أحمد أبو دوح
أثبتت عملية عفرين أن تركيا تحولت تحت قيادة رجب طيب أردوغان إلى دولة تشبه الولايات المتحدة في عصر الترامبية. ليس ثمة تطابق أكثر من ذلك. عجز المسؤولين في الولايات المتحدة عن كبح جماح الأتراك نابع من أنهم لا يدرون بالضبط ماذا يفعلون. الأميركيون اكتشفوا أنهم يتعاملون مع ترامب آخر في المنطقة.
لأول مرة يعجز دونالد ترامب عن صب كل الفظاظة التي يتحلى بها على دولة أخرى. منذ تصريحاته الهجومية والقاسية تجاه كوريا الشمالية، والمشاعر العدائية التي يظهرها منذ أن كان مرشحا لإيران، وحتى صلفه في التعامل مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، صار العالم كله خبيرا في توقع ما سيخرج عن الرئيس الأميركي في ظروف معينة. من بين هذه الظروف أن يضعه أحد أمام تحد لشخصه أو لسياسته بشكل مباشر.
شخصية أردوغان شارحة لمعنى التطابق الوجداني بشكل عميق. إذا نظر أردوغان في المرآة فسيشاهد نسخته التي تفتقر إلى الخبرة السياسية. ليست ثمة فروق أخرى.
استعارة أردوغان لسياسة “حافة الهاوية” التي وضع أسسها ترامب، انعكاس لمدى التطابق في الرؤى والعقيدة إلى حد التقليد. تهديد أردوغان بتوسيع نطاق عملية “غصن الزيتون” إلى الحدود العراقية فيه ميل صريح لإظهار القوة عبر التجاسر بقلب الطاولة على الولايات المتحدة، والجلوس لانتظار النتائج.
أردوغان أمام قرار صعب، ويبدو أن مغامرته تؤتي أوكلها، إلى الآن على الأقل. المشكلة أن الأوراق التي يناور بها الأتراك ليست مضمونة. هذه الأوراق تستند إلى دعم ضمني روسي تختبئ بين ثناياه رغبة في مشاهدة حرب استنزاف طويلة في شمال سوريا تمنح بشار الأسد المزيد من الوقت لـ“إنهاء المهمة” في إدلب وغوطة دمشق ودرعا.
العلاقة بين أردوغان وبوتين تشبه، في سرعة بنائها والأسس القائمة عليها، علاقة تشرشل وستالين إبان الحرب العالمية الثانية. العلاقتان تشكلتا في ظروف استثنائية، وقامتا على قواعد ظرفية مؤقتة، لتحقيق هدف مشترك وقصير الأمد، في مواجهة خصم واحد.
الطبيعة الهشة التي رسمت التقارب البريطاني السوفييتي في أربعينات القرن الماضي كانت تقوم على دفع ضريبة الدم وتوحيد الجهود العسكرية، وإعادة تقسيم حصص الجغرافيا والتاريخ معا. وضع ذلك في أي مقارنة مع التفاهمات المتعجلة التي أسست للاتفاقات الروسية – التركية في سوريا، سيكشف أن مستوى تفاهمات موسكو وأنقرة لا يرقى إلى مسمى “العلاقة” أصلا.
مقاربة تركيا في الانسحاب إلى الشرق ليست ورقة صلبة يمكن الاستناد إليها في المناورة مع الولايات المتحدة. واقعيا، تركيا تبدو وحيدة في مواجهة الأكراد والولايات المتحدة. ديناميكية المواجهة مختلفة، لكن منطلقاتها ودوافعها تكاد تكون متطابقة.
دعك من ضجيج أردوغان بشأن الوصول إلى حدود العراق. هذه مادة للاستهلاك الشعبوي في الداخل فقط. المسألة تتعلق أولا بمنطقة غرب الفرات، وكفاح تركيا لمنع تصدير المسألة الكردية من سوريا إلى الداخل التركي.
الطرح الأميركي المتمسك بإقامة “منطقة آمنة” على الحدود يبدو منطقيا ومقبولا. رفض تركيا للخطة الأميركية ليست له علاقة بالمنطق ولا العقلانية. أردوغان يشعر أن “غصن الزيتون” ورقة قد تمكنه من الدفع نحو تغيير شروط التفاوض، وتقاسم النفوذ مع الولايات المتحدة.
انفعال أردوغان جعل تركيا تدخل مباراة للرغبي مع القوى الأخرى المسيطرة في الصراع السوري. في هذه اللعبة، يكون هدف اللاعبين في الفريق الخصم عادة هو انتزاع الكرة بالقوة من لاعبي الفريق الآخر والركض بها بعيدا لعبور خط مرسوم في نهاية الملعب، حتى يتمكنوا من إحراز النقاط.
تركيا اليوم تبدو مستعدة لـ“اختطاف” منطقة، ولو محدودة، في شمال غرب سوريا تتمكن من خلالها من إحراز نقاط بها في لعبة التفاوض الشاقة مع الولايات المتحدة.
رغم ذلك تبدو الولايات المتحدة، التي أسقط في يدها مع بدء معركة عفرين، مستعدة لتقديم تنازلات. المشكلة بالنسبة للأتراك هي أي ولايات متحدة بالضبط تريد تقديم هذه التنازلات؟
الأتراك عندهم حق في ذلك. صراع المؤسسات الأميركية وتضارب أجنداتها في سوريا وصلا إلى مرحلة غير مسبوقة. لم يكن الأتراك يكذبون عندما تحدثوا عن “تعهد أميركي بوقف دعم أكراد سوريا بالسلاح”. قد تكون وزارة الخارجية قدمت لهم وعودا حقيقية فعلا بوقف هذا الدعم، لكن الخارجية ليست وحدها من يقرر في سوريا.
ملف الأكراد عند البنتاغون. العسكريون بدأوا ينظرون إلى قيادة ريكس تيلرسون للدبلوماسية الأميركية بمنطق تجارة النفط، كعائق للتخلص من سياسات “اللا فعل” التي تبنتها إدارة الرئيس باراك أوباما كمقدمة للغياب عن المنطقة. في النهاية تستطيع الخارجية أن تعد بما تشاء، لكن من يملك الموارد والأسلحة والجنود على الأرض، بالإضافة إلى دعم البيت الأبيض لاستراتيجيته في سوريا، هو الجيش.
وضع ذلك في الاعتبار يعكس منذ الوهلة الأولى أن تركيا دخلت الحرب في عفرين بظهر مكشوف. هذا ينبع من تناقض أجندة الأتراك، الذين يرون في الأكراد إرهابيين تدعمهم واشنطن، والأميركيين، الذين يرون في داعش وجبهة النصرة إرهابيين تدعمهم أنقرة.
التماثل في أبعاد الشخصية ولغة الخطاب، والتناقض في السياسات بين أردوغان وترامب أربكا الولايات المتحدة، التي لا يبدو أنها قد وضعت استراتيجية تتوقع السلوك التركي العدائي وتتعامل معه في حال حدوثه. بالنسبة للعسكريين والدبلوماسيين التقنيين، آخر ما كانوا يريدونه هو “ترامب آخر” يعقد خططهم وتحركاتهم، سواء على الأرض عبر التوغل ميدانيا، أو من خلال الضغط المتزايد الذي يمارسه على رؤسائهم في واشنطن.
هذا الضغط يعكس عدم اعتراف أردوغان بأن تركيا حسمت خياراتها تجاه واشنطن. تبني الرؤية الروسية، بكل محاذيرها بالنسبة للأميركيين، ليس قرارا يمكن لهم تخطيه بسهولة.
نعم، التوكيل الأميركي للروس في سوريا لم تنته صلاحيته بعد. كل التحركات الروسية، الدبلوماسية والعسكرية، في سوريا تتم بالتوافق مع الولايات المتحدة، طالما ظلت هذه التحركات منحصرة في ما تحت مستوى الحل النهائي. ما لا يريد الأميركيون منحه للروس مجانا، وما لا يريد الروس التورط فيه أيضا، هو التوصل إلى تسوية سياسية لا تتضمن توافق المجتمع الدولي أولا.
خطأ تركيا هو أنها لم تبد أي اهتمام بموازين القوى المحسوبة بدقة بين موسكو وواشنطن. ببساطة، عيون الأتراك كانت طوال الوقت معمية بـ“التهديد الكردي”، وليس أي شيء آخر. هذا خطأ سيجبر الغرب تركيا على دفع ثمنه، لكن في مرحلة لاحقة.
تبني أردوغان خطابا تصعيديا في مواجهة واشنطن، بما قد يفضي إلى تحويل عفرين إلى مستنقع للجيش التركي، هو الخطأ الثاني الذي سيعقد وضع تركيا بشكل أكبر في سوريا. تبني “ترامبية” بمواجهة ترامب في سوريا أقصر الطرق لدفع تركيا ثمن مغامراتها.
نقلاً عن صحيفة ” العرب ” اللندنية