إبراهيم اليوسف
في صباح يوم عيد نوروز2010، كنت في بيتي في قامشلي، بعد أن زرت الأهل في العطلة الانتصافية، قادماً من الإمارات، إلا أن الأمن القومي كان قد أصدر كتاباً- في اليوم نفسه- بمنعي من السفر، ليكون هناك قراران بمنع سفري، أحدهما للأمن السياسي والآخر لهم، وصدر القرار قبل أن أصل مطار حلب، أي في يوم سفري نفسه، برفقة أحد المدرسين في الإمارات وهو” محمد سعيد”، وظللت هناك أشهر، إلى أن توسط لي الصديق صقرعليشي، بعد فشل محاولات كثيرين لمؤازرتي، وأمن لي العودة إلى الإمارات، من دون أن أعود إلى الوطن، حتى الآن. صباح ذلك اليوم، اتصل بي الشيخ مراد الخزنوي وقال: دعنا نعايد أهلنا معاً، في تجمعات نوروز. أذكر أنني قلت له: اذهبوا الآن، سأخرج مع أسرتي، ولكني سألحق بكم، وسأستأنف معكم الاحتفالات فيما بعد. و بعد وصولي، وبينما كنا في ذروة مشاركة الأهل والمحتفلين بالعيد، وردنا نبأ:
النظام ارتكب مجزرة ضد المحتفلين بالنوروز في الرقة
حاولنا الاستفسار، لمعرفة حقيقة ما جرى لكرد الرقة، ولكن، لم نتمكن من معرفة عدد الجرحى أو الضحايا أو المعتقلين، لأن الأرقام كانت متباينة، ولم يكن لدى أحد علم بالعدد الحقيقي لهم، إلا بعد سفر زميلنا أكرم كنعو- رئيس مجلس أمناء منظمة حقوق الإنسان في سوريا-ماف بعد حوالي عشرة أيام، إلى الرقة، وبوساطة رفاقه في الحزب، لنلتقيه-على عجل- بعد عودته، وليرحل هو الآخر، بعد أقل من يومين، في حادث سير، بينما كان يتوسط من أجل مصالحة اجتماعية، لنكتفي بتقارير منظمة ماف الأولية عن ذلك.
عدت إلى البيت ، بوساطة سيارة صديقي الشيخ عبدالقادر الخزنوي، لأتابع بعض تفاصيل الحدث، عبر المواقع الإلكترونية، أو فضائية- روج- التي كانت قد وصلتها صور قليلة، ثم بدأت بكتابة ما يلزم من أخبار صحفية، وبيانات، حول الجريمة، إلى أن أعلمني ابني آراس، أن أصدقاءه في الرقة أرسلوا إلي فيديواً فيه تفاصيل إطلاق الأمن السوري النار على المحتفلين الكرد في الرقة، واعتقال أعداد هائلة منهم، وحصار الأحياء التي يسكنونها، وفرض رقابة كبيرة عليهم، ناهيك عن قطع شبكة الأنترنت، عن الرقة، بما لا يسمح بإرسال فيديوات، وملفات ثقيلة. سألته كيف أرسلوه:؟
قال: أصدقائي الطلاب الذين كانوا قد عادوا من حمص- التي كانوا يدرسون في جامعتها- إلى الرقة للاحتفال مع أهلهم، تمكنوا من تهريب فيديو كامل، فيه كل تفاصيل الجريمة، داخل “شريحة”- ذاكرة إلكترونية- بعد وضعها في كعب حذاء أحدهم، وقد أرسلها من حمص عبر باصات الشركة الفلانية”…..”، في علبة دواء “للأذن”، وإن الطرد سيصلني مساء.
حقيقة، ارتبكت جداً، وذلك لأنني كنت في فترة استدعاءات للفروع الأمنية، وثمة تحقيقات مضنية جداً، تعرضت لها، وأن مدرستي التي كنت أعمل فيها استغنت عن خدماتي، وقامت بتعيين مدرس بديل، وفي هذا ما يعني أن- الشقة السكنية- المجانية التي أمنتها لي المدرسة سيسكنها مدرس بديل، وأن فرصة إيجاد العمل المناسب في الإمارات لم تعد سهلة، ناهيك عن أن استمرارية البقاء في سوريا غدت مستحيلة، إذ إنني لابد من أن اعتقل، أو أتعرض لأذى، فقد كان الشهيد مشعل قد اعتقل، وأن حفيظ عبدالرحمن، زميلنا، عضو مجلس أمناء منظمة حقوق الإنسان في سوريا-ماف، قد اعتقل؟؟؟؟؟
مساء، ذهبت إلى مركز الشحن الذي أرسل الطرد عن طريقه، فقيل لي: إنه لم يصل. أعلمت ابني آراس أن يتصل بأصدقائه، فقالوا له: لقد تابعنا أمره عبر الشحن إلى لحظة تحرك الباص، الذي يقوده السائق فلان. في صباح اليوم التالي، عدت وسألت مكتب الشحن، فقيل لي: لم يصل الطرد بعد!
مساء، أعدت الكرة، وذهبت إلى المكتب عينه، وسألت عن الطرد، فقيل لي: لم يصل بعد. سألت الموظف عن سبب تأخره، فردَّ عليَّ قائلاً:
اذهب إلى بيتك. نحن سنعلمك عندما يصل الطرد، نحن لا نؤجل أي طرد ماعدا القليل منها الذي يخضع لمراقبة موظف الأمن المختص، عندنا، أو في الفرع الأمني الذي يتبعه. وهنا ارتفعت نسبة” الأدرينالين” في دمي، ورحت أفكر:
ما الذي أفعله؟
ثمة تعاطف جماهيري كبير أبدي معي، ماعدا ما قام به بعض أزلام السلطة الذين سببوا لي أكثر من- مضايقة- في الفترة ذاتها، كما أن قيادات الأحزاب الكردية كانت متعاطفة، وثمة جهود كثيرة بذلت لأجلي، ولكن ليس بأيدي أحد منهم-حيلة- لأن إصدار قرار في الفترة ما بين ساعة إقلاع الطائرة التي سافرت بوساطتها من-الشارقة- ولحظة وصولي إلى مطار حلب، كان له دلالات كثيرة، لاسيما إن قلة قليلة كانت قد علمت بسفري هذا:
اذهب إلى كردستان!
افعل كذا….!
توار عن الأنظار!
أجل، وكما أشرت، فإنه في هذه الفترة كان زميلنا حفيظ عبدالرحمن قد اعتقل في حلب، وتمت مصادرة مكتبته، وأرشيفه، ومخطوطاته، وحاسوبه، وألبومات وفيديوات أفراح العائلة، وقال لي بعد أن ظهر بعد أشهر في سجن حلب:
أرجوك، سافر، بأية طريقة كانت!
ثم واصل حديثه من وراء قضبان السجن، برأس حليقة، وعينين غائرتين، وملامح وجه تكاد لاتذكربه البتة:
في كل يوم كانوا يقولون لي أيام اختطافي، وسجني في منفردة:
اسمع!
إن الشخص الذي نعذبه هو قريبك، إبراهيم اليوسف، وقريباً نجعلكما تتقابلان..!
بيتنا كان موئلاً للأصدقاء، وعادة لا أخفي أي أمرعن أصدقائي، إلا أنني بعد أن تأكدت من أن هناك من قد يسرب بعض أخباري، من السذج أو العيون، إن بغباء، أو بخبث، لذلك فإن من علموا بأمر- شريحة الذاكرة المرسلة إليَّ عبر الشحن- لم أعلم بها إلا قلة، وفي طليعتهم: الشيخ عبدالقادر الخزنوي ومحمد زكي سيد إسماعيل، القريبين، المجربين، بالإضافة إلى زميلينا أكرم كنعو و”……..”، وصديقة جد مقربة، فقد شاركني هؤلاء قلق تلك الأيام الرهيبة. بعد أيام، طلبت من الشيخ عبدالقادر أن نذهب بسيارته إلى مركز المدينة، لأتوجه إلى مكتب الشحن، وأواجه مصيري بنفسي، وأسأل الموظف المسؤول عن المكتب عن سبب تأخر وصول الطرد؟، وكان هناك رجل أمن، يراقب غرفة المستودع المجاورة للمكتب الذي أراجعه. قال لي الشيخ عبجالقادر:
سأكون معك. رددت عليه:
لا. رجاء، شيخ، أنزلني بعيداً عن المكتب، وسأمضي إلى المكتب وحدي، فإن حدث لي مكروه، إذهب وأعلم أسرتي، وكنت قد دونت بياناً بنفسي، كما فعلت أكثر من مرة، عندما كان يتم استدعائي، أو سوى ذلك. كان الموقف رهيباً. الشيخ عبدالقادر كان في ذروة توتره وخوفه عليَّ، وهو المعروف بشجاعته، كما كنت أعلم، ورأيته في مواقف كثيرة. وصلت المكتب، سالت الموظف عن الطرد، بحث في قائمة واردات اليوم، راح يبحث عنها، وقال لي:
لقد وصلت. تعال وقع هنا…!
استلمت الطرد، وهرولت تجاه صديقي الشيخ عبدالقادر خزنوي الذي كان يقف على بعد حوالي مئة متر، في الطرف الآخر من الشارع، ألوح له بمغلف- الطرد، لأفضه داخل السيارة، وأخرج- الشريحة- التي كانت قد وضعت بإحكام تحت كبسولة الغطاء بطريقة جد فنية، أسلمها لأولادي، ليوزعوها على طريقتهم، ومن بيت أخي المهندس أحمد، وعبر إيميل saman”………..@hotmail.com، ومن هذه النسخ ما أرسلناها إلى فضائية روج” وإلى بريد المرصد السوري- عبدالرحمن، الذي نشره على نحو واضح، وكان ذلك صفعة على وجه النظام الأمني الدموي، الاستبدادي، وأجهزته المتسلطة على رقاب الشعب السوري.!
سرعان ما اتصل آراس، بأصدقائه، ومنهم الشاعر مصطفى إسماعيل الذي كتب عن ذلك، قبل عامين، على صفحته يستذكر تلك الأيام الصعبة، وقد كنت طمأنتهم- جميعاً- بأنه مهما تعرضت للضغط، والتعذيب، لن أبوح باسم أحد منهم، ومنهم ابني آراس….!
في مايلي المنشور الذي كتبه مصطفى إسماعيل
بالإضافة إلى منشور لي بالمناسبة ذاتها