هل المنطقة الآمنة ترامبية أم أردوغانية؟ قراءة في تغريدة ترامب والموقف التركي

د. ولات ح محمد
    طالبت واشنطن أنقرة بعدم قتل الكورد في سوريا ثم بعدم قبولها بالهجوم عليهم، فردّ الأتراك عقب زيارة بولتون المزعجة بأنهم سيقومون بالعملية العسكرية ضد وحدات حماية الشعب غرب الفرات حتى مع وجود القوات الأمريكية التي لن ينتظروا إلى حين مغادرتها، فردّ عليهم ترامب بتغريدة ضمّنها ثلاث نقاط: الأولى أنه سيدمر تركيا اقتصادياً إذا هاجمت الكورد، والثانية أنه سينشئ منطقة آمنة شمال سوريا، والثالثة أن على الكورد عدم استفزاز تركيا. جاء الرد التركي فوراً ومن دون تردد بأنهم موافقون على المنطقة الآمنة وبأنها في الأساس فكرة أردوغان وأمنيته التي طرحها منذ سنوات ولم تتحقق بسبب عدم موافقة إدارة أوباما عليها. فهل المنطقة الآمنة التي قصدها ترامب هي ذاتها المنطقة التي طالب أردوغان بإقامتها قبل أكثر من خمس سنوات؟، ولماذا بادرت أنقرة إلى الموافقة على فكرة ترامب قبل مناقشة تفاصيلها؟. 
    ثمة فروق جوهرية بين المنطقة الآمنة التي طالب أردوغان بإقامتها ابتداء من عام 2013 وبين تلك التي طالب “أمر” ترامب بإقامتها قبل أسابيع، ويمكن تلخيص تلك الفروق في أربع نقاط رئيسة:
– المنطقة الأردوغانية كانت تنحصر بين جرابلس وإعزاز بطول مائة كيلو متر، ولم يكن من بينها أية مدينة كوردية. أما المنطقة الترامبية فإنها حسب ما أعلن الأتراك أنفسهم تشمل كامل الشريط الحدودي وتشمل معظم المدن الكوردية بما فيها عفرين الخاضعة للاحتلال التركي. 
– كانت الغاية المعلنة من المنطقة الأردوغانية (المحدودة) هي إعادة اللاجئين إليها من تركيا وحمايتهم وجعلها مكاناً آمناً لاستقبال السوريين الهاربين من مناطق الصراع. أما المنطقة الآمنة الترامبية فغايتها توفير الحماية لسكان كامل المنطقة الشمالية السورية، وكذلك حماية قوات قسد التي تعترض عليها تركيا.
– كانت المنطقة الأردوغانية ستحمي الناس من هجوم الطيرانين السوري والروسي والميليشيات الإيرانية، أما منطقة ترامب فهي للحماية من الطيران التركي نفسه بالدرجة الأولى (الذي كانت تهديداته بالهجوم على تلك المنطقة الدافع الأول لمشروع ترامب)، ومن الطيرانين السوري والروسي بالدرجة الثانية كاحتمال قائم في ظروف معينة قادمة.
– سياسياً كانت المنطقة الأردوغانية تهدف إلى منع قيام كيان كوردي متكامل جغرافياً وذاتيّ الإدارة، وذلك من خلال قطع الطريق على محاولة الوصل بين كوباني وعفرين أولاً، ومنع الوصل بين عفرين والبحر المتوسط ثانياً. ولذلك بعد أن حصل أردوغان قبل نحو ثلاثة أعوام على تلك المنطقة (بين جرابلس وإعزاز) في صفقة مع الروس مقابل تخليه عن حلفائه المعارضين في حلب، لم يعد إلى الحديث عن المنطقة الآمنة من جديد إلا بعد تغريدة ترامب الأخيرة. أما منطقة ترامب فعلى العكس من ذلك قد يؤدي إنشاؤها إلى قيام ذلك الكيان الذي سعى أردوغان لمنع ولادته بكل السبل.
    إذاً، في ظل كل هذه التناقضات بين المشروعين أو الطرحين الترامبي والأردوغاني من حيث الرقعة الجغرافية والمقصودون بالحماية والغاية من إقامتها والنتيجة المتوخاة منها، أين وجوه الشبه بين المطلبين حتى يسارع الأتراك إلى القول إنه بالأساس حلم أردوغان الذي كان أوباما يرفض تحقيقه، وها هو ذا يتحقق؟. وفي ظل احتمال انعكاس إقامة المنطقة سلباً على الداخل التركي، لماذا سارعت أنقرة إلى إعلان موافقتها عليها، مع أن المشروع الترامبي كما رسمه الأتراك أنفسهم يصل أيضاً بين كوباني وعفرين اللتين ضحى أردوغان نفسه بالكثير لإبقائهما منفصلتين؟.
    لا توجد وجوه شبه بين الطرحين كما تبين، أما الموافقة التركية السريعة فسببها أنهم أدركوا خطورة الموقف؛ فترامب هدد بتدمير الاقتصاد التركي وطرح مشروع إقامة المنطقة الآمنة في التغريدة ذاتها، وكأنه وضع الأتراك بذلك أمام أحد خيارين وقال لهم: اختاروا هذا.. أو ذاك. لهذا لم يكن بإمكانهم أن يرفضوا الاثنين معاً لأن ذلك يعني إعلان التحدي لترامب، فأعلنوا رفضهم للتدمير الاقتصادي وموافقتهم فوراً على مشروع المنطقة الآمنة، لأنهم يعلمون أن البديل هو انهيار اقتصاد الدولة وبالتالي انهيار الدولة ذاتها.
    اللافت للانتباه في هذه المسألة ثلاثة أمور: الأول أن ترامب (صاحب المشروع) لم يقم بالتشاور مع الحكومة التركية (الشريك المعني بالأمر) أو إعلامها كما فعل هاتفياً عندما قرر الانسحاب من شرق الفرات، وهذا له دلالته، فالمشروع جاء بمثابة أمر وفرض على الأتراك. الأمر الثاني أن المشروع جاء مترافقاً مع تهديد ترامب بتدمير الاقتصاد التركي. الطبيعي أن الأصدقاء والشركاء يتشاورون في هكذا مسائل ولا يهددون؛ فالتهديد بحد ذاته يكشف السياق السلبي الذي تم فيه طرح المشروع وكذلك طبيعة العلاقة القائمة بين الإدارتين الأمريكية والتركية على الأقل في هذه المسألة. الأمر الثالث أن الأتراك سارعوا إلى الموافقة على المشروع من دون مناقشته ومعرفة تفاصيله التي قد تضر بمصالحهم مستقبلاً، سعياً لامتصاص غضب الرئيس وتجنب عقوباته الاقتصادية المدمرة وحفظ ماء وجههم الذي أراقه ترامب نفسه بمنعهم من اجتياح شرق الفرات بعد أن استعرضوا عضلاتهم أمام جمهورهم وقالوا لهم على مدى شهور طويلة: سنهجم اليوم أو غداً . 
    حفظ ماء الوجه كان أحد أهم الأسباب التي دفعت الأتراك للموافقة السريعة على منطقة ترامب الآمنة، ولذلك أعلنوا لجمهورهم مباشرة في اليوم التالي لتغريدة ترامب (بعد أن فقدت الليرة نقطة ونصف من قيمتها) أنهم قد تجاوزوا مسألة العقوبات الاقتصادية وأنهم باتوا يتحدثون الآن مع الأمريكان عن المنطقة العازلة، كما قالوا دون أخذ الموافقة من ترامب إنها ستكون بإدارتهم، علما أن المنطقة ستقام أساساً لحمايتها منهم. هكذا صاروا يتحدثون وكأن المشروع فجأة ومن دون مناقشة وتشاور مع صاحبه صار مشروعاً أمريكياً – تركياً مشتركاً، أو كأنهم هم الآن أصحابه الحقيقيون وحماة المنطقة ومديروها الفعليون. إذا كانت المنطقة “آمنة” فليس من حق القوات التركية التواجد فيها لأنها أقيمت أساساً لحمايتها من هجوم تلك القوات. وإذا كانت “عازلة” فإن تلك القوات وكذلك قوات سوريا الديمقراطية لن تكون موجودة فيها لأن المنطقة عازلة بين القوتين وخالية منهما، فعلى أي أساس سارع الأتراك للقول إن المنطقة ستدار من قبلهم ومن قبل قواتهم؟.
    لقد حاولت الحكومة التركية بعد خيبتها القول للناس: صحيح أننا لن نخوض حرباً كما وعدناكم مراراً للقضاء على الإرهابيين ولكننا لم نكذب عليكم؛ فها نحن سنقيم منطقة آمنة وسنديرها بأنفسنا ونبعد خطر الإرهاب عنكم من دون حرب. لذلك بدلاً من السؤال عن تفاصيل المشروع ومناقشته سارعت أنقرة منذ الساعات الأولى إلى الموافقة عليه ثم قامت من عندها بوضع مضامين له (مثل طول مسافة المنطقة وعمقها والمدن التي تشملها والمشرف عليها… إلخ) وتسويقها لدى الشارع التركي. 
    التظاهر الأمريكي بأن القصد من إقامة المنطقة هي حماية الأمن التركي، وكذلك التظاهر التركي بالموافقة السريعة وغير المشروطة على المشروع يشيران إلى أن في الأمر ما هو غير طبيعي وأن صداماً أمريكياً تركياً ربما قادم؛ فإذا كانت المنطقة الآمنة نوعاً من الحل الذي يحفظ الأمن التركي كما يسوق له الأمريكان ويتظاهر بتصديقه الأتراك لتوجب على ترامب أن يطرح المشروع للتشاور والاتفاق مع الأتراك أولاً، لا أن يطرحه من خلال تغريدة ومرفقاً بتهديده بتدمير تركيا اقتصادياً. وإذا كانت الحكومة التركية صادقة في قبول المشروع الترامبي كما أعلنت لكان عليها أن تسأل أولاً عن طبيعته وتفاصيله التي قد لا تناسب رؤيتها ومصلحتها و”أمنها القومي”. ولذلك ربما في الأمر فخ ما: كل منهما يريد نزع موافقة الآخر على المشروع ثم يقوم بتوجيهه بالاتجاه الذي يحب؛ فالأتراك – إذا استطاعوا – لن يقبلوا بمنطقة آمنة شمال سوريا ليتحول لاحقاً إلى إقليم كوردي على غرار ما حصل لشمال العراق في أوائل تسعينيات القرن الماضي. 
    هذا الجنين – التنين تحديداً هو الذي جعل أردوغان على مدى السنوات الماضية يتنازل للقاصي والداني عن كل شيء ويبدل مواقع الأصدقاء والخصوم ويبيع الحلفاء في سبيل قتله في الرحم قبل خروجه للحياة. هذا الجنين (الذي يرى أنه في خطورة التنين) كذلك هو الذي جعل الرئيس التركي يصف شقيق الجنين الأكبر إقليم كوردستان العراق بـ”المستنقع” الذي لن يسمح بتكراره من جديد، بينما يرى فيه شعب الإقليم وشعوب العالم المتحضر الحر واحة للسلام والتعايش والتنمية والازدهار (لماذا لا تحب أنوفهم الروائح الطيبة ؟؟!!).
    الآن وفي ظل هذه المعطيات والتناقضات بين المشروعين إذا مضى ترامب حقاً بفكرة المنطقة الآمنة أو العازلة فهل سيمضي معه أردوغان كما أعلن موافقته  عليه بحماس وفرح؟ الجواب: لا طبعاً، فالأتراك سيتظاهرون بقبول المشروع الترامبي ثم سيحاولون من خلال المساومة مع الروس وغيرهم توظيفه لمصلحتهم إن أمكنهم ذلك، وإلا فسيضعون العصي في عجلاته لعلهم يربحون الوقت وتنتهي ولاية ترامب، لأنهم يعلمون أن مثل هذه المنطقة (إن لم تكن تحت سيطرتهم) قد تكون مقدمة لقيام إقليم كوردي آخر على حدودهم، وبالتالي انتقال فيروسه إلى كوردستان الشمالية عاجلاً وليس آجلاً. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة. ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم ‘سجاد تقي كاظم’ من…

لوركا بيراني   صرخة مسؤولية في لحظة فارقة. تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها. إن ما يجري…

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…