شفان إبراهيم
عدا عن مشاركة غالبية شعوب إيران في التظاهرات والاضطرابات، فأنّ ما ميز الحراك الشعبيَّ تمثل برفع أخطر شعار عرفته إيران منذ عام 1979. خاصة وأنّه بُنيَّ على شعار ابتكره النظام الحاليَّ. فمن الموت لأمريكا؛ كرمز للشر في العالم وفق التوجه الإيراني، إلى الموت للدكتاتور كما هتفت الجماهير، إضافة إلى أنّ مشهد تمزيق صور المرشد الأعلى للثورة الإيرانيّة والرئيس الإيراني؛ تحولا إلى رموز للبؤس الذي يعاني منه عموم الإيرانيين.
عاش النظام الإيراني أزمة مركبة في التظاهرات السابقة، فمن جهة غابت الرؤوس الواضحة الموجهة والمُيسرة للحراك الشعبي الإيراني، إضافة إلى عدم تثوبها بهوية محددة، ماوضع النظام الإيراني أمام عجز واضح من القضاء على الرأس، لإنهاء التحركات والاحتجاجات، ما دفع به للإنقضاض على أحمد نجادي وتقديمه ككبش فداء.
ومن جهة أخرى فأنّ نظام ولاية الفقيه شتت من قدرة النظام على الاستماع لمطاليب الشعب وتلبيتها؛ فهو يرمز إلى اجتماع السلطتين المادية والروحية معاً (السياسيّة والدينيّة) بيد شخص واحد؛ حيث يُدير الحياة والممات،ما يعني أنّ الاستبداد والدكتاتوريات ستكون موجودة بطبيعة الحال، خاصة وأنّ المرشد الأعلى يمثل رغبة ومشيئة وظل الله على الأرض، وعلى الشعب الالتزام والتنفيذ، أما الاعتراض والوقوف في وجه التوجهات فيرمز للوقوف في وجه المشيئة الربانية، ما يعني بدوره أنّ أيَّ حراك سياسي، أو منتديات للرأيَّ أو دعوات لأطروحات تخالف رأيَّ الولي الفقيه يعني بالضرورة اعتراض على قرار الله؛ لذا فإنّ النظام الإيراني كان وما يزال أمام مأزق كبير في تلبية مطاليب المتظاهرين الذي خرجوا بالضد، ومعارضين على سياسات المرشد الأعلى ومشيئة الله وفق ما تربى عليه الإيرانيين طيلة ثلاث عقود، أو اللجوء إلى وأد ثورة الجياع والحقوق الطبيعية عبر العنف المفرط وما سيخلفه من تداعيات سلبية.
ما ساهم في تأجيج التظاهرات، أنّ أحداث الربيع العربي وثورة السوشيال ميديا، لعبت دور محوري في كسر حاجز الخوف لدى الجيل الشابّ في إيران، ولم تعد تنطلي عليه حيلّ وضع السياسة في خدمة المرشد والمذهب، ولم يعد يؤمن بأن يُقمع ويقتل في وطنه باسم الله، وأنّ يستشهد خارج وطنه باسم الله أيضاً؛ الجيل الجديد لم يشاهد أحداث الثورة الإيرانية 1979، وله مطاليب وتوجهات جديدة، وتطلعات مغايرة عن نمطية أسلافه وتفكيرهم، ويمكن القول أنّ إيران أمام صراع الأجيال لا يقل أهمية عن الصراع بين التيارات السياسية في إيران.. صراع المتشبثين بكلاسيكيّة العمل بمختلف توجهاته ضمن المخطط والتوجيه العام للنظام الإيراني وضرورة التفكير داخل الصندوق وحده؛ مع شغف العيش برفاهية وحرية. النسق المضمر للصراع بين الجيلين تجلى برفع شعار (الإصلاحيون والمحافظون؛ اللعبة كُشفت!) لعبة تبادل الأدوار السياسيّة بينهما منذ30 عاماً وتغيير البوصلة والتوجهات بشكل كامل، تبعاً لمتطلبات الحفاظ على مصالحهم واتفاقياتهم المبطنة، واستخدام الشعب كدروع بشرية في صراعاتهم.
المشكلة المتجذرة بين القيادات الإيرانيّة والجيل الجديد، تشبه إلى حد التطابق أزمة الثقة والصراع بين الجيل الشاب وقيادات الأنظمة الشمولية في مختلف دول الربيع العربي؛ما تزال العقلية هي- هي ذاتها ولا يتم الالتفات إلى طموحات ورغبات وهموم الشباب في إيران؛ كحال تعنت الأنظمة العربية ومآلات دولهم في خضم الأحداث،والانتفاضات التي عاشتها تلك الدول. خاصة وأنَّ الجيل الجديد في إيران أبصر النور عبر استهدافه في أفكاره ورغبته بمواكبة العالم الجديد، لدرجة أن النظام يتدخل حتى في أعياد الميلاد ونوع الموسيقى المصاحبة، ولون الحجاب. ما خلق كبت اجتماعي كبير، وإن كان أقل قيمة من العسف السياسيّ، والإعدامات كضريبة للعمل الحزبيّ أو النشاط السياسيّ، لكنهم دفعوا بالعامل المجتمعيّ لصدارة المشهد اليومي والمعيشي لسد أي منفذ أمام تفكير الشباب والمطالبّة بحقوقهم السياسيّة والاقتصاديّة. خاصة وأن نسبة كبيرة جداً من الأموال تصرف خارج الجمهوريّة الإيرانيّة بدلاً من صرفها على مدن الصفيح وملايين المصنفين تحت خط الفقر، والمدن المدمرة جراء الزلزال الأخير. كل هذه التداعيات ستنعكس على جميع مناطق تواجد القوات الإيرانية خارجياً، لكن من المحتمل أن لا تكون النتائج والتأثيرات قريبا، خاصة وأن مشروع إيران هو الموت أو الحياة لنظام ولاية الفقيه والمشروع الإيديولوجي التوسعي في المنطقة لديهم يعادل دماء شعوب إيران برمتها.
وتجد إيران نفسها إزاء موقف حرج وصعب للغاية، ما بين الرضوخ لمطاليب المتظاهرين وهم الموسومين بالخروج عن طاعة الله أو استمرار القمع كرامة لمشيئة السماء كما يُروجون، وما بين الالتفات للداخل وتلبية لرغبة الشارع الإيراني بمنح الأولوية المطلقة للداخل على حساب الخارج، أو التشبث بالتوسع الجغرافي خارجاً على حساب الداخل.
ما أنقذ النظام الإيراني أنّ المظاهرات السابقة لم ترتقِ إلى مستوى القضية الفكرية في إنهاء ولاية الفقيه بالكامل، لكن حجم النقد والاحتجاج ما يزال يحتاج إلى ممارسات وتنوع أكثر، وربما يتم الإطاحة بأبرز الرموز وأكبرها واستبدال إصلاحي أو محافظ بآخر أكثر مرونة وتقبل لفكرة الجيل الجديد ويحمل بعض مفاتيح حلّ الأزمة.
استمرار الشعارات المعادية والمعترضة على استمرار هيمنة نظريات الإصلاحيين والمحافظين، أفشلت محاولات النظام الإيراني بحصر المطاليب بتحسين مستوى المعيشة، إضافة إلى أنّ تنوع وتعدد الشعارات والمطاليب من استرجاع الأملاك التي صُدرت، والمطالبة بإصلاحات اقتصاديّة، والمطالبة بالحريّات السياسيّة، والحقوق الاجتماعيّة، وحقوق المرأة، إلى إسقاط النظام. تعبير عن عفوية وشعبية وذاتية الاحتجاجات والتظاهرات، وعدم ارتباطها بغزو أو عدو خارجي، وعدم التوافق على مطلب واحد هو ما يميز الحراك الشعبي؛ وكرد فعل ذكي جداً من النظام الإيراني لاستغلال تشتت المطاليب الشعبية، دفعه للتركيز على أهمية إفساح المجال للتعبير عن المطاليب الاقتصاديّة وضرورة حل مشاكل الشعب المعيشية، لاتهام المطالبين بحقوقهم السياسية بالعمالة للعدو الخارجي، في محاولة لضرب المتظاهرين بعضهم ببعض وتحشيد الرأيَّ العام الشعبي ضد الفئات المطالبة بحقوقهم المدنية والحريات، كتحشيد العلمانيين ضد المتدينين ضد السياسيين ضد الفقراء، وهكذا.
اليوم تغيرت المعادلة الخارجية. لم يعد الداخل يعيش هوس التظاهر من جديد. ثمة مفارقة واضحة ما بين الإبقاء على التواجد الإيراني في الخارج وما يشكله من تهديد وخطر على أمن تل أبيب كما تقول الأخيرة، وما بين إنهاء الجموح الإيراني. وهذه بدأت ملامحها عبر الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، والضغط لسحب الشركات الأجنبية، الحال وكهذه فإنه حتى ثمن النفط الخام المنهوب من كركوك إلى إيران لن تجد من يدفع ثمنه بالرغم من رخصه. وهذه تحتاج إلى شرح أخر سنورده في المقالة المقبلة.