ماجد ع محمد
ليس من باب التصغيرِـ لا قدّر الله ـ من شأن أيّ عاملٍ في مجال تقديم الخدمات في المقاهي أو المطاعم أوردنا كلمة القهوجي، إنما فَرضت التسمية نفسها بكون القهوجي يظل على احتكاكٍ مباشر برجال الدولة وهو ليس منهم، يحضر اجتماعات كبار الملاكين ورجال الأعمال ولكنه يبقى مجرد كائن طارئ في حضرتهم، هم لا ينظرون إليه أكثر من نادِلٍ، خلوقٍ، خدومٍ، مطيعٍ، لطيفٍ، ومهذب يبدع في مجال عمله، إلا أن بعضهم سواء من باب الاستخفاف به، أو من باب الجهل بفاعلية ومقامات وتراتبيات الأوادم وأدورارهم يوهمونه بأنه أصبح كبيراً مثلهم، أو غدا واحداً منهم، وهو ما قد يوقعه في فخ الوهم المُحكم، علماً أن الأقطاب الذين يدور صاحبنا القهوجي حول طاولاتهم لا شأن لهم بانخداعه، إنما القضية محصورة به وبأقرانه وبالمحيطين به.
كما أننا ليس من باب الجَلدِ النفسي نعود إلى موضوع فهم الذات الفردية أو الجماعية لمعرفتها على حقيقتها، إنما الأحداث الدراماتيكية منذ سنوات تحثنا كل حين لإدراك ماهيتنا، ما نحن عليه، وما كنا فيه، وما صرنا إليه، ولا أنفي أنه قد يكون الكثير من أبناء جلدتنا قد حُقنوا عن عمد بـ: “علم الجهل”* إلا أني كفرد من أفراد مجتمع ما من المجتمعات البشرية التي تُشغل مساحات ملعونة من هذه البسيطة، فلا أنكر بأني عادةً ما أردّد في سري جملة سقراط الشهيرة “اعرف نفسك” تلك الجملة التي انطلق منها الدكتور “إبراهم الفقي” وألّف كتاباً كاملاً من حوالي مئة صفحة بنفس العنوان، شخصياً لستُ متأكداً بخصوص عدد المرات التي أذكر فيها الجملة تلك، ولكني شبه موقن بأنها لا تقل عن عدد البسملات التي عادة ما أبدأ بها تناول وجباتي اليومية من الطعام والشراب.
لذا لم أجدني يوماً أكبر مني منذ أكثر من 20 سنة، أقول عشرين سنة لأن المرء في فترة المراهقة كثيراً ما يكون مخدوعاً بنفسه، بذكائه، بدوره، بقوته، بأهميته، بجماله، بينما بعدها وكلما كبر في السن تقهقرت أوهامه تباعا، وصار ملتصقاً بحقيقته أكثر مما كان عليه أوان الفتوة والشباب، لذا بقيت طويلاً أتصور بأن جملة “سقراط” تلك يجب أن تعلّق على جبين الكثير من العاملين في حقول السياسة والثقافة والفكر والفن والاقتصاد…الخ، ولكن بما أن أمراض الأنا وتضخم الذات لدى الفنانين والشعراء والأطباء والمحامين والمهندسين والمفكرين والتجار، تقتصر عليهم ولا تضر بالمجتمع كلل، لذا من السهولة بمكان تجاوز أمراض المذكورين، بما أن أذى عللهم تبقى منتشرة في حدودها الشخصية الدنيا، وإن توسعت فقد تضر بالمحيطين أو بمن كان على احتكاك مباشر بهم، بينما مخاطر أمراض الطاووسية ووهم العظمة تشمل بضررها بلدات أو مدناً أو مجتمعات بأكملها عند العاملين في حقل السياسة والعسكرة، لذا كان تأكيدنا على أن الجملة عليها أن تُرسم أو تُطبع على بعض الجباهِ، أو تُحفر على هامات العاملين في الحقلين المذكورين، حتى يتسنى لهم قراءة العبارة تلك كلما وقفوا أمام المرآة، وأن يلاحظوا المطبوع في واجهاتهم كلما مروا من أمام بلّور محلٍ تجاري، أو سيارة في الشارع، علّها تذكرهم بحقيقتهم، بقدراتهم، بأحجامهم كل حين، فتلجم عندئذٍ قراراتهم، وتجبرهم على مشاورة أقرانهم في أيّ قرارٍ سيصدرونه، طالما كانت قراراتهم تشكل تهديداً مباشراً لحيوات ومصالح فئات بشرية برمتها، وطبعاً ليس للأهمية الوجودية لواحدهم كنفرٍ من البشر، إنما بناءً على الموقع الذي يحتله ذلك السياسي أو القائد العسكري.
والتركيز على أن الجملة يجب أن توضع على الجباه سواء كانت مطبوعة أو موشومة، هو لأن العاملين في الحقل السياسي من كثرة ظهورهم على وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وشعور الكثير منهم بأهميتهم يجعلهم ينسون مضمون ما كان مدموغاً على واجهاتهم الأمامية، وكذلك حال القائد العسكري فإن حاجة الناس اليومية إليه تدفعه إلى المكوث في أبراج الطوسنة التي تمنعه من رؤية ما دوّن على هامته، لذا من الضروري وجود تلك الدمغة على ذراهم من جهة المقدمة العلوية حصراً، لكي يقرأها كل من يقابلهم أو يجالسهم، حتى إذا نسي المدموغُ نفسه كُنه الوشم المختوم على هامته، يتولى الآخر أمر ذكره بها، أو قراءتها نيابة عنه على أسماعه، عسى ولعل مضمون الختمِ يصبح جزء من كينونته، فلا يفارق معنى المكتوب باله حتى بعد إزالة اليافطة سواء نتيجة الاحتكاك بمطبات الحياة، أو لرغبته هو بانتزاع المكتوب كما يفعل الشاب مع الوشم بعد أن يمل من الأوشام التي طبعها على جسده من باب الزينة أو الاختلاف أو حباً بالظهور.
عموماً قد يرى بعضهم بأن وجود تلك العبارة هناك على جباه الساسة والعسكر هي مثل عبارة “المُلك لله” المكتوبة على واجهات بعض القصور أو المعامل، إذ أن بعض الناس تنتابهم الضحكة الخبيثة كلما عبروا من أمام فيلا وقرؤوا من عليها جملة “الملك لله” لظنهم أن هذه الجملة لم تكن لتوضع هناك لو لم يكن صاحبها قد نهل من الترع الفاسدة إلى حين إدراكه بأنه غدا بحاجة إلى أن يرسخ في أذهان المارين بمُلكة بأن ماله تام الحلال، وذلك الأمر من كل بد لن يتم إلاّ من خلال القراءة المتكررة لتلك العبارة، أي أنها وُضعت ليس لتأكيد حقيقةٍ ما، ولا بهدف العمل بها، ولا للسير على هدي فحواها، إنما لتبرئة النفس من كل ما قد يخطر على بال المارين بمُلكه وهم يقرؤون تلك العبارة، وهو ما ينسحب على السياسي والعسكري أيضا، إذ قد يُمهر الجبين بأهم الكلمات، لا لإيمان صاحبها بكل حرفٍ ورد فيها، إنما لإيهام المحيطين بصاحبه بأنه يعرف ذاته حق المعرفة، ولا يتصرف إلاّ وفق ما يعرف، لذا فيكون تعليق العبارة هناك أكثر خطورةً من عدم وجودها، باعتبار أنها قد توهم الرعية بمدى ثقة ذلك الكائن المسؤول بنفسه، وبناءً عليه يتبعون كل ما يصدر عنه من الأوامر والقرارات التي قد لا تكون في حقيقتها لصالح حتى الحشرات المحيطة بأوادم المجتمع الذي يمثله ذلك السياسي أو العسكري.
وبما أن لعنة الطاووسية الكارثية تصيب الكثير من البشر، وخاصة من يعمل في مجالي السياسة والعسكرة، لذا قد تعمل بعض الأطراف عن عمد إلى تعظيم أشخاص معينين في فترة زمنية معينة، ليس إعجاباً بهم، ولا تقديراً لأدوارهم، إنما لدفعهم إلى مراتع التهور من وراء الانتفاخ الذي لم يكن الضخ في أصحابه إلاّ بغرض تفجيرهم من فرط الانتفاخ أو لشرعنة الحروب عليهم بعد تجاوزهم تخوم قدراتهم، وهذا أمرٌ وارد في كل زمان ومكان في حقول السياسة والعسكرة، فيما تظل الكارثة الكبرى هي عند المستهدف الذي يصدق بأنه عظيم بناءً على المدائح التي رفعته إلى مستوىً لم يعد صاحبها يدرك بأنه غدا كالريش في الهواء، وليس له أيّ قواعد مثبته على أرض الواقع!!؟
عموماً نقول ذلك لأن حال بعض العاملين في حقلي السياسة والعسكرة ممن أصيبوا بداء التعاظم والطوسنة، هو تماماً كحال نادلٍ يمارس عمله اليومي بقسم الخدمات في نادٍ يلتقي فيه مجموعة من رجال الأعمال، إذ عند قيام صديقنا الفَرّاش بالأعمال والخدمات التي يقدمها لرواد النادي، يتصور بأنه غدا يضارعهم في القيمة والسلطان، وأنه أصبح ذا شأن عندهم، وصار كبيراً مثلهم لمجرد أن حاول أحدهم استغلال طاقته خارج إطار خدماته المعتادة للجميع، ولعدم معرفة الذات ينسى صاحبنا دوره، وحجمه، وموقعه، وإمكانياته، ومن فيض الفرح باستخدامه كلاعب مؤقت أو احتياطي، لا يخطر على باله قط، بأنه يمكن التخلي عن خدماته لهم خلال قرارٍ واحد لا أكثر، باعتبار أن الساسة أو أصحاب المال والسلطان لا يمكن لهم أن يضحوا بمصالحهم المشتركة كرمى عيون القهوجي!!
لذا يُطلب مِمَن لم يُدرك ذاته سياسياً أو عسكرياً، وكل من لم يتعرف إلى قدراته الحقيقية كما هي، بأن يتوقف ملياً أمام عبارة: اعرف حجمك يا رفيق الأوهام، كُف عن التمرغِ على سرير الوهمِ، لا تسمح للآخرين بأن يقوموا بشِوائك على مقلاة الأوهام، تحسّس نفسك، وشك بكَ، وبمن خانك بتقريظه المتواصل لك، وقال بأنك سوبرمان عصرك، يا مصدّق الأوهام والماكث في حضنها، مزّق غيوط العناكب حولك، واعلم بأنك خارج الألعاب الأولمبية للفرقاء الكبار، ويوم تصبح رقماً حقيقياً قادراً على تدمير بنيان الرواد العماليق، أو مالكاً للمليارات التي تقدر من خلالها أن تطيح بمصالح الفراعين في عالم القوة المالية أو العسكرية بإيماءة من أي قطعة من بدنك، وقتها فقط لن تكون مجرّد قهوجي بسيط مخدوع بنفسه بناءً على منافيخ المحيطين به، أو مضحوك عليه من قبل خاقانات السياسة أو المال أو العسكرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*علم الجهل: صاغه “روبرت بروكتر” الباحث في جامعة ستانغورد والمختص بتاريخ صياغة العلوم، وعلم الجهل هو العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية.