاعية المسيَّرة، بعد تكنهات متطرّفة عصفت بالعالم، كانت الأنظار تتجه إلى دونالد ترامب، باعتباره القائد العام لقوّات بلاده، لكنه فاجأ كثيرين، بلغة عوَّمت الموقف، فإذا هو مفتوح على احتمالات عدة، إذ قال «إن ما فعلته طهران خطأ فادح»، مؤكداً «لدى واشنطن أدلة تثبت أن الطائرة كانت تحلّق فوق المياه الدولية»، والأهم أنه أشار إلى احتمال أن يكون «شخص أحمق» وراء الحادث، ما يعني أنه ترك الباب موارباً أمامه للتراجع إذا شاء.
والسؤال هنا، هل واشنطن ذاهبة في حرب مع طهران؟ هذا السؤال طرحته وكالة «بلومبرج» الأمريكية، وترى في معرض استبعادها؛ ذلك أن الخيار العسكري سيكون له نتائج عكسية على المدى البعيد، متمنيةً على ترامب أن يكون أكثر حكمة، خاصة وأن الإعلام الأمريكي يتناول بشكل عام، من أن ترامب ليس في عجلة من أمره لشنّ حرب على إيران، لتكون المعادلة في الوقت الراهن «لا حرب ولا حوار».
استقرار «كوردي» فوضوي – مشتّت:
وانطلاقاً من أهمية ذاك السؤال الغامض والمعقّد، (الذي ورد في الفقرة الثانية من المقال)، على الكورد – المشتّتين – أن يكونوا على حذر دائم من واشنطن، فأيّاً تكن نتائج المنطقة الآمنة بمسمّياتها وعمقها ومساحتها، سواء النتائج الإيجابية منها أو السلبية، فعلى الجانب الكوردي أن يضع في حساباته، أن واشنطن لن تتخلّى عن أنقرة ولا عن طهران، كرمى وحدة أو اتفاق أو تقارب كوردي – كوردي، لن يتحقّق، في ظلّ القيادة السياسية الراهنة، التي بدأت تشعر بفقدانها للفرصة التاريخية، التي من الممكن جداً، أنها لن تتكرّر، ولو بعد مئة عام.
من ذلك التشتّت، يتبيّن إلى أنه لا أحد يعلم مع مَن يقف الكورد طيلة عمر الأزمة السورية، هل يقفون مع قضيتهم قولاً وفعلاً؟ هل هم شركاء أو أصدقاء أو حلفاء أمريكا، أم روسيا، أم أوروبا؟ أم أنهم أدوات تنفيذية دون أي اعتراض، بدليل اعدم امتلاك المجلس الوطني الكوردي حتى الآن، أيّ مشروع كوردي حقيقي، وكذلك الأمر بالنسبة لمشاريع الإدارة الذاتية «المتذبذبة»، والتي تتصف بأنها «مشاريع استقرار فوضوية».
احتراز تركي من المنطقة الآمنة:
بالعودة إلى قضية شرقي الفرات، فإن غياب رعاية الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي، لمشروع المنطقة الآمنة واحتضانهما لها، سيجلب للمنطقة التي تعيش حالة غليان من الاستقرار الفوضوي والمشتّت، مزيداً من التعقيدات والصراعات، التي من شأنها أن تعيق العملية السياسية، المتمثلة اليوم، بتشكيل لجنة لصياغة دستور سوري، يكفل حياة آمنة ومستقرة، ويعترف فيه المصوّغون بحقوق القوميات والأقليات غير العربية، دون أن ننسى أن الاحتراز التركي من التوغل في المنطقة الآمنة وتكرار سيناريو منطقة «غصن الزيتون» في عفرين قد يصبح واقعاً مريراً للكورد.
وحتى نتأكد من رغبة تركيا في تنفيذ عملية «شرقي الفرات»، التي أعلن عنها الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، أثناء كلمة ألقاها في مراسم افتتاح الطريق السريع بين مدينتي إسطنبول وإزمير لا بدّ من العودة إلى توافق التوجّه الأمريكي مع الطموح التركي على الصعيد الإستراتيجي في سوريا، هذا التوافق الملموس الذي يقوم على تأسيس مجالس إدارية مناطقية وليس ديموغرافية، من خلال النظر إلى تأسيس واشنطن لقوّات سوريا الديمقراطية بخليط قومي، ودفعها لتأسيس مجالس إدارية في المناطق التي سيطرت عليها في الريف الشرقي لدير الزور والرقة، من أهالي المنطقة، لكن رغم هذا التوافق، يُظهر الطموح التركي تجاه مناطق شرقي الفرات من غربي كوردستان تواضعاً ملموساً، ولعل مرده يعود إلى عدة عوامل حيوية.
لماذا الاحتراز التركي؟
لم تستطع تركيا اختراق الوجود الأمريكي الغربي المباشر، خلال تحرّكها تجاه مدينة منبج، على هامش عملية «درع الفرات»، فكيف يمكن لها أن تخترقه في ظل شموله ما يقارب (35%) من مساحة الجغرافيا السورية؟ وبوضع منطقة شرق الفرات كأولوية أمريكية جيوسياسية وجيواقتصادية مهمّة، نتيجة موقعها الإستراتيجي الواقع في مثلث الحدود بين تركيا وسوريا والعراق، ومقدّراتها النفطية والزراعية، يبدو أن الإشارة إلى عملية تركية فردية شاملة، صعب بعض الشيء.
هناك إغراء تجاري اقتصادي من دول الخليج، وضغط أوروبي – إسرائيلي على دونالد ترامب؛ لتمديد واشنطن وجودها العسكري في المنطقة، حتى يتم مواجهة النفوذ الإيراني المستفحل في سوريا والعراق واليمن، ومن ثم يتم ترتيب تسوية تخدم مصالح واشنطن وحلفائها، بعد أن صرح ترامب، في أكثر من لقاء، بأنه ماضٍ نحو الانسحاب من سوريا.
يمكن أن تعرقل روسيا، إن لم يُنسق معها، أو مع إيران، التحرّك التركي، عبر زجّ قوّات النظام في طريقها، وبحسبان شرعية هذه القوّات وفقاً للقانون الدولي، فإن تحرّك تركيا ضدّه يُصبح اعتداءً «احتلالياً» صارخاً، وأيضاً ينبع هذا الرفض الثنائي المُحتمل من رغبتهما في قصر النفوذ التركي، وإخماد صراعه المُشتعل.
وعلى عكس ديموغرافية مناطق «درع الفرات»، فالأكثرية في شرقه هي كوردية، وبالتالي فإن أيّ هجوم تركي على هذه المنطقة، غير مبرّر بأيّ ذريعة شرعية، كذرائع «مسؤولية حماية المدنيين»، أو «الدفاع عن النفس»، وغيرها، فانعدام الحقّ الشرعي لدى تركيا لاقتحام المدينة، سيُصنّف دخول قواتها على أنه احتلال، جاء ضد رغبة معظم السكان، وهو ما سيجعل مقاومة وحدات حماية الشعب له مقاومة شعبية، وهذا ما قد يزيد من حدّة الضغوط الدبلوماسية والحقوقية والإعلامية عليها، التي لا شكّ أنها ستُرهقها اقتصادياً ودبلوماسياً وعسكرياً، وحتى شعبياً.
إن خوض تركيا لحرب، سواء أكانت جزئية أم شاملة، يعني وجود «خطر جيوسياسي» يؤثر سلباً في مؤشرات الاقتصاد التركي، لذا هل تستطيع تركيا التي بالكاد تحاول الخروج من مؤشرات سلبية خلفتها أزمتها مع الولايات المتحدة، إجراء عملية عسكرية شاملة؟
أخيراً، إن القضية التي حاولت تفكيكها من تركيبتها الشائكة، هي أن مَن يراهن على أن أمريكا تعمل على شراكة – تحالف مستقبلي دائم مع الكورد السوريين، فهو واهم، فهذا التحالف سيصبح واقعاً، إن رتّب الكورد أنفسهم سياسياً وعسكرياً، وقبلهما اجتماعياً وتعليمياً، إلا أنهم يخرجون من الأزمة السورية بنتيجة «صفر إنجاز» كوردياً وإقليمياً وعالمياً، والمطلوب الآن عدم معاداة تركيا، جارة قبل أن تكون دولة معادية. هكذا هي السياسة، لعنة تصيب الشعوب المضطهدة.