شيروان شاهين
صور وفيديو (جميل شيخو ، أفين علو)
“في الحلم رأيت بأنني أتجول بين شجيراتي الخضراء في بيتي الريفي بعفرين، وأتفقد عناقيد شجرة العنب، وأوراقها.. وأقول لنفسي كيف أصبحت هكذا أمشي على قدماي، وأنا بين أشجاري الخضراء.. فجأة فتحت عيني واذا به كان حلما.. فقلت يا آلهي أين قدماي وأين بيتي”
لم يكن هذا مشهدا من فلم سينمائي أو مقطع سريالي متخيل من رواية معروفة، بل سرد واقعي للأم (مدينة حسين) التي فقدت أقدامها نتيجة القصف في مجازر عفرين.
360 يوم لم تكن كافية لأن يُسقط الزيتون، ويصبح بلحا! فالزيتون بالنسبة للكوردي بريد وجعه إلى العالم.. العالم الذي بدأ يدير ظهره خلسة لضحاياه الكورد.. أمام عنف مدافع الأتراك.
وحيث تختزل تراجيديا المسافة بين الدنمارك وعفرين، وتصبح أقصر من رحلة رصاصة طائشة في جسد عجوز أعزل.
فينهض الأمل من تحت ركام النسيان، لمجموعة من شباب المهجر، ويوقدون وجع الوطن بشموع تحاكي الداخل.. ويومياته المترامية داخل مقابر الموت.
سبا: بالكردية تسمى الغد، يختزل الاسم صراحة من جسد عفرين، الذي تنهشه فضاعة جرائم الفصائل الإسلاموية كل يوم، أمام خريف متقصد من وسائل أعلام المعمورة، المشغولة بهوس الجميلات على تغريدات تويتر.. ومنصات مطابخ انستغرام.
أبناء (سبا) ومن مهجرهم يصفعون جليد نسيان الكوردي، وهزائمه باستحضار الوجع والألم العفريني إلى قاعات الدنمارك، ولكي تبقى ذاكرته على قيد الحياة! ومنتعشة كصباح يشبه آذار، فالذاكرة لا تهزم.
مدينة هيرنينغ الدنماركية، وبمبادرة من منظمة (سبا للحراك المدني) كانت شاهدا! جديدا على أحياء يوم النكبة، يوم احتلال عفرين.. يوم الهولوكوست الذي ينبش الغد من جسد الأرض.. ويقتلع الهوية من تفاصيل المكان، ويشرد القرى ويجعل منها مستوطنات عروبية. هذه الشهادة من أرض المهجر وفي رداء فعالية استذكار: أحدى دروب المقاومة السلمية كما يريد أصحابها الناجين على تخوم الحياة.
رواة المجزرة.. قداس الحياة في محراب شجرة الزيتون
على المسرح (اليولاندي*) يطلُ رواة المجزرة من خلال فلم وثائقي، وهم يناجون العالم، هربا من أسراب طائرات الأتراك التي تفترس عناقيد القرى في جبل الأكراد الأعزل.
يهرب المدنينون من عنف الطائرات، ومن وحوش على هيئة ثورة! ثورة أدارة بنادقها من جهة الأسد إلى جهة أجساد الكورد.. في صورة بارين! يوم سقط القناع عن وجه الآلهة! حيث لم تشفع لأحفاد الحداد.. أغصان زيتونهم ولا مراقد مشايخهم من المباركين، ولا أثار المعابد القديمة التي كانت حاضرة على قيم الإنسان وعراقته، فعين دارة بأسده البازلتي،كان متكسر الأطراف، مثل مرتد على الإسلام وتم تكفيره، وبترة أطرافه الأربعة! فالتاريخ يتم تحطيمه بقنابل الغزاة القادميين كجراد يلتهم الأرض بشمالها إلى جنوبها.
هذه المشاهد المؤلمة كانت كافية لأن يكون الحدث أشبه بعزاء حاضر يتجدد مخاضه باستمرار رغم فاصله الزمني ب 360 يوما عن الواقعة.
يحلق الموسيقار الكوردي (وليد حموتو) على صهوة المسرح، ويستحضر تفصيل روح والده من أرض عفرين، بمعزوفاته على جسد آلة الدودك.. وكأنها تلهث كقداس يهروب إلى الحياة.
في هذا القداس كانت أرواح شهداء عفرين تمطي موسيقا حموتو، وتعبر حدود الوطن على جسور من ضوء الشموع، و تروي التفاصيل الآخيرة من عمر المدينة التي رزخت تحت جحافل الغزاة، لغزاة الهاربين من موتهم ليزرعوا الموت فينا.
يعلو صوت الدودك عاليا.. وتتجمهر الدموع كشعوب في أعين الكورد الحاضرين، وتشكل سيلا من الحزن على ذاكرة تلامس قلب كل واحد منا، وكأنها تقول له تذكر “أنت أيضا من هناك”
ذلك النغم وكأنه نداء لطقس عبادة.. أمام محراب جدارية لشجرة جفت عروقها! في رمزية تختزل الواقع المميت لمدينة عفرين المنكوبة، ربما كانت هذه رسالة المنظمين بإن يضعوا جمهور المهجر أمام الحدث الداخلي في حاضر عفرين الجريحة.. من خلال الرسم الجداري على رداء أبيض جفت شجرته الفتية.. الذي يحاكي صعوبة الحال تحت ظل بنادق المحتلين.. فتبدأ لحظة التفاعل من المنفى إلى قلب الوطن المحتل، بإن يبصم كل كوردي في أجواء ذلك القداس بدمه على الشجرة الجافة، وويرسم بهدوئه المنتفض المشاعر.. عبارات تشق طريقها إلى عشق الزيتون.. فيكتب ذلك البوح، إنعاش… وإحياء من الموت لتلك الشجرة الجافة.. في رمزية سريالية لإحياء عروس كوردستان من تحت ركام الموت بل من تحت ركام المدافع.. فهي مقاومة الكلمة ، مقاومة الروح في همس الحياة، لتبقى عفرين ظل الشمس.
عن وطن تحت الاحتلال
رحيمة عبدالله الكاتبة الكردية الشابة والتي كانت تراقب منظر مدينتها من خلال رواة المجزرة بالفلم الوثائقي.
تقول “سافرت مع مشاهد الفلم إلى مدينتي وكأني كنت هناك، وممرت بجروح المدنيين، ووجعهم” وتتنهد قليلا وتتابع ” هذه الأجواء من المهجر تذكرنا بهويتنا وتجعلنا على تماس يومي مع الداخل الجريح، ولا تشعرنا ببرد الغربة وكأبتها، فهي اشبه باستراحة لروحي من عذاب يوميات المنفى” وعن تخليد الألم، أرواح الضحايا، تشعل رحيمة شمعة من الجهة اليسرى من المسرح، وتقول “الطرق المُثلى للمقاومة من المهجر هي إظهار قصص ضحايانا ويومياتهم البعيدة في صحف وروايات الغرب، ونكون نحن أشبه بمتحاف تحافظ على الحقائق وتفاصيلها، لكي تهز برد هذه الشعوب وتقول لهم هناك شعب كوردي يتعرض للإبادة في مكان ما، فعليكم أن لا تكونوا شركاء بالقتل من خلال صمتكم”.
وعلى خشبة المسرح همست (سبا) بكوادرها الشابة تفاصيل التغريبة العفرينية، ولون الظلم، وملامح التلاعب بجغرافيا الوجود الكوردي.. وقصص الموت التي تلتهم دور العلم والثقافة. وتختزل المستقبل هناك بضغطة زناد فتكون رصاصة طائشة! وعن رحلة النزوح والخروج إلى المجهول حيث يغدو الوطن خيمة في مهب الريح.
ولأن الحياة باتت سجننا في الوطن..توقد شمعة أخرى للمرة الألف، للمختفين قسريا في غياهب الظلام في معتقلات الإسلامويين الذين جعلوا من حكايا تسامح الزيتون زنزانة صفراء.
متى سينتصرُ الكوردي؟!
ربما كان هذا أكثر سؤال يدور في ذهن الجالسين تحت سقف المنفى، ويحير المبعدين عن ديارهم، متى سينتصر الكوردي؟
ربما كان الأدب أكثر شفافية من لغة الساسة، ودبلوماسية القناع! التي مل منها أبناء المخيمات وهم يراقبون خراب قراهم من شاشات الأخبار.. ويكبتون جرهم وهم مكتوفي الأمل..وقلوبهم غدت بحيرات من الوجع.
تعلو كلمات الشاعر (خوشناف عيسو) عاليا وتعانق تلال عفرين البعيدة.. وتغرس شتلات زيتون فتية كجنود مدافعين عن الهوية، وتهمس للبيوت الطينية.. الغد أجمل.
“سينتصر الكوردي.. عندما يعتذر للأرض”
هكذا ختم الشاعر الكوردي – من منفاه البارد في الدنمارك- عن محنة الكورد في يوم احتلال عفرين.
……………………………………
اليولاندي: نسبة إلى شبه جزيرة يولاند في الدنمارك.