عبدالغني علي يحيى
قبل نحو عامين أو يزيد بقليل تشكلت في كربلاء محكمة غريبة من نوعها لمحاكمة الخليفة الاموي يزيد بن معاوية بتهمة قتلة للأمام الحسين بن علي بن ابي طالب (ع) واخرين من أقربائه وصحبه من أل البيت، ولم تكن المحكمة أو المحاكمة شائعة أو ما يشابهها، وعلى قدر علمي انه تم توكيل محامين للدفاع عن المتهمين، واضفى سكوت السلطات عليها صفة الرسمية بل أن بعضاً من وسائل الاعلام الرسمية قامت بتغطية خبر تشكيل المحكمة تلك وكذلك الاحكام التي صدرت عنها، وتذكرت في حينه حادث اعفاء، بابا الفاتيكان وحاضرة الفاتيكان اليهود من دم السيد المسيح (ع) وذلك في عام 1964، واذكر عامذاك كيف ان المجتمع الدولي وممثلي الديانات كافة، باستثناء الدول العربية والاسلامية واعلامها التي احتجت على البابا و الفاتيكان سواء بسواء.
ومن الصحف التي تهجمت عليهما صحيفة الثورة العربية العراقية التي كانت تنطق باسم الاتحاد الاشتراكي العربي اذ نشرت كرايكاتيراً ساخراً مستهزئاً بالقرار البابوي، وفي الكارتير كان المسيح وبيده مسدس وقد صوب فوهته على رأسه وفي اسفل الكاريكاتير كتب: اذا لم يقتله اليهود فمعنى ذلك انه انتحر !! في وقت يرد الاسلام رواية مقتله. وفي كاريكاتير اخر للصحيفة نفسها بابا الفاتيكان جالس بين الصليب وكيس مملوء بالنقود متردداً بين العودة الى الصليب (الدين) والرشوة ( النقود) . وحذت معظم الصحف العربية في العراق و خارجه حذو الصحيفة العراقية ( الثورة العربية) وراحت تنشر تعليقاتها الساخرة وكاريكاتراتها السوقية المبتذلة، واذا لم تخني الذاكرة فان بابا الفاتيكان انذاك كان المرحوم يوحنا بولص الثاني الذي عرف فيما بعد ينصرته لقضايا الفلسطينين وكل مظلومي العالم. وبعد مرور اكثر من (40) عاماً على الحادث ذاك وفي اجواء التقدم في مختلف المجالات في العالم وانتشار الوعي والثقافة، قام نفر من الجهلة والظلاميين من الذين في قلوبهم مرض والحقودين بالتصدي للتعايش الشيعي – السني والتقارب بين الامم بتشكيل محمكة ومحاكمة يزيد بن معاوية على فعلته وقتله للحسين في واقعة الطف رغم مضي اكثر من 1000 عام على حادث مقتل الحسين (ع). وسبق تشكيل المحكمة المهزلة قيامي بنشر مقال دعوت فيه المراجع الدينية في النجف وكربلاء بأن الوقت قد حان باعفاء يزيد من دم الحسين وذلك على غرار ما قام به بابا الفاتيكان الذي عفا عن اليهود، الا ان اي مرجع ديني شيعي لم يكلف نفسه مشقة الرد على أو اخذ المقال على محمل من الجد لأنهاء الخصومة التأريخية المزمنة بين الشيعة والسنة. وقبل شهور من الان كانت لي عودة الى الموضوع نفسه وكررت اقتراحي أو طلبي ذاك من جديد، وهنا أيضاً لم القى سوى أذاناً صماء لقلوب متحجرة وعقول متخلفة أذ لم يرد علي أحد على الرغم من استحسان العديد من قراء المقال للموضوع الذي طرحته، ولكن ليس على مستوى لصحف و الاعلام. وبدلاً من ان تخفف التطورات المدهشة في العالم و نشر الافكار النيرة ومباديء حقوق الانسان من حدة التوتر الطائفي وقفت على تراجع وتقهقر للعقل الجمعي الشيعي وللعقل والجمعي السني كذلك الذي بارك ( القاعدة) وفيما بعد ( داعش) للفتك بالشيعة وقتلهم وذبحهم وكأنهما اصحاب العقلين الجمعيين في واد والعالم المتحول المتمدن في واد، فلقد نهض الحقد الطائفي من نومه وراح يحصد ارواح مئات الالوف من البشر ليس في العراق فحسب بل في جميع العالمين العربي والاسلامي وبدرجات متفاوته، وكان الحقد ذاك في العراق على اشده وما يزال فعلى سبيل المثال اذكر في عام 2006 كيف ان عصابات طائفية شيعية داهمت مئات العوائل السنية ببغداد وقتلت من كل عائلة فرداً من افرادها مانجم عنه قرار الالاف من الستة الى كردستان والمحافظات السنية والى دول سنية كالاردن ومصر ودول اوروبية ايضاً. في توقفي عند العقلين الطائفيين: الشيعي والسني المتخلفين المحتجرين، توصلت الى كشف اخر، وهو التحجر الدائم والمترمت ابداً لعقول رجال الدين السنة والشيعة وعدم ارتقائهم الى عقول رجال الدين المسيحيين واليهود وحتى البوذيين. وبلغت سخرية المسلمين انفسهم من هذه العقول، حد النكات، وشر البلية ما يضحك كما قبل ومن النكات، وهذا على سبيل المثال: ان شاباً اضطر الى اجراء عملية جراحية مكلفة تقدر بـ 11 الف دولار وساعة معرفة والده بذلك، فان اصدقاءه ومعارفه نصحوه بالتوجه الى رجال الدين في الجوامع والمساجد وجهرة المؤمنين المتدينين، ونزل الرجل عند نصيحتهم، فلم يحصل سوى على 100 دولار، ونصحه اخرون من اصدقائه ايضا بالتوجه الى البارات والنوادي الليلية، فنزل عند اقتراحهم ايضاً، وهنا فانه سرعان ما حصل على تبرعات مالية قدرت ب 15 الف دولار من الخمارين والسكارى خلال ساعة زمنية واخذ المبلغ ولسانه يعجز عن شكرهم، وهنا طالبه احد الحضور بان يدعو لهم ولرواد البارات بالهداية والتوبة، الا ان الرجل قال باعلى صوته ابتهل الى الله القدير، ان لا يهديكم، فتعجب القوم من كلامه ولما سألوه عن السبب قال: لو عادوا الى الهداية لتحجرت قلوبهم ومامتت ضمائرهم مثل اهل الجوامع ورجال الدين المسلمين!!
بعد حادث قيام الصحفي العراقي بقذف جورج بوش الابن بحذاء تذكرت قصة لصلاح الدين الايوبي، الذي لم يكن طائفياً ضد الشيعة عندما قضى على الدولة الفاطية في مصر، فأنه توجه الى الموصل السنية لمعاقبة حكامها وبسط نفوذه على المدينة، وكان من عادة ذلك الزمان، ان يتبارز فارسان من المعسكرين المتحاربين، وتقدم فارس من جيش صلاح الدين الى سور الموصل وطلب المنازلة والمبارزة، الا ان اي فارس من داخل السور لم يستجب له وعوضاً عن ذلك وجه اليه احدهم داخل السور ضربة مؤلمة بواسطة حذاء ضخم كسر راسه وجعل الدماء تسيل من راسه ووجه بغزازه، ولما عاد الى معسكر صلاح الدين ذهل الاخير من منظر فارسه ولما سأل واجابوه أمر جيشه بالانسحاب قائلاً: عار مقاتلة قوم يحاربون بالاحذية!!
لما قام جند صدام حسين بقصف مدفعي لقباب كربلاء المقدسة روى بعضهم كيف ان قائد العملية المدعو حسين كامل قال وهو يقصف كربلاء وقبابها، انا الحسين وانت الحسين، قالها باستهتار وبعد نحو اربعين عاماً على الحادث المذكور قصفت المدفعية العراقية للحكومة العراقية جامع النوري في الموصل اثناء الحرب على داعش، كما ونسف مسجد النبي يونس وو…الخ لقد كان ذلك انتقاماَ من قصف قباب كربلاء من قبل صدام حسين!! ولم تتوقف الطائفية عند تحويل الموصل الى خرائب وانقاض وهدم جوامعها ومساجدها اثناء الحرب على داعش، بل ان الحقد الطائفي استمر ففي كانون الاول 2018 تشكى سياسيون وبرلمانيون سابقون من الموصلين من حرمان الموصل من استحقاقاتها الانتخابية وحرمانها من اية وزارة مع تخصيص 1% من الموازنة العامة للموصل..الخ من تجاوزات على الموصل صنفت على الطائفية!!
ومن اشكال الثأر الطائفي الذي نفذه الطائفيون من الشيعة بحق السنة، فعندما قام صدام حسين في عقد الثمانينات من القرن الماضي في حربه على ايران والشيعة، بتجفيف الاهوار واقتلاع اشجارها ونباتاتها وتركها جرداء ومحشة في اطار اجراء لمنع القوات الايرانية من استغلالها ودخولها للعراق، وكان متوقعاً ذلك سيما بعد احتلال ايران للفاو واجزاء اخرى من العراق وبقيت الاهوار عند الحالة التي فرضها صدام عليها، الى ان ثم ملؤها بالمياه من جديد واعيد الحياة اليها بعد زوال نظام صدام ليس هذا فحسب فقد جعلت الاهوار ضمن التراث العالمي وبسرعة واعتقد الكثيرون ان عملية ابادة الاهوار مرت دون تأر طائفي غير انه وقبل ايام وفي هذا الشهر كانون الاول 2018 قامت جهات في الحكومة الشيعية الحالية بقطع الالاف من اشجار النخيل في حزام بغداد السني رغم احتجاج اصحابها السنة وصراخهم قائلين انها كانت تشكل مصدر رزق لهم وتشويها لجمالية العاصمة العراقية فاذا لم يكن قطع اشجار النخيل في الحزام السني ذاك حصراً عملاً طائفياً فكيف يكون العمل الطائفي ياترى؟ في وقت هنالك مناطق اخرى في العراق تشتهر باشجار النخيل كالبصرة ومعظم المدن الشيعية الجنوبية فلماذا لم تقطع الاشجار هناك؟ ان عملية قطع اشجار النخيل لم تكن عفوية بل متعمدة متقصدة كما قال رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية في العراق وتدخل في باب الحرب الطائفية وانتقاماً من قيام صدام حسين باقتلاح اشجار ونباتات الاهوار.
رغم مرور قرون على وفاة صلاح الدين الايوبي وعقود على منكرات صدام حسين، فان الثأر الطائفي منهما لم يتوقف مع الفارق بين الاثنين ( صلاح الدين) و ( صدام) بل مازال مستمراً وسيبقى مستمرا في الايام والاعوام المقبلة، ففي هذا الشهر ايضاً نشر كتاب شيعة مقالات تهاجم صلاح الدين الايوبي وتتهمه بالدكتاتور..الخ من الاوصاف الرهيبة والامثلة تتوالى، احتلال جامع الارقم في الموصل والعبث بمحتوياته واتخاذه مقراً للمحتلين له من افراد الحشد الشعبي، فبذل مساعي لتحويل جامع الخلفاء السني ببغداد الى موقع استثماري وحرمان نينوى السنية العربية والكردية من تستعها بوزارة.. الخ
ان العقل الجمعي لرجال الدين الشيعة وامتناعهم عن اتخاذ اية تدابير للحد من الطائفية وقبرها لايختلف في شيء عن العقل الجمعي الطائفي السني والعقلان الجمعيان وجها الطائفية في العراق، ولا يتقدم عليهما العقل الجمعي المسيحي واليهودي والبوذي فحسب انما العقل الجمعي الكردي كذلك، والا ما معنى اعفاء القادة الكرد للبعثيين الذين اجرموا بحق الكرد لعقود، من حرق وهدم لقراهم 4500 قرية وتسليط الانفال عليهم وقتلهم ل 82000 كردي في عمليات الانفال ودفنهم في مقابر جماعية، اضافة الى عمليات التعريب والتهجير ضد الكرد ومع كل هذا فان القادة الكرد بعد انتفاضة عام 1991 وتحرير ما يقارب من ثلثي كردستان ان القادة الكرد والشعب الكردي انتهجوا مبدأ ( عفا الله عما سلف) والذي اي المبدأ كان وما يزال من اسباب استقرار الامن والسلم الاجتماعي في كردستان، والكل يعلم ان ما ارتكبه يزيد بحق الحسين لا يرقى الى 1% من ما ارتكبه صدام حسين بحق الكرد، وتجاوز التسامح الكردي المبدأ المذكور، الى احتضان عشرات الالوف من سنة الموصل والانبار وصلاح الدين من الهاربين من داعش والاضطهاد الطائفي وتوفير العيش الكريم لهم، واذكر انه عندما فرض الحكام الحاليون شرط الكفيل على نازحي السنة من الانباريين وغيرهم لقاء السماح لهم بدخول بغداد فان مسعود البارزاني سجل موقفاً في التسامح حين اعلن عن قبولهم بدون شرط الكفيل.
أن أول من أيقظ الفتنة الطائفية في هذا العصر بعد أن كانت نائمة لسنوات وعقود، هو صدام حسين اثناء حربه على ايران عام 1980 عندما نعت الفرس بالمجوس وأساء حتى الى الرموز الفارسية المفكرة من امثال ابي نؤاس وعمر الخيام، كما لم يتورع عن ارتكاب مجازر بحق الشيعة في الدجيل وقصف قباب كربلاء ثم تدمير الاهوار والقضاء على الزرع والنسل فيها.. الخ من أفعال طائفية مقيتة بأمتياز، وبدلاً من دفن الفتنة التي ايقظها بسلوكه المشين، فان عصابات ( القاعدة ) و ( داعش) التي تتخذ من السنة قاعدة اجتماعية لها ومنذ عام 2003 فلقد بعثت بالفتنة من جديد ودمرت عشرات الحسينيات وقتلت العديد من رجال الدين الشيعة من جانب اخر فان الميليشيات الشيعية على اختلاف قادتها ومسامياتها ساهمت من جانبها بايقاظها وبشكل جد لافت، وتكاد اعمالها الطائفية الاجرامية لا تعد ولاتحصى ولجأت الى الانتقام والثار لحوادث مرت عليها قرون وعقود، فالانتقام من تدمير صلاح الدين الايوبي الدولة الفاطمية بمصر، دفع بالميليشيات الشيعية والنظام الحاكم في العراق الى تدمير متعمد لمدينة الموصل وتحويلها الى خرائب وانقاض وذلك باستخدام الاسلحة الثقيلة والتدميرية ضدها من مدافع وطائرات حربية ودبابات، خلاف لوعد لهم بعدم استعمالها ضد المباني اثناء معركة تحرير الموصل من داعش. لقد كانت الحرب ضد داعش عام 2017 تقترب من نهايتها ولم تكن هناك حاجة لاستخدام أسلحة الدمار العراقية الرهيبة لقصف الموصل مثلما لم تكن هنا لك حاج لاستخدام السلاح الذري من قبل الامريكان ضد هيروشيما وناكازاكي يوم 5-8-1945 اذ كان امبراطور اليابان يتهيأ للاستسلام عليه فان جريمة تدمير الموصل تضاهي جريمتي: الهجوم الذري على هيروشيما والقصف الكيمياوي لحلبجة عام 1988، عام اقتراب الحرب العراقية – الايرانية على نهايتها. ومن اشكال الثأر والانتقام الطائفي قيام السلطات العراقية في كانون الاول الحالي من هذا العام عام 2018 بقطع اشجار النخيل في حزام بغداد السني غير ابهة باحتجاجات اصحابها السنة وقولهم انها كانت تشكل مصدر رزق لهم، ناهيكم من تشوية عملية قطع تلك الاشجار لجمالية العاصمة العراقية.