إبراهيم اليوسف
ليس للمرء أمام ما يجري قدام عينيه، من تحولات عاصفة، إلا أن يتخذ موقفه، يقوم ما يراه لاسيما عندما يكون الموقف من ذلك ذا علاقة بالكرامة، والمصير، والأخلاق، فما عليه إلا أن يسقط من حساباته أية مكتسبات مفترضة، أو واقعية. هذه الرؤية، بالنسبة إلى أي امرىء كان هي من عداد إنسانيته، ولا يخيل إلي أن مناضلاً واعياً لرسالته، عبر التاريخ، إلا وقد أسقط من عينيه الكثير مما يتلهف سواه إليه، لاسيما في ما يتعلق بالمنافع الشخصية، لأن ادعاء أحدنا أنه صاحب- رسالة- يحتم عليه أن يكون من عداد هؤلاء الذين لديهم الاستعداد للتخلي عن أية إغراءات، وهو أمر لا يبدو ذا أهمية أمام من لديه الاستعداد عن حياته التي يؤثر ها، ويكافح من أجل أن تكون كريمة، سعيدة، وذلك لما للقيم التي يحملها من أهمية عظيمة، لا قيمة البتة لحياة أي منا، وهو يتجرد منها.
خلال حياتي الشخصية عايشت الكثيرين ممن يصلحون ليكونوا قدوات بتفانيهم، وهم الأقل تنظيراً- عادة- في محيطهم، كما عايشت هؤلاء الذين يرفعون شعارات حامل الرسالة، وصاحب الموقف، وذلك، في الإطار النظري، بيد أنهم يسقطون أمام أية منفعة مأمولة أو فعلية، تتراوح ما بين تربيتة إغراء من سلطوي أو بريق وظيفة أو كرسي أو مهمة، هذا في وقت السلم، أو السلام، بل ويتهاوون أمام أي تهديد متخيل، مفترض، أو فعلي، لمنافعهم، أو راحاتهم، ولابد أن يكون شأن تهاويهم مدوياً بوتائر أعلى أمام أي خطر حقيقي محدق، لمكاسبهم، وحيواتهم.
ولكم تفاجأنا، ووجدنا بأمات أعيننا، أثناء السنوات الثماني الماضية، انهيار كثيرين أمام مصالحهم، ولا أعني البتة ذلك الذي اضطرَّ للهجرة إلى بلد ما ولا يستطيع اتخاذ أي موقف من قضية شعبه، وبلده، ومكانه، وجيرانه، نظراً لاعتبارات معروفة، لطالما إن أية إيماءة رافضة منه ستؤدي- في أقل تقدير- إلى طرده، ورميه بين ألسنة نيران الحرب، وهوما فعلته تركيا بالآلاف الذين طردتهم، أو هددت بطردهم، ولاتزال، أنى خرجوا عن الخطوط التي رسمتها، ليكون ذلك بمثابة دروس تأديبية وإنذار لمئات الآلاف من السوريين الذين لابد لهم من أن يذعنوا، ويقبلوا بالأمر الواقع، بالرغم من أن أكثر هؤلاء ممن لاذوا بتركيا كساحة أمان لهم، بعد أن ضاق بهم بلدهم السوري، ليتفاجؤوا بأن ما توهموه كان محض كذب، وأن الدكتاتوريات واحدة، مهما تعددت راياتها، ولغات فراعنتها، وخرائطهم، ولعل في حياة كل أسرة سورية حكايات هائلة عن معاناتهم في تركيا/ الأردوغانية، سواء أكان ذلك على أيدي من ابتزوا عرق جبين أبنائهم العمال، أو من مارسوا عليهم صنوف الاستبداد!
ما أعنيه هنا، هو تلك الحالات الكثيرة لبعض سوريينا الذين يمكنهم أن يتخذوا مواقفهم مما يدور، لاسيما هؤلاء الذين اتخذوا موقفهم من دكتاتور بلدهم بشار الأسد، إلا أن بعضهم تحول لنسخ استبدادية فوتوكوبية مصغرة عنه، وعن بؤر استبداده الصغيرة أو الكبيرة، لاسيما هؤلاء الذين احتلوا مفاصل واجهات المعارضة، أو من قدم نفسه لتمثيل السوريين ليستلم مصادر ثروة باسم- الثورة- في المجالات المتعددة، ماعدا العسكرية منها، والتي لها تقويمها الآخر، ليس بين مصاصي الدماء، وإنما بين هادريها، ولعله يمكننا تناول بعض النخب الثقافية والإعلامية والسياسية المنتفعة، ضمن هذا البند، إذ إن إبداء هؤلاء للموقف إزاء أي حدث لا يمكن له أن يخرج من إطار: مصالحهم، إلا ما ندر من حالات، يمكن دراسة كل منها على حدة، بعد طرح السؤال الفارز: هل كان انشقاق فلان من مجموعته نتيجة موقف له؟، أم هو نتيجة موقف منه؟!
قبل أيام قال لي أحد الأصدقاء: من تركت لنفسك من أصدقاء؟، كان الجواب في بالي، وهوما أفتخربه، إذ كتبت مقالاً منذ وقت طويل عن بعض المواقف التي اتخذتها إزاء ما يعده الآخر مواقف ضد الذات، ومنها مواقف إلى جانب من يعدني خصماً بينما أقف إلى جانبه- غيابياً- كي أنفِّر وسطاً واسعاً مني، إلى درجة مواجهتي بالعنف من قبل أبعاضهم، وهو ما يزيدني إصراراً بالتشبث بموقفي، ومن الأمثلة التي أضربها هنا: إن موقفي من النظام هو موقف مبدئي لن أساوم عليه، وقد وقفت إلى جانب من توهمتهم واجهة- معارضة- إلا أن اكتشافي لما لا أقبله في سلوك- الثائر- جعلني أو اجههم، منذ الأسابيع الأولى لوجودي في المجلس الوطني السوري إذ ناقشت بحدة مراقب الأخوان المسلمين البيانوني- بسبب موقفه من الكرد- وهكذا بالنسبة إلى رئيس المجلس الوطني السوري: د. برهان غليون الذي تراجع عن موقفه ذاك، وكان هناك من أوغروا صدره ضدي، بعد ردي عليه، إلا أنه كان أفضل من هؤلاء، في تلك الواقعة.
ها أنا أكتب ضد تركيا، وضد داعمي تركيا الذين في أيديهم مفاصل الصحافة التي اعتبر أحد قلة ممن أقصوا من ميادينها، بعد أن صار لمن عد بعض أبنائي محتضنيهم في عالمها، حضورهم الراسخ في بعض مفاصلها، بينما ظللت من دون أي منبر كتابي، منذ بداية الحرب، ماعدا سنوات وظيفتي في جريدة الخليج التي واجهت أكثر من متسلط عربي غير إماراتي عليها، نتيجة مواقفهم من: الثورة، والكرد، وبعض القضايا الشخصية، بينما يفترض المقام ممالقة هؤلاء من قبل بعض أبناء الجنسيات الأخرى، غير السورية: للتاريخ!
كما أنني بمواقفي من المعارضة أحرص على صوتي- المستقل- ما أمكن، لأنني أمام وسطين متناقضين، لطالما صرحت بموقفي. موقفي الشخصي، من دون أية تبعية لأحد، من الأحداث الجارية في سوريا، وفي المناطق الكردية فيها، ومن داعش، وميليشيات الارتزاق، ما دعا صديقي ليقول لي: من أبقيت لنفسك من أصدقاء؟، ولأكن- صريحاً- فإن الأنموذج المنافق له حضوره حتى لدى من أرافع عنهم، لأنني لا أجيد ممالقة أحد، وإن كنت أحد أكثر من دافع عن هؤلاء وهؤلاء من بين كتابنا، ولقد حدث أن تضامنت أسرتي مع آمد في العام2006، مع مجموعة صغيرة من أصدقاء أبنائي، فتظاهروا أمام السفارة التركية في دمشق، في الوقت الذي تهرب كثيرون من أحزاب الحركة الكردية من الموقف، ومن بينهم من نعدهم مناضلين، بل قبل كل هؤلاء: ب ي د، الذي اعتذر-لاحقاً- بعض أعضائه، وهو ما تم بثه عبر فضائية روج تيفي من قبل “ريكار قرطميني” وهو الاسم المستعار لكرم يوسف، وكانت مداخلته صفعة في وجوه كثيرين.
أتذكر، أنني، أيام الصحافة الورقية، في الثمانينيات والتسعينيات، رافعت عن كل جزء كردستاني أكثر من بعض هؤلاء الذين هم الآن واجهات إعلام هذه الأجزاء، وهو موثق في- صحافاتهم- وباسمي الحقيقي، عندما كنت أكتب صفة” الدكتاتور” صدام حسين، فيصحح بعض محرريهم التسمية إلى: الرئيس صدام حسين، وهكذا رافعت عن كردستان الشرقية، وقال لي أحد المقربين إلي سياسياً، آنذاك: لا تكتب ضد إيران!
جراء هذه المواقف، التي أتباهى بها، خسرت الكثير على صعيد لقمة عيشي، وتعرضت للضغط الوظيفي- في منتصف الثمانينيات- وكان ذلك كله على حساب راحة ولقمة أسرتي التي ذاقت المرارات، ومازلت أدفع ثمن تلك المواقف، كما أن مواقفي هذه، ولأقلها، افقدتني الكتابة، وفق عقد، في منبر عربي، لأنني رفضت شتم جهة سياسية- كردية- لا أؤمن بها، بل أقف ضد سياساتها، حتى الآن، إلا في لحظات استهدافها من لدن عدو، لا يواجهها إلا لما هو كردي فيها..!