عبدالقادر كَوك
القرّاء الأعزاء !
قبل كل شيء، أريد أن أقول بضع كلمات حول الكتابة باللغة الكردية. لقد مضى علي ثمانية عشر عاماً وأنا أمارس مهنة التعليم في القسم الفلسفي. تلك سنوات طويلة أمضيتها وأنا أدرس الفلسفة باللغة الأجنبية أو بلغتي الرسمية ” التركية “. وقد ساءلت نفسي: لماذا لا أكتب أفكاري بلغتي الأم ؟
مما يعرَف هو أن الفلاسفة أو علماء الفلسفة يبذلون محاولاتهم من خلال الأحداث والأنشطة الاجتماعية المختلفة، ومن وجهة نظري أيضاً، كانت المحاولة المختلفة نافعة، لأنني كنت مدرس القسم الفلسفي. وأغلب الكرد لا يتحدثون باللغة الكردية ولا يكتبون بها، وهذا خطأ في رأيي، إنما المؤكد هو أن لا أرتكب الخطأ مثلهم، لهذا السبب باشرت كتابة الأفكار الفلسفية باللغة الكردية .
إن الدول التي قسَّمت الكرد إلى أربعة أجزاء، لا تسمح لهم في أن يقرأوا بالكردية في مدارسها، إنما للعمل في خدمة لغاتها، ثقافاتها، فنونها، وتواريخها، وهي تطوّر فيها وتغْنيها. وبالطريقة هذه، تكون قد صادرت منا كل قدراتنا القومية. وكما يعرَف، هناك شحٌّ في المؤلفات والكتب المكتوبة باللغة الكردية في مكتبة الشعب الكردي، إلا أن مصدر هذا الشح ليس خطأ الكتاب الكرد، إنما خطأ عدم الكتابة باللغة الكردية، ومهما كان هناك حضور للفلاسفة، الملالي والمعلمين الكرد الكبار منذ بدء التاريخ إلى يومنا هذا، فإن أغلبهم، حقيقةً، كتبوا أعمالهم الدينية، الثقافية، الاجتماعية، التاريخية والفلسفية باللغة العربية، الفارسية والتركية. إزاء ذلك ثمة أهمية كبرى لهذا الموضوع . لهذا كان تأليفنا لهذا الكتاب” انبعاث الفلسفة ” باللغة الأم، حيث أفصحنا بلغتنا عن الأفكار التاريخية، بغية تقوية هذا الجانب الضعيف والهش، وازدهاره.
وهأنذا أوجه نداءاً إلى جميع المثقفين، العلماء والمفكرين الكرد وبكلمة من الأسلاف ” عطاؤنا قمح وشعير، يكفينا إن لم يسلبه أحد “. هذا القول الذي تفوه به الأسلاف الكرد له معنى كبير. يكفينا وجود ميزوبوتاميا. هناك منبع أفكار عظيمة على أرض كردستان، وقد تخرَّج هذا الكم الكبير من المدارس والملالي أو العلماء الكرد في العالم الإسلامي. وأصبحوا ملك التاريخ، وقد كتبوا الكثير من مؤلفاتهم بلغات أجنبية، والقليل منها باللغة الكردية، والتاريخ الكردية غني جداً من جهة التآليف، وفي وسع الباحثين الكرد إن أرادوا إظهار أفكار التاريخ الكردي إلى العيان مثل عصر اليونان القديم .
وهكذا، فإن أحلام الليالي المجهَضة يجب أن تجدد نفسها. ودون أن نعلَم بأمرها، فإنه يجب على الأفكار، الأرقام والأعداد أن تكتَب باللغة الأم. وكذلك فإن الكلمات وأحاديث اللغة الأم تلك التي أنسيَتْ، يجب أن تنبعث من جديد، وعلى العيون أن تنتظر الحرية والنصر، والكلمات والعبارات التي تكتَب باليد، يجب أن تُشتمَّ وتقرَأ. و يجب أن تخضع هذه الكلمات والعبارات مجدداً في الليالي نفسها لسلطة ضوء القناديل” أن تنار جيداً “، أن تتم تهجئتها وقراءتها مجدداً. وعلى الآلام والأوجاع يجب أن تضطرد، وعلى الوحدة أن تعاش .
نعم، على المرء أن يكون سعيداً، على المرء أن يضحك، أن يبكي…أن يعيش كل شيء…أو يصح ذلك مثل اللغة الكردية اليومية !!!
وكي يستطيع المرء التقليل من التحسر، يجب عليه تعلم اللغة الجديدة، أن يعاين المدن وحياة المجتمعات الحرة، سوى أنه ينبغي عليه الاستزادة في كل مرة، وفي كل خطوة، وأن ترتد مجريات وقائعه، على المرء لفْت أنظاره إلى الجهات البعيدة، وتحصيل معلومات مفيدة، لكي تستيقظ الروح تماماً وتزدهر.
على المرء تعقُّب تلك الجذور تفرعاتها، والبحث عنها. على المرء زرع نطاف جديدة، ليتمكن من بلوغ تلك الأزمنة والأعصر الماضية، وعلى الروح أن تنفتح أمام الأحاسيس الجديدة، وتحتضنها، وأن تمكّن إرادتها بحرية واعتزاز قولاً وفعلاً .
يقول غوته ” المرء الذي لا يقاضي تاريخ فكره والذي يغطي ثلاثة آلاف عام فيما سبق، فإنه يعيش حياته اليومية المعتادة .” . وعلى أرض كردستان، على مدى ثلاثة آلاف عام سالفة، ثمة كم وافر من التواريخ، الثقافات، الأفكار والفلسفات، بحيث يمكننا نحن الشعب الكرد من أن نقوم بمحاولة من أجل هذه الغاية، حينها فإن مدنية الشرق الأوسط بالمقابل سوف تؤكد ” تنويرها “.
إن المجتمعات أو القوميات التي لا تحيط علماً كافياً بتاريخها، فإن تلك القوميات وقادتها يعانون مصاعب جمة، حيث إنهم في مسيرتهم المتعلقة بالاستقلال والحرية الديمقراطية ووطنهم، لا يبصرون طريقهم وتقدمهم، إنما يمارسون أخطاء كبرى في مسيرتهم هذه.
إزاء ذلك، يوجّه نيتشه نصيحة إلى مجتمعات العالم قاطبة وخلائقها، من خلال فكر أو نقد جديد أو حداثة : إن الحرية هي قوة البشر وعنصر السيادة فيهم، وهي تقدم ومقاومة في تاريخ العالم، وحيث إن المجتمع أو الناس اعتماداً على حركة افتدائية وعدمية سوف يولِدون ” الإنسان الأعلى ” إلى الوجود. ومطلوب أن يخرج المرء بنفسه من مرحلة الضياع ” العدمية “، وأن الوجود هو الذي يبدِع أسمى الأشياء، ومطلوب من المرء أن ينتصر. إن الهدف أو معنى العالم ” الإنسان الأعلى “.
وبدوره، فإن سارتر يقول حول الحرية ” إن الحرية حمْل ثقيل على كتف المرء، لأن الحرية تجلب معها المسئولية والجزاء، ووحدها الحرية تكون منبع البطولة .”.
بالطريقة هذه، على المرء أن يعيش الحرية الفردية كما أن عليه أن يعيش حرية في مختلف مراحل حياته، وليس هناك من قيم وقوانين كونية تلك التي يؤكدها المرء، إن حرية المرء بالكاد تتحقق اعتماداً على الوجود المحمي. إن اختيار المرء، هو الذي يحدد قانونه وقيمته أيضاً، وهو الذي يبلور بقراره الذاتي شخصيته، إنسانيته وسيرورة الإنسانية.
ومن جهته، فإن بديع الزمان ملا سعيد الكردي، يقول التالي من أجل الكرد جميعاً، ومن أجل حل المشاكل الكردية : ثمة ثلاثة أعداء لنا، وهي تضعفنا.
أولها: الفقر، حيث إن أربعين ألف ” حمّال/ عتال ” كردي في ستانبول دليل على ذلك.
ثانيها: الجهل والأمّية، حيث لا يوجد واحد من ألف بيننا من يمكنه قراءة صحيفة، دليل على ذلك.
ثالثها: العداوة والخلاف، حيث إن العداوة تقضي على قوتنا، وتعرِضنا للتربية، وتظلمنا الحكومة بدورها جرّاء انتفاء الإنصاف فيها، فإذا تبيَّنتم ذلك، حينها تعلمون أن الحل هو أن نحمل ثلاثة سيوف من ألماس في أيدينا، حتى نحافظ على الجواهر الثلاث في أيدينا. والسيف الأول: المعرفة والقراءة. والثاني: الاتفاق ومحبة الناس. والثالث: الإنسان، والذي يعمل بنفسه، ولا ينتظر فرجاً كالفقراء من قوة الآخرين، وعدم الاتكال على أي كان.
ويشخّص بديع الزمان الكردي أمراض الكرد وهو يقدّم الحلول لها، كما يرتّب إيجابياتهم هكذا:
” أيها الشعب الكردي، في الاتفاق قوة، وفي الاتحاد حياة، وفي الأخوَّة السعادة. فتمسكوا بالاتحاد واعتصموا بحبل المحبة بقوة، لكي تتحرروا من كل المصائب. وتنبهوا إلي جيداً، سأعلِمكم بشيء: أنتم تعرفون أن لدينا ثلاث جواهر، وتطالبنا بحمايتها. الأولى: الإسلام، وقد سفِكت دماء الآلاف من أجله ثمناً له . الثانية: الإنسانية، حيث يجب علينا أن نقدّم إنسانيتنا للآخرين وأمامهم في العالم من خلال خدمات عقلية وعبر التفاني. الثالثة: الشعب، شعبنا والذي وهبنا مزية من خلال الأسلاف الخالدين بطيبهم، ونحن بعملنا وحفظنا لشعبنا، نبهِج أرواحهم في القبر .” .
كيف ألَّفت هذا الكتاب؟ كنت أفكر كثيراً بصدد اللغة واللغة الأم، وأنا أخاطب نفسي: أنا معلّم الفلسفة، إنما ليس بلغتي الطبيعية. إنني أقرأ باللغة الأجنبية، وأحياناً أكتب بها، لماذا؟ تلك الأفكار كانت تنفجر في رأسي ودماغي مثل الألغام، وكنت أرجو أملاً من أجل التعليم بلغتي لكي تصبح لغة شعبية، من أصحاب السلطة، الوزراء والمثقفين الأتراك باستمرار، وللأسف، فإن ذلك لم يتحقق. إنما أكنت أوقف تلك الألغام التي تنفجر في دماغي؟
لقد فقدت الأمل من السلطة التركية، لكنني نشدت الأمل في نفسي، حيث إنني بدءاً من آذار 2008، باشرت القراءة والكتابة بلغتي الكردية، وكانت قراءتي لرواية محمد أوزون ” أنت ” بداية قراءتي للكردية، وما هي إلا أيام معدودات، حتى اكتشفت أنني أستطيع القراءة عن طريق المساعدة، وتعلم القراءة باللغة الكردية، ولقد تابعت قراءتي من خلال الروايات والمواقع الكردية، وتمكنت على مدى ثلاثة أشهر من قراءة قرابة ” 35 ” كتاباً. وساءلت نفسي: لماذا لا نكتب ونحن نقرأ؟ إن التعلم يكون عن طريق القراءة والكتابة. أيستطيع طائر الطيران بجناح واحد؟ فقلت لنفسي: كلا. وبدأت الكتابة بصورة فعالة بأسلوبي الفلسفي. وهكذا تقدمت كثيراً في نطاق الكتابة خلال خمسة عشر يوماً، وقلت لنفسي: أليس أساسك فلسفياً وتوجهاً فلسفياً، فلماذا لا تظهِر الأفكار الفلسفية وتاريخها في كتاب ؟
هذا السؤال في ذهني تحوَّل بدوره إلى انفجار مشدود إلى الأمل والبهجة، ولقد بدأت الكتابة حول موضوعي ” انبعاث الفلسفة ” في تموز 2008. وكنت أستمر في القراءة والكتابة يومياً قرابة ” 15 ” ساعة ودون انقطاع، وقد أنجزت هذا الكتاب في ثمانية أشهر.
ومن أجل محاولتي هذه في القراءة والكتابة، إذا كان هناك أخطاء ونواقص فاعذروني، وأتقبل كل كلمة ونقد لكم برحابة صدر، لقد كتبت ” انبعاث الفلسفة “، فإذا كان هناك من يمكنه كتابة ما هو أفضل من هذا المؤلَّف، فأنا أشكره على ذلك مسبقاً، إنما للأسف، ثمة شح من المؤلفات بلغتنا الكردية، وهي تنعدم جهة الأفكار الفلسفية بالمقابل.
ومن هذه الناحية لا توجد أمثلة أخرى، لكي أكتبها وأعبّر عنها بصورة أفضل.
لقد بدأت بقراءة اللغة الكردية والكتابة بها من نقطة الصفر، وتعلمت اللغة الكردية قراءة وكتابة، فاعذروني على نواقصي.
الوصية الأخيرة ” القراءة، القراءة، القراءة ، والاتحاد، الاتحاد، الاتحاد…” .
عبدالقادر كوك Abdulqadîr Gok
الترجمة عن الكردية: ابراهيم محمود
والمترجم عبارة عن مقدمة الباحث الكردي في الفلسفة: Abdulqadîr Gok، لكتابه : انبعاث الفلسفة ” دراسة “، منشورات روناهي، آمد، 2011، صص9-12 :
Abdulqadîr Gok: Vejîna felsefeyê” Lêkolîn “,Weşanên Ronahî, Amed, 2011, r:9-12.
والباحث Abdulqadîr Gok ” أي عبدالقادر السماء أو الكُرَة بالتركية ” أستاذ الفلسفة ومن مواليد الرها سنة 1967، قضاء بيرسوي” سروجى “، قرية أليزر Elîzer ، وهو الآن يقيم في مدينة الرها، ويكتب باللغة الكردية في مجالات فلسفية مختلفة.