د. محمود عباس
وفي الواقع تبينت وعلى مر التاريخ الحديث أن الضغوطات الاقتصادية على الأنظمة الدكتاتورية كثيرا ما لا تجدي نفعا، لكن يتوقع المراقبون أن تكون هذه الجدلية مختلفة مع الواقع الإيراني، لأنها قد تؤثر على أدواتها في الخارج، وقد لوحظ تأثيرها على الداخل السوري، فمنذ اليوم الأول من الحصار على النفط الإيراني، ظهر وبشكل مفاجئ أزمة الوقود الحاد في معظم المناطق التي تسيطر عليها السلطة، والتي لم تشهدها سوريا بهذه الشدة طوال السنوات الثمانية من الحرب. ولا يستبعد أن تظهر تأثيراتها في القادم من الزمن على الحوثيين في اليمن وحزب الله وسلطة بشار الأسد، رغم أن ترساناتهم من الأسلحة لربما كافية لسنوات قادمة، مع ذلك نتائجها ومن جوانب أخرى ستكون ثقيلة مع استمرار الحصار، خاصة وأن التهديد الأمريكي شمل كل هؤلاء، وبتصريح من المتحدثة الرسمية باسم الوزارة الخارجية (هيذر نويرت) قائلة إن دولتها ستحاسب إيران ” حال ضلوع ميليشياتها بالوكالة في تنفيذ أي من تلك الهجمات”.
وبالمقابل، تبينت وحسب استطلاعات العديد من مراكز البحوث، أن التحركات العسكرية الأخيرة كلفت أمريكا خلال شهر واحد قرابة 2 مليار دولار، منها مصاريف تحريك أساطيلها، والمناورات العسكرية في المياه الإقليمية المحيطة بإيران، وحماية الممرات المائية الدولية من اعتداءات محتملة، والتي جاهرت بها إيران، كمضيق هرمز وباب المندب، إلى جانب احتمالية تعويضات لبعض الدول الحليفة عن مقاطعتها للنفط الإيراني، ومنها ما ادعت أن مصافيها مصممة على نوعية نفطها والأن تحتاج إلى تغيير فيها لتتلاءم والنوعية البديلة. علما أن معظمها مدفوعة من قبل دول الخليج، وهذا ما أدى إلى أن يعقد جيمس ماتيوس وزير الدفاع الأمريكي في دولة الإمارات اجتماع ضم العديد من المنظمات ودول الخليج، ليظهر فيها متانة العلاقات بينها وبين محمياتها، وفي مقدمتها العسكرية في هذه الفترة.
ولكن هل ستتوفق أمريكا فيما تؤول إليه؟ فإيران وعلى مدى العقود الماضية ورغم الحصار المديد، وإدراجها ضمن دول محور الشر الثلاث منذ عقدين من الزمن تقريبا، لم تغير من موقفها المعادي لأمريكا، وتبينت خلال هذه الفترة أن مخططات تغيير النظام فيها لم تجلب تحالفات دولية كالتي تمت على عراق صدام، أي أنها ليست بتلك السهولة التي تم فيها تغيير النظام ضمن العراق، لأنها تندرج ضمن التحالفات الاستراتيجية الروسية والصينية، ولها ارتباطات اقتصادية، على مستوى تصدير النفط وبكميات كبيرة، مع الصين والهند وتركيا وغيرها، وبالتالي الإمبراطورية الأمريكية قد تصبح أمام مواجهات سياسية ودبلوماسية وإلى حد ما اقتصادية مع دول كبرى.
فلهذه ولأسباب أخرى منها، ريادتها المذهبية للشيعة في العالم الإسلامي، لم تتمكن أمريكا، حتى اللحظة، وبأساليبها المرنة السابقة من إزاحتها عن موقفها، ولم تحد من تدخلاتها وتمدد أذرعتها في المنطقة، وظلت إيران تستخدم طرقها الملتوية في الطعن بمصالح أمريكا من خارج ميليشياتها المعروفة، وكمثال، لا نستبعد أن إيران تقف وراء تعطيل ناقلات النفط الأربعة في مياه الخليج، ولم يتمكن العالم من تحديد الفاعل. كما ولم تستطع من تقليص التمدد الإيراني في سوريا على سبيل المثال، بقدر ما تمكنت منها روسيا، والتي أخرجتها وبكل سهولة من منطقة الساحل، وعزلتها من العقود الطويلة الأمد رغم المصاريف والتضحيات الهائلة لها في سوريا، علما أن روسيا لا ترغب إنهاء الدور الإيراني بشكل كامل في المنطقة، رغم الضغوطات الإسرائيلية المتواصلة، فميلشياتها هي مخالب روسيا على الأرض السورية، مثلما الكرد جيش أمريكا في شرقي الفرات. وكل هذا لا تعني أن التحشدات الضخمة والتحركات الدبلوماسية الواسعة، والضغوطات الاقتصادية الأمريكية على كل من يتعامل معها سوف لن تجدي، ولن تحدها عن موقفها، أو أنها ستظل على مسيرتها في المنطقة، أو لربما ستبقى إيران كما هي الأن، نظاما وجغرافية.
وعلى خلفية التغييرات الجارية في الإستراتيجية الأمريكية ومواقف الإدارة الجديدة ذات العنجهية الإمبراطورية، من الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية لإدارتها المرنة السابقة، ظهرت حروب اقتصادية قبل العسكرية والسياسية الجانبية الخفيفة، وتحركات دبلوماسية على كافة الأصعدة، للطعن في عدة اتفاقيات وإلغاءها، وكان لا بد وفي القضية النووية الإيرانية، من محاولات لتقوية أدوات يثقون بهم ضدها، ومن المتوقع أن تكثف الإمبراطورية الأمريكية المساعدات لحلفائها (كما يصرحون) الكرد في سوريا، والرسالة المفاجئة المقدمة من قبل 400 عضو برلماني وسيناتور أمريكي إلى الرئيس ترمب، ستلقي بالضوء على الكرد وقواتهم وبالتالي على القضية الكردية بشكل عام في سوريا وربما في إيران مستقبلا.
فالرسالة وعلى الأغلب يقف ورائها اللوبي الإسرائيلي ودول الخليج، الذين يتحركون بشكل مكثف في هذه الفترة، للضغط على إيران من كل الأوجه، وبما أن القضية السورية واحدة من القضايا المهمة لإيران، لذلك فأمريكا على الأرجح ستعيد النظر في العديد من مواقفها السابقة، ومنها قضية سحب قواتها من شرقي الفرات، وقد نتجت عن الرسالة تحركات على المستويات العليا، بلغت حد المطالبة من روسيا وعن طريق مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص لسوريا (جيمس جيفري) اليوم، الانضمام إلى جهود التصدي للتدخلات الإيرانية في سوريا، ولاستخدام نفوذها على بشار الأسد لسحب القوات الإيرانية وميلشياتها منها، مضيفا أنه ” لدى الولايات المتحدة وروسيا مصالح متبادلة في سوريا مستقرة وآمنة “، علما أن روسيا وعلى لسان السكرتير الصحفي للرئيس الروسي ديمتري بيسكوف بين خلاف روسيا مع هذا العرض، قائلا أن “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكدوا اليوم الثلاثاء، التزام روسيا وفرنسا وألمانيا بالتعاون المتبادل المنفعة مع إيران في المجالين التجاري والاقتصادي” كما وتم الإشارة إلى ” الحفاظ على الاستقرار والأمن الدوليين…”.
فالزيارات السرية والمفاجئة إلى العراق وجنوب وغربي كردستان، كزيارة مايك بومبيو لبغداد لم تكن عابرة، بل بعد دراسة وعن تخطيط، ومنها مناقشة الصادرات النفطية، وخلفها تهديدات مبطنة، ولا يستبعد أن تتم تعديلات على الموقف الأمريكي من الكرد لتصعد إلى درجة التعامل السياسي معهم في شرقي الفرات، وتبين بعض الاستطلاعات على أن المنطقة أصبحت تدرج ضمن المعتمدة عليها في التحركات العسكرية ضد إيران، وقد تدعم عسكريا وتدفع بها لمواجهة التواجد الإيراني في سوريا أو على الأقل في شرقي الفرات.
لا شك، منطقة الشرق الأوسط تتجه نحو تغيرات جيوسياسية، بعد الهدوء الذي سادها طوال القرن الماضي، وحيث الاستقرار النسبي للتكوينات الجغرافية العشوائية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وهيمنة بريطانيا وفرنسا، وهنا لا بد أن ننتبه إلى أية درجة تدرك الأنظمة الحالية خطورة التطورات المحتملة، ومدى قدرتها على تفاديها، والحفاظ على وجودها. وفي حال حصولنا على إدارة مناطقنا، قد لا نحتاج بتلك الدرجة إلى من يساعدنا في الإدارة؟
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/5/2019م