شاهين أحمد
نسمع ونقرأ كل يوم عشرات المفردات والمقالات والتصريحات الصادرة ، هنا وهناك ، ومن مختلف الجهات ، سواءً من النظام والمقربين منه ، أو من المعارضات وأتباعها ، وكذلك من طرف مختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين المتورطين في المستنقع السوري ، والتي تجمع جلها على الحرص النظري الزائد على سوريا ووحدة أراضيها وسيادتها واستقلالها !. وهنا يجد المرءُ نفسه أمام جملة من الأسئلة التي تؤرقه ومنها : هل حقاً الجهات المذكورة حريصة على وحدة وسلامة وسيادة سوريا وشعبها ؟ . هل تلك الأطراف عملت طوال مرحلة الأزمة السورية من أجل الحفاظ على وحدة سوريا واستقلالها وسلامة شعبها ، أم أن كل طرف حاول ومازال توسيع نفوذه ، وزيادة حصته من الكعكة السورية ؟.
أليس الانقسام واقع يعيشه السوريون ؟. من يقف وراء تغييب السوريين عن عملية تقرير مصيرهم ، ألا يعني بأن التفكك قادم حتماً ؟. ولنكن واقعيين ، كل هذا الاحتقان الذي عملت عليه مختلف الجهات المذكورة المحلية والإقليمية والدولية ومازال ، ألا يعني بأن مسألة استمرارية التعايش بين المكونات السورية المختلفة في دولة مركزية أصبحت صعبة إن لم تكن مستحيلة ؟.
بعد نجاح النظام في عملية حرف الثورة وجرها إلى مستنقع العسكرة ، دخلت على خط الأزمة السورية العديد من الأطراف الدولية والإقليمية ، وتوزعت تلك الأطراف – والإقليمية منها على وجه الخصوص – حسب مصالحها وأجنداتها ومعتقداتها الدينية والمذهبية ،فمنها من قدمت الدعم والمساندة للنظام وحلفائه ، ومنها من قدمت الدعم والمساعدة للمعارضات المختلفة ، وبعد عجز النظام عن السيطرة على الحراك السلمي ، لجأ إلى أساليب أمنية خبيثة من خلال زرعه للعناصر الأمنية والعنصرية والراديكالية الإسلامية في صفوف التنسيقيات الشبابية ، وبالتزامن قام بإطلاق سراح المئات من المتطرفين من بقايا الإنتحاريين الذين كانوا بحوزته حيث كان يتولى مسؤولية تدريبهم وإرسالهم إلى العراق بعد عملية تحريره من نظام صدام حسين ، حيث عمل النظام على توفير وتأمين الحاضنة الدافئة للتنظيمات الإسلامية المتطرفة ، ووفر كل المستلزمات والمناخات اللازمة لتفريخها وتكاثرها . وهنا من الأهمية بمكان الإشارة إلى نقطة غاية في الخطورة وهي أن التطرف كان “مغلفاً ” وموجوداً بالأساس في المجتمع السوري ، وأن بذوره كانت مدفونة في أعماق التربة السورية من خلال جماعة الإخوان المسلمين ، وأن موضوع دعم الفصائل الراديكالية كان القاسم المشترك بين النظام والكثير من اللاعبين المحليين و الاقليميين ، وصرف النظر من قبل اللاعبين الدوليين . ولايخفى على أحد الدور الذي لعبته جماعة الإخوان المسلمين بعد ركوبها الموجة الثورية ، وسيطرتها على المفاصل الأساسية لمؤسسات الثورة ودعمها لتلك الجماعات المتطرفة ، وخلق انطباع لدى المراقبين الدوليين بأن البديل في سوريا هو الإسلام السياسي ، وشكلت هذه اللوحة مساحة توافق بين غالبية اللاعبين في الميدان السوري سواءً تلك التي سمت نفسها بالصديقة للشعب السوري ، أو تلك التي وقفت علناً إلى جانب النظام ، وذلك لفلترة المجتمعات ، وفرز العناصر الجهادية المتطرفة وصرف النظر عن تحركاتها ، و تأمين معابرآمنة لإيصالها إلى المحرقة في سوريا ، والسماح لحوامل وأدوات المشاريع العابرة للقارات بالدخول إلى سوريا ، وتأسيس إمارات ومناطق نفوذ لها ، سواءً الإسلامية منها مثل فروع القاعدة ( جبهة النصرة ، وداعش ، وأخواتهما ) أوغيرها . وشهدت مؤسسات المعارضة انقسامات عامودية وأفقية ، وتوزعت الولاءات بين الداعمين والممولين كنتيجة طبيعية لتعدد مصادر التمويل ، التي أدت إلى حدوث شرخ واسع بين المعارضة بأجنحتها السياسية والعسكرية والحراك الشبابي .
واليوم بات المشهد السوري واضحاً للجميع ، كل الفصائل المسلحة العربية السنية التي تنتمي لحقل الإسلام السياسي الراديكالي ، ومن خلال تصريحات وتصرفات قادتها باتت تهدد العلويين والكورد والدروز ….إلخ ، تؤكد بأن المجازر والمقابر الجماعية هي التي تنتظر هذه المكونات السورية المذكورة ، ناهيكم عن إصرار غالبية الواجهات السياسية لتلك الفصائل على حصرية العقيدة والشريعة الإسلامية كمصدر وحيد أو رئيسي للتشريع في العقد الاجتماعي المستقبلي لسوريا !. تمهيداً لـ حرمان معتنقي الديانات المسيحية والإيزيدية واليهود ية…إلخ من جزء أساسي من حقوقهم . مايجري هو قفز فوق واقع موجود نعيشه منذ انقلاب البعث على السلطة في سوريا في 8 آذار 1963 ، وإزدياد هذا الشرخ وتوسعه أكثر بعد إنطلاقة الثورة السورية في 15 آذار 2011 ، ونجاح النظام في عسكرتها، ودخول الحركات الإسلامية الجهادية على الخط ، واستغلالها للظروف الإستثنائية والمناخات التي وفرها النظام بغرض إضفاء الطابع السلبي على الاحتجاجات من خلال إظهارها بلبوس إسلامي راديكالي، وكذلك الخطأ القاتل الذي وقعت فيه بعض الجماعات الإسلامية الجهادية المحلية الناشئة من البذور التي دفنتها بعض أجنحة الإخوان المسلمين في أعماق المكون العربي السني السوري ، والتي بدورها وفرت الغطاء للجماعات الإسلامية الراديكالية المعولمة والوافدة من فروع تنظيم القاعدة وذلك من خلال شعار ” كل من يرفع السلاح في وجه النظام فهو مع الثورة “!. هذه الرؤية ساعدت الجماعات الإسلامية الراديكالية للتغلغل بكل سهولة وانسيابية في المفاصل الأساسية للحاضنة الثورية السورية ، وقيامها لاحقاً بإلتهام الفصائل الثورية واحدة تلو أخرى ، وتلقيها الدعم المادي واللوجستي من بعض الجهات الدولية والإقليمية وصولاً إلى إعلان إمارات ودول مزعومة ، وبالرغم من إنقساماتها التنظيمية إلا إنها بقيت متوافقة من الناحية العنفية والفكرية والعقائدية. ربما الثورة التي بدأت سلمية شعبية محلية من أجل الخلاص من الإستبداد، كانت تفتقر لأيديولوجيا وطنية ناضجة وواضحة نتيجة الفراغ الفكري الذي كان يعانيه المجتمع السوري بشكل عام والعربي السني بصورة خاصة جراء فشل المشاريع التي رفعها الناصريون أولاً ومن ثم البعثيون لاحقاً،والعنف المفرط الذي اعتمده النظام في مواجهة المدنيين ، وإدخاله للميليشيات الطائفية مثل حزب الله اللبناني والفصائل الشيعية العراقية والأفغانية والإيرانية ، كل ذلك ساعدت الراديكاليين من الفصائل السنية في الدخول والتغلغل في المجتمع العربي السني معتمدين على تلك البذور المدفونة للفكر السلفي المتطرف ، واللعب على وتر الصراع الطائفي والتظاهر بالدفاع عن الطائفة السنة ودفع المظالم عنها والوقوف في وجه الميليشيات الشيعية الطائفية المذكورة . ربما أن الشعب السوري عرف عنه تاريخياً بأنه يتسم بالاعتدال الديني والمذهبي ، لكنه اليوم بات منقسماً يئن تحت وطأة أشد قوى الظلام والتطرف والإرهاب ، وتحول وطنه إلى مكبٍ للنفايات البشرية الوافدة من مختلف أصقاع الأرض ، وتتقاتل على خيراته وثرواته أكثر من لاعب دولي وإقليمي، وبات مسلوب الإرادة،مغيباً عن المؤتمرات واللقاءات التي تنعقد بإسمه هنا وهناك . واليوم سوريا فعلياً مقسمة إلى مناطق نفوذ بين كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين وماتسمى بقوات سوريا الديمقراطية من جهة ، وروسيا وإيران والنظام والميليشيات الشيعية من جهة ثانية ، وتركيا والفصائل الإسلامية العربية السنية الموالية لها من جهة ثالثة. وهناك سياسة تطهير للمخالفين في كل منطقة من مناطق النفوذ المذكورة ، وكل منطقة لها إداراتها الخاصة والمستقلة تماماً عن غيرها وخاصة لجهة الأمن والصحة والضرائب والجمارك والتعليم ….إلخ .
إذاً نحن أمام لوحة واضحة تماماً وهي : سوريا منقسمة ومحتقنة وملتهبة ، لن يقبل فيها العربي السني بعد اليوم أن يعيش تحت حكم العلوي مهما كلفه ذلك من ثمن ، ولن يسلم العلوي السلطة للسني لأنه يدرك تماماً المصير الذي ينتظره ، ولن يرضى الكوردي بعد اليوم أن يعيش مهمشاً محروماً من حقوقه كما كان خلال حقبة البعث الشوفيني ، ولن يسمح الدرزي ولا المسيحي ولا الآشوري بأن يتحكم فيهم الجهادي الإسلامي الراديكالي بإسم الدين ، وهكذا بالنسبة للتركماني وغيره . هنا يجد المرءُ نفسه في مواجهة سؤال كبير هو : هل نريد أن نعيش سوياً في بلد واحد – سوريا – من جديد ، والجواب سيكون بالإيجاب قطعاً ، إذاً ماهو شكل الحكم الذي يحافظ لسوريا وحدتها ، وللمكونات حقوقها وخصوصياتها ، ويقطع الطريق مستقبلاً أمام سيطرة مكون على مقاليد السلطة بإسم الدين أو القومية أو الأكثرية ؟. بكل بساطة هناك خيار واحد ووحيد فقط يمكن أن يحقق ماتم ذكره لجهة الحفاظ على سوريا موحدة ، وذلك من خلال صياغة مشروع وطني سوري جامع وشامل يأخذ بعين الاعتبار حقوق جميع المكونات القومية والدينية والمذهبية ، ويقطع الطريق أمام إعادة إنتاج منظومة الاستبداد وتكرار تجربة مشابهة لتجربة البعث الشوفيني ، ويؤسس لـ سوريا مدنية ديمقراطية تعددية فدرالية ، يتم فيها الفصل بين السلطات ، ويتكون برلمانها من مجلسين ، الأول نيابي يعتمد مبدأ النسبية في تمثيل المكونات ، والآخر مجلس ” توافقي ” للمكونات ، وبيد الأخير كافة القرارات السياسية والمصيرية الأساسية داخلياً وخارجياً .