هل الشعب الكوردي في معركته الأخيرة؟

جان كورد
 تمكنت الدول التي تقتسم بلاد الكورد فيما بينها من شن حروبٍ ثقافيةٍ طويلة الأمد، استخدمت فيها شتى وسائل القهر والصهر والمنع للقضاء على لغة الشعب الكوردي وثقافته، بحيث بدأ الكوردي يشعر منذ طفولته بأنه إنسانٌ من الدرجة الثانية في محيطه وبأن لغته ليست ذات أهمية، فهي ليست “لغة أهل الجنة!!!” كما يزعم البعض عن اللغة العربية، وليست لغة متميّزة وقائمة بذاتها، وإنما هي لهجة مشتقة عن الفارسية مثلما يزعم آخرون، كما أنها ليست “لغة الأشراف!” (من أعظم الشرف من يقول: أنا تركي) حسب معايير النظام الطوراني، وبالتالي فإنه مضطر لتعلّم لغة غاصبي أرضه، شاء أم أبى، وساهم انتشار التلفزيون بعد الصحف والمجلات باللغات السائدة في تكوين مستعمرةٍ ثقافية في صدر كل مواطنٍ كوردي، أينما كان في وطنه الممزّق سياسياً، هذا التمزّق الذي كان حسب مصالح الدول الاستعمارية التي رسمت الحدود ووزّعت مناطق النفوذ فيما بينها على أثر الحرب العالمية الأولى.
إضافةً إلى هذه الحروب المعلنة على لغة وثقافة الشعب الكوردية والتي لم تنتهِ منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا في بعض أنحاء كوردستان، ثمة حروب أخرى، سياسية ونفسية، وبمختلف أنواع السلاح أيضاً، تستهدف وجود هذا الشعب وتماسكه وقواه المادية والمعنوية، ومن أخطر أسلحة هذه الحروب التهجير القسري أو الإرغام على الهجرة الطوعية بممارسة الضغط على المواطنين الكورد أثناء العمليات القتالية وبعدها للخروج من مناطقهم وأراضيهم، وهذا ما جرى تاريخياً لدى الحروب بين الدولتين العثمانية والفارسية، التي كان من نتائجها تهجير الصفويين لكثيرين من الكورد إلى منطقة خراسان في شمال شرقي إيران، حيث يتواجد منهم الآن عدة ملايين، إلاّ أنهم لازالوا محتفظين بلغتهم إلى حدٍ ما، رغم السياسة العنصرية للحكومات الفارسية منذ ذلك الحين. وكذلك أثناء الحروب العثمانية – الروسية التي أدّت إلى تهجير الكورد عامةً واليزيديين خاصةً صوب المناطق الواقعة تحت سيطرة الروس، ومن ثم تهجيرهم من قبل النظام الشيوعي أثناء حكم الدكتاتور جوزيف ستالين إلى ما هو أبعد، وتوزيعهم على عدة جمهوريات بهدف صهرهم في ثقافات ولغات ومكونات الشعوب الأخرى. وإذا كان من حظ الألمان المهجرين مثل الكورد أن تكون لهم دولة ألمانيا في غرب أوروبا تضع خطةً لإعادتهم من أطراف نهر الفولغا إلى وطنهم الأم، فإن هذا لم يتوفر بعد للشعب الكوردي المهجّر إلى العديد من بلدان العالم، ومنها باكستان وأفغانستان وطاجكستان وآذربيجان وأرمينيا وسواها خلال قرونٍ عديدة. وثمة مجاميع كوردية متفاوتة في الأحجام في مصر وفلسطين والأردن والسودان وغيرها، إضافةً إلى الكورد المهجرين من قبل الطورانيين إلى غرب تركيا على أثر القضاء على ثورات الشعب الكوردي في القرنين التاسع عشر والعشرين.  هذا، ولا يمكن نسيان الكورد الذين تطوعوا في جيوش الأيوبيين الذين جلبوهم من كوردستان لمحاربة الصليبيين في بلاد الشام ومصر.
واليوم، نرى كم هو هائل عدد الكورد الذين اضطروا إلى ترك وطنهم منذ أواسط القرن العشرين، نتيجة الحروب المتتالية فيه، سواءً بين الدول المسيطرة على الكورد أو فيما بين الكورد أنفسهم، بحيث لا نجد بلداً متقدماً بعض الشيء في العالم، من دون جاليات كوردية، وعلى الأخص دول الاتحاد الأوربي، وهذا يعرّضهم إلى خطر الانصهار في تلك المجتمعات طوعاً، بعد جيلٍ أو جيلين، كما حدث للكورد الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت لهم جمعيات في المدن الأمريكية الشمالية، اندثرت وزالت مع الأيام، حتى اختفى كل أثرٍ لتلك الجاليات التي كانت محافظة على لغتها ومعتزة بانتمائها القومي في البداية. وهذا الانصهار حدث أيضاً في البلدان التي تقتسم كوردستان ذاتها بسبب السياسات الشوفينية الطويلة الأمد للحكومات المستبدة برقاب شعبنا، فاسم “صوران” تجده في مناطق عديدة في الشرق الأوسط، على الرغم من أنها كلمة كوردية أصيلة لاتزال تطلق على منطقة وعلى لهجة كوردية، وهذا يدل على أن سكان تلك القرى كانوا كورداً من إقليم صوران ذابوا وانصهروا في بوتقة القوميات السائدة، وكذلك لا نجد أثراً للكورد الذين تم تهجيرهم من قبل السلطات الطورانية في ظل نظام آتاتورك إلى منطقة بوردور في غرب تركيا.  وها هم الكورد في “جبل الأكراد” بالقرب من اللاذقية وفي دمشق وحماه قد نسوا لغتهم الأم ومنهم من يرفض أن يكون كوردياً، فالكوردي ضعيف، مغلوب على أمره، لا مستقبل له في السياسة ولا مكان له تحت الشمس، وهذا نراه جلياً بينهم في شمال كوردستان على نطاقٍ واسع.
نلاحظ الآن خطر القضاء على الوجود القومي الكوردي من خلال النزوح والهجرة والتهجير بصورةٍ مخيفة في المناطق “المتنازع عليها” بين إقليم جنوب كوردستان والحكومة العراقية، وبخاصةٍ في محافظة كركوك بعد الاستفتاء على استقلال الإقليم وما تبعه من “خيانة عظمى” ضد شعبنا، وكذلك في العديد من مناطق سكنى الكورد العريقة في سوريا، ومنها منطقة عفرين التي تكاد قراها ال (366)  تخلو من مواطنيها بسبب الحرب الدائرة فيها الآن ، فعندما تحاربت القوى المتنازعة في مدينة حلب هرب مئات الألوف من  الكورد من مدينة حلب إلى منطقة عفرين، والتجأ إليها مئات الألوف من المكونات السورية الأخرى، من عربٍ وتركمان ومسيحيين، ولكن منذ 20/1/2018، لدى بدء الغزو التركي المصحوب بهجمات ما يسمى بالجيش السوري الحر وشروع المهاجمين بحملات السلب والنهب لأموال وممتلكات المواطنين في وضح النهار التي أوجد لها الأتراك شيوخاً عرباً سوريين مع الأسف يصدرون الفتوى بالقتل والسلب، بدأت الهجرة المعاكسة صوب حلب،  خوفاً من الموت نتيجة قصف الطائرات والمدافع والدبابات التي لا تتوانى عن قصف القرى والمدن، والوصول إلى حلب ينطلب دفع أموالٍ هائلة لنقاط السيطرة المتواجدة على الطريق، وهكذا فإن المنطقة معرّضة لتغيير ديموغرافي كبير، لأن العرب الذين فقدوا بيوتهم ومزارعهم في مناطق سورية أخرى لا ينفكون يبدون رغبتهم العارمة للمكوث في منطقة عفرين الثرية والجميلة والتي كانت حتى الآن منطقة آمنة رغم سنوات الحرب، بل إن تصريحات القادة الأتراك تدور على الأغلب حول “إعادة المنطقة لأصحابها الحقيقيين!” والتلميح هنا للعرب والتركمان واضح وصريح، على الرغم من عدم وجود قرية واحدة تركمانية في المنطقة بأسرها، ولربما توجد قرى حديثة للعرب فيها لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. 
الوجود القومي الكوردي في خطر، ليس في منطقة واحدة من كوردستان وإنما في العديد من المناطق، كما جرى في كثيرٍ من أنحاء شمال كوردستان منذ عام 1984 وإلى اليوم، بسبب الحرب التي لاتزال دائرة هناك، فإن كركوك وعفرين قد تتعرّضان إلى مأساةٍ لا تقل جريمةً ضد الإنسانية مما جرى في كوباني، والأحزاب الكوردية، رغم كل ما يجري لا تستطيع الوقوف في خندق واحد للدفاع عن وجود شعبها، حيث الأمل في وحدة قوانا فقط، وفي ثقتنا التامة بأن الله مع المظلومين ولا يحب الظالمين. والمعتدين.
          ‏08‏ آذار‏، 2018
facebook:kurdax.net                          kurdaxi@live.com           

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…