د. ولات ح محمد
في بداية حملته الانتخابية قام مرشح حزب الشعب الجمهوري محرم إينجه بزيارة مرشح حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش الموقوف في أدرنه منذ نحو عامين بتهمة صلته بحزب العمال الكوردستاني المحظور وطالب حكومة منافسه أردوغان بالإفراج عنه ليقوم بحملته الانتخابية بحرية من باب المساواة مع بقية المرشحين. وبعد الزيارة أدلى إينحه لوسائل الإعلام بتصريحين: الأول أنه يجب الإفراج عن دميرطاش. والثاني هو قوله: “إن القضية الكوردية في تركيا قضية أخلاقية، ومن الضروري إيجاد حل لها. ومن المؤسف أن المسؤولين الأتراك تعاملوا بطريقة غير أخلاقية مع القضية الكوردية، حيث كانوا يقولون شيئاً في (أدرنه)، في حين كانوا يستخدمون لغة أخرى في (جولمريك)”.
من الطبيعي أن يدلي مرشح الحزب الجمهوري بهكذا تصريح في سياق حملته الانتخابية وتوظيف كل ما هو متاح للفوز بالانتخابات أو لمنع خصمه أردوغان من الفوز بها من الجولة الأولى على أقد تقدير، وهو الذي يعلم أهمية الصوت الكوردي في ترجيح هذه الكفة أو تلك. أما غير الطبيعي فهو أن يصدر عن مرشح حزب لا يعترف حتى هذه اللحظة بمجرد وجود مكون كوردي في جمهوريته التركية وله حقوق، بل كان من منتقدي سياسات أردوغان التي ادعى فيها قبل سنوات أنه سينفتح على الكورد وسيحل قضيتهم.
من جهته قال رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو “إن حزب العدالة والتنمية لم يتمكن على مدى 16 عاماً من حل المسألة الكوردية، لكن حزب الشعب الجمهوري سيحلها في أربع سنوات، لأننا حين نباشر بحل هذه المسألة لن ننظر إليها من منطلق تأثيرها على عدد ناخبينا زيادة أو نقصاناً، كما أننا لن نطلق وعوداً لا نستطيع الوفاء بها”. اللافت أن صاحبي التصريحين يتحدثان وكأنهما مصابان بفقدان الذاكرة؛ يتحدثان وكأن حزبهما قد تأسس منذ عشر سنوات وليس قبل قرن من الزمن، أو كأن المسألة الكوردية قد برزت منذ مجيء حزب العدالة والتنمية وليس على يد مؤسس حزبهما كمال أتاتورك الذي أسس لتهميش الكورد ثم لإبعادهم عن المشهد السياسي التركي عموماً منذ انقلابه على وعوده لهم بأنهم شركاء في الوطن، حتى جعل وجودهم باسمهم جريمة يعاقبون عليها.
إذا كان العدالة والتنمية لم يتمكن من حل المسألة في 16 سنة فإن الشعب الجمهوري هو الذي أوجد المسألة ذاتها وعمقها ولم يحاول حلها في ثمانين عاماً. وإذا كان الأول قد أعطى وعوداً ولم يلتزم بها فإن الثاني لم يعط حتى وعود كاذبة (إلا في عهد أتاتورك) لأن آيديولوجيته لا تعترف بوجود الكورد في جمهوريته. وإذا كان منافسو إينجه قد “تعاملوا بطريقة غير أخلاقية مع القضية الكوردية” فإن رفاقه تعاملوا معها بأسوأ من ذلك لثمانين عاماً وحتى هذه اللحظة. فكيف اكتشف إينجه وكليجدار أوغلو فجأة ومن دون مقدمات أن في تركيا مسألة كوردية سيجدون لها حلاً في أربع سنوات؟ وأي حل؟.
عموماً، هذا الموقف من طرف الحزب الجمهوري تجاه الكورد كان علامة واضحة على أنه دخل على خط التنافس مع نظيره العدالة والتنمية على كسب الصوت الكوردي، بعد أن ظل من حصة حزب أردوغان منذ الانتخابات التي أوصلته إلى السلطة قبل ستة عشر عاماً، باستثناء تلك الأصوات الكوردية التي ذهبت إلى حزب الشعوب الديمقراطي في دورة الانتخابات الأخيرة.
بعد صدور نتائج الاستفتاء على صلاحيات الرئيس وتحويل النظام من برلماني إلى رئاسي الذي جرى في تركيا في نيسان إبريل من العام الماضي نشرتُ مقالاً تحت عنوان (رسائل استفتاء تركيا.. الكورد يعاقبون الجميع) رأيت فيه آنذاك أن الناخب الكوردي أبدى وعياً عالياً في ذلك الاستفتاء وعاقب جميع الأطراف التي خيبت آماله أو ألحقت به أذى من نوع ما، وقلت إنه ” أمام هذا الحسم الذي أحدثه الصوت الكوردي سيدرك الطرف السياسي التركي الآخر (الذي يمثله حزبا الحركة القومية والشعب الجمهوري) أنه لا بد من الانفتاح على الكورد وحقوقهم، لأن من أراد أن يحكم تركيا عليه أن يكسب الكورد إلى جانبه… ومن غير المستبعد أن نرى لأول مرة تنافساً على صوت الناخب الكوردي بين الأحزاب التركية من خلال برامجها وطروحاتها الجديدة في المرحلة المقبلة”، وهذا ما يفعله الجمهوريون اليوم في هذه الانتخابات.
من جهته لم يعد لدى حزب أردوغان ما يقدمه للكورد من وعود في هذا الإطار بعد أن أفرغ جيوبه خلال السنوات الماضية من الوعود التي لم ينفذ منها إلا النزر اليسير؛ فمعظم الشارع الكوردي ملّ تكرار أردوغان في خطاباته العزف على وتر الأخوة التركية الكوردية وعامل الإسلام ورباعيته الشهيرة: دولة واحدة وطن واحد شعب واحد علم واحد، وهو ما كرره في خطاب انتخابي له في دياربكر (آمد) مؤخراً، وأضاف: “لا تحاولوا البحث عن دولة للكورد، لأن دولتهم هي الجمهورية التركية … ستبقى لغتنا التركية اللغة الرسمية للبلاد، وقيمتها لا تختلف عن قيمة اللغة الكوردية… نحن لم نهمل ديار بكر، بل جعلناها بمثابة اسطنبول وإزمير في شرق وجنوب شرق تركيا… سأقف في وجه كل من يحاول اغتصاب حق أي من أشقائي الكورد”. وذكّر بأن المواطنين الكورد باتوا يتمتعون بحقوق متساوية مع الأتراك والعرب في تركيا، وأنهم لم يعودوا يتعرضون للظلم بسبب كونهم كورداً.
مثل هذا الخطاب يبين أن أفضل ما يمكن أن يقدمه أردوغان وحزبه للكورد (وكذلك الجمهوريون) هو اعتبارهم مواطنين يتمتعون بحقوق المواطنة ليس غير، وأن ما كان يتحدث عنه في السنوات الماضية من حل للقضية الكوردية لم يكن سوى كلمات لا تكلفه شيئاً وتكسبه في الوقت نفسه أصواتاً تؤمن له كرسي السلطة. هذه اللعبة قرر الجمهوريون أيضاً ممارستها هذه المرة.
إذا أضفنا إلى هذه الخدعة تلك الحرب القاسية التي شنها جيش أردوغان في مواجهته مع حزب العمال الكوردستاني قبل عامين على المدن الكوردية التي شرد أهلها منها ودمر الكثير من البيوت فيها، وموقفه السيئ من استفتاء إقليم كوردستان واحتلاله عفرين الكوردية وتشريد أهلها ونهب بيوتهم من قبل ميليشياته المهاجمة بضوء أخضر من حكومته نفسها، أدركنا أن كل تلك العوامل وغيرها كفيلة بجعل حزب أردوغان عاجزاً عن تقديم وعود جديدة للشارع الكوردي الذي فقد ثقته به، ناهيك عن عبثية تكرار الوعود والشعارات السابقة. ولذلك لجأ إلى مخاطبة الصوت القومي التركي المناوئ للكورد من خلال الهجوم على عفرين والتهديد باجتياح قامشلي والحسكة وقنديل وسنجار.
ضمن هذه البيئة السياسية الانتخابية برز على السطح ما طرحه حزب الشعب الجمهوري من خلال تصريحات مرشحه محرم إينجه ورئيسه كليجدار أوغلو، محاولين القطع تماماً مع إرث هذا الحزب وكل الأحزاب التركية ومواقفها من الكورد منذ مئة عام وحتى هذه اللحظة، بغية سحب البساط الانتخابي الكوردي من تحت أقدام أردوغان وإسقاطه أرضاً. ما يميز تلك الخطابات والوعود أنها بلا أساس منهجي وآيديولوجي وأنها مجرد كلمات في الهواء ستذهب مع هبوب رياح نتائج الانتخابات. أما الجديد فهو أنهم جميعاً باتوا يتحدثون عن شيء اسمه “مسألة/ قضية كوردية” ينبغي حلها.
نعم لإسقاط أردوغان، وماذا بعد ..؟
خلال ستة عشر عاماً من معارضته لحزب العدالة والتنمية لم يقدم حزب الشعب الجمهوري أي برنامج باتجاه الكورد وحقوقهم (ولو من باب المتاجرة بأصواتهم) أو بادرة تجعلهم يصوتون له بدلاً من الوقوف مع العدالة والتنمية، بل كان يعارض توجهات أردوغان في عملية السلام وغيرها. اليوم يصحو هذا الحزب من سباته الذي دام قرناً من الزمن ليقول إنه سيحل القضية الكوردية في تركيا خلال أربعة أعوام. ما الذي يمكن أن يقدمه للكورد؟: هل سيعترف بهم كمكون يشكل 20% من سكان تركيا على رقعة تشكل النسبة ذاتها من أراضي الدولة؟. هل سيصحح خطأ أردوغان في عفرين، أو سيلغي تهديداته باجتياح كوباني وقامشلي وعامودا والحسكة وديريك؟. إن تعهد محرم إينجه بأنه سيجعل يوم نوروز عطلة رسمية في تركيا مؤشر واضح على نوع الحل الذي يحمله إينجه بدوره للقضية الكوردية في حقيبته الانتخابية الخالية من أي حل سوى من الوعود الفارغة . الحقيقة أن العملة واحدة، وإنْ بدا أحد وجهيها لبعض الوقت أكثر نعومة من الآخر أو أجمل.
إذا كان هذا هو حزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيسه رجب طيب أردوغان فمن حق الكوردي ومن واجبه إسقاطهما، وإذا كانت هذه هي المعارضة التي تسببت للكوردي على مدى ثمانين عاماً بكل تلك المآسي فكيف له التحالف معها ومساعدتها لتسلم السلطة من جديد؟، فيكون كمن ألقى بنفسه في الحفرة أو نَصَبَ فخاً لنفسه بنفسه أو سلّم عنقه لسياف مجرَّب. أمام مشهد محير كهذا وخيارين أحدهما أسوأ من الآخر أتصور أن السؤال الذي يدور في رأس الكوردي في هذه اللحظة هو: نعم لإسقاط أردوغان وحكومته، ولكن ماذا بعد..؟؟.
من المؤكد أن أطرافاً محلية تركية وأخرى إقليمية وثالثة دولية سوف تسعد لفوز هذا الطرف أو ذاك في الانتخابات التركية، ولكن المؤكد أيضاً أن الطرف الكوردي سوف يكون الخاسر الوحيد في كلتا الحالتين؛ فلا حزب أردوغان بات مقبولاً لدى الشارع الكوردي ولا بديله الذي سبق وأن أذاق الكورد الأمرين خلال ثمانين عاماً قادر أن يقدم الأفضل. وإذا كان الغرب الكاره لوجود أردوغان وحزبه في السلطة لم يقف مع الكورد ضده (لا في تركيا ولا في غيرها) فهل سيناصرهم ضد إينجه وحزبه الذي يعلن منذ الآن أنه سيعيد تركيا إلى الحضن الغربي؟. ولذلك فإن أية مراهنة كوردية على تغيير في سياسة الحكومة التركية تجاه الكورد نتيجة فوز هذا الطرف أو ذاك هي مراهنة خاسرة حتماً.
القرش الأبيض الوحيد الذي سينفع الكوردي في يومه الأسود هو حصوله على عدد جيد من مقاعد البرلمان يجعله رقماً مهماً في حسابات الأطراف الأخرى، سواء في سَن القوانين وإلغائها داخل البرلمان أم في تحالفات تشكيل الحكومة القادمة، إذ لا قيمة للضعفاء وقليلي العدد في هكذا حسابات. وبذلك فقط يمكن أن يتحقق له من الوجود والحضور والحقوق من خلال البرلمان ما لم يتحقق من خلال السلاح. أما من يكون الرئيس؟ ومن يكون الحزب الحاكم؟ فإن ذلك لا يعني الكوردي كثيراً لأنه فقط تغيير في الأسماء والأشكال لا في المواقف والأحوال.