بينما كان القائم بالأعمال الإيراني في العراق، حسن كاظمي قمي، يقول ان الرأي الذيتشترك فيه ايران والولايات المتحدة، المزمعتان محادثات بينهما تتناول العراق وأحواله، هو استعجالهما تأليف حكومة عراقية «في أقرب وقت» وإصرارهما على «حكومة وحدة وطنية»، كان سفير ايران في أنقرة، فيروز دولت ابادي، يدلي برأي مختلف، في شأن مختلف ظاهراً.
فذهب دولت أبادي الى ان على سورية وتركيا وإيران، من غير العراق على ما هو جلي وواضح، تخطيط «سياسة مشتركة في المسألتين العراقية والكردية».
وموجب الخطة السياسية المشتركة في شأن جار اقليمي رابع يقع في القلب من المنطقة الإقليمية، هي ان حصول «فراغ بين تركيا وإيران وسورية في المسألة (العراقية الكردية)» يؤدي حتماً الى «تدخل الولايات المتحدة لملء الفراغ».
فـ «تقتطع اجزاء منا (من الدول الثلاث وليس من الدولة الرابعة المعنية) لمصلحة دولة كردي».
وانتداب علي حسيني تاش، عضو مجلس الأمن القومي ومفاوض الروس على مقترحهم تخصيب اليورانيوم الإيراني في بلدهم، قرينة على انقسام السياسة الخارجية الإيرانية انقساماً عميقاً.
وسفير ايران في تركيا ينصّب ايران مخططاً في السياسة الإقليمية، وبعض وجوهها الداخلية، بينما كانت حكومة أنقرة الإسلامية المعتدلة و»الأوروبية»، تعالج ذيول اضطرابات ديار بكر الكردية، وانتقالها الإرهابي الصريح الى اسطنبول (حيث قتلت اربع نساء في حافلة بضاحية من ضواحي المدينة يكثر فيها الأكراد).
ويحسب ساسة ايران ان في وسعهم تناول «المسألة» الكردية، واقتراح علاجها، من موقع الخبرة والنصح.
فهم يظنون انهم «حلوا» الوجه او الجانب الإيراني من القضية الكردية، على نحو ما حسب ساسة سورية ذلك، الى 1998 (حين اضطروا الى إخراج عبدالله أوجلان من دمشق ووقعوا اتفاق أضنة الأمني).
و «الحل» المفترض ناجعاً هو القمع.
ولا تزال سنندج، في كردستان ايران، مثالاً يضاهي حلبجة العراقية «بوسائل اخرى».
ولا بأس بالتقفية على القمع بالاغتيال، وتعقب القادة الأكراد، شأن عبدالرحمن قاسملو ورفيقيه، الى مقاهي أوروبا.
وهذا غير مكروه بل هو مستحب.
والوسيلة الأخرى الى معالجة «الفراغات» (وحيث تتولى جماعة وطنية حكم نفسها يرى ساسة ايران وحلفاؤهم فراغاً) هي استمالة أحزاب أو قوى موالية، والتوسل بها إما الى قتال الاستقلاليين نيابية عن «الدولة» المركزية وإما الى إثارة الاضطرابات في الدولة الجارة وإضعاف رابطتها الوطنية (الضعيفة أو المتأزمة)، وجرها تالياً الى استظلال جناح الدولة المحرضة.
والسياستان جائزتان.
ولكن (بعض) رأي السفير دولت أبادي يتوجه الى السياسة التركية في العراق.
فغداة هدم مرقد سامراء (في اواخر شباط/ فبراير)، وشيوع القتل الطائفي والمذهبي، وطلب عبدالعزيز الحكيم (وهو ينسب الى «جناح» رفسنجاني في الحلف الإيراني الحاكم) المحادثات الأميركية – الإيرانية المباشرة علناً، تنبه صحافيون وسياسيون أتراك الى ما سبق إغفاله.
فهم تنبهوا الى ان مشكلة العراق، على وجهها التركي، قد لا تكون «الانفصال» الكردي، وعدواه الكردية – التركية تالياً.
فالمشكلة التي تتهدد تركيا في الصميم، ويفوق دمارها اذا انفجرت ذيول «حرب» انفصالية كردية (على مثال سابقة أوجلان وخليفته اليوم)، هي الاقتتال العربي المذهبي، وبلوغه طور الحرب الأهلية العامة.
ويدعو المراقبين الأتراك الى تقرير هذا الأمر، والاعتبار به، انتهاج كرد العراق سياسة وطنية (عراقية) و «قومية» (كردية إقليمية) معتدلة وحكيمة.
فهم لم ينتشوا بسلطتهم الاتحادية الفيديرالية، ولم ينصبوا أنفسهم بإزاء الكرد الآخرين، سوريين أو ايرانيين أو أتراكاً، رواداً، ولا «مركزاً» متقدماً ومنسقاً،
على رغم مناشدة «اخوانهم» الأتراك، قبل جنازة «العماليين» الأخيرة وغداتها.
وقدموا لحمتهم العراقية على قوميتهم الكردية.
ولم يرقَ بعض التشدد في أمر كركوك، ونازعهم الى غمط تركمان كردستان حقهم في المساواة، الى مرتبة المشكلة أو الأزمة، على رغم محاولة ابراهيم الجعفري استدراج الحكومة التركية والقادة الكرد الى خلاف معلن.
وانخراط كرد العراق القوي في بناء قوات أمن عراقية، في صف بعض القوى الشيعية والسنية وتحت قيادة اميركية، على خلاف قوى شيعية وسنية اخرى، حملهم على قتال القوى التي تترجح بين سياستين.
وعلى هذا، اتهمهم اصحاب مقتدى الصدر، وهو صدارة القوى المترجحة والمستدخلة قوات الأمن العامة، بالإثخان فيهم بحسينية المصطفى وقتلهم غيلة وعدواناً، بعد تهمتهم القوات الأميركية ثم «قوة ثالثة» تأتمر بأمرهم القوات هذه.
ولا ريب في ان انعطاف السياسة التركية الإقليمية الى معالجة مسألة الوحدة العراقية الداخلية، بدل تحجرها على التحفظ عن الانقسام الكردي (المفترض او المزعوم) وما تخشاه السياسة التركية من تبعاته وذيوله في الأناضول، يترتب عليه ما لا يسر كتلةاحمدي نجاد في طهران (وسفيرها بأنقرة).
فعلى رغم فشل السياسة الإيرانية الذريع عام 1997 – يوم كان اربكان يتولى الحكم في أنقرة، وعشية ولاية محمد خاتمي الأولى – مد جسر «شرقي» (أو إسلامي) بين الدولتين، تكرر طهران احمدي نجاد المحاولة.
وقبل نحو عقد من السنين، كان مسرح الاستراتيجية الأربكانية – الخامنئية الشرق الأوسط كله، من ليبيا مغرباً، الى جمهوريات آسيا الوسطى «السوفياتية» شرقاً.
وكان التوجه التركي الى هذا المسرح، بينما يستظهر أربكان ويستقوي على الكمالية والطبقات الوسطى التركية بأوروبا، السبب في انفضاض جناح «التنمية والعدالة» (أردوغان لاحقاً) عن أربكان، وفي تجديد التيار الذي انبثق عن «الرفاه» وخرج عليه.
وحسبت السياسة الإيرانية، يومها، على لسان سفير على مثال فيروز دولت ابادي، ان حلفاً وثيقاً، محوره سيطرة ثنائية (كوندومينيوم)، بين طهران وأنقرة قمين بالهيمنة على العالم الإسلامي في شقيه ومنزعيه، وعلى «مسالكه وممالكه» كلها.
وتستحوذ، من جديد، على بعض أجنحة الحكم في إيران أوهام المحورية الإقليمية بل الدولية، او «المفتاحية»، على
قول الحليف السوري ايام قوته.
وفي الأثناء، طردت قوات الائتلاف جارَيْ طهران اللدودين والمخيفين، «طالبان» من كابول و»البعث» الصدامي من بغداد.
لكنها أحلت محلهما القوات الأميركية وحلفاءها.
والسعي في بناء قوة ايرانية كبيرة، عسكرية ونووية، وهو كان دأب طهران منذ استيلاء المرشد الأول على السلطة واستعادته احلام محمد رضا بهلوي ومطامعه القومية، تغيرت مسوغاته وانعطفت.
فكان المسوغ الأول حماية الثورة الخمينية وطاقمها، وسياستها التوسعية (المذهبية) في بعض دول الجوار، من صدام حسين، ثم من «قاعدة» طالبان، بعد 1988 (جلاء القوات السوفياتية) و1994 (استيلاء الملا محمد عمر على كابول)، ومنازعة القوة التركية النفوذ في «العالم التركي» المترامي الى غرب الصين (السينكيانغ وسكانه الإيغور) وجنوب أوروبا (ساراييفو)، وأذربيجان بينهما.
وفي 1998 دخلت باكستان النادي النووي
عنوة، وفجرت أول «قنبلة ذرية إسلامية»، على قول كمال خرازي، الذي خاب فأله سريعاً.
وبدت استجابة نجم الدين اربكان نداء المطامح والمطامع الجغرافية الاستراتيجية، واعدة.
وتعثرت الاستجابة، وخرج أربكان من الحكم، ومن التيار الإسلامي التركي
العريض كله.
وسبق تعثر الاستجابة الضعيفة والمتداعية تداعي النداء الإيراني الخميني نفسه.
فرفسنجاني – وهو لم يكن يوماً «الفاتح» المنتظر ومأثرته السياسية
الكبيرة هي تجميله قبول ما سماه مرشده «العلقم» (أي الامتثال لوقف النار مع العراق) – رفسنجاني هذا غرق في أزمة اقتصادية خانقة ادت الى خسارة اصحابه انتخابات الرئاسة في ربيع 1997.
وخلف محمد خاتمي علي أكبر هاشمي رفسنجاني.
ووضع نصب عينيه رعاية المجتمع المدني وحوار الثقافات، بينما كان سعر برميل النفط يتردى الى 10 دولارات.
ولا يستقيم الأمران مع محاولة فريق من السلطة في طهران تخطي هزيمة 1988 على الجبهة العراقية والتخلف عن «السبق» الباكستاني بعدها بعقد من الزمن، واستئناف الطور «البطولي» من الدعوة الخمينية.
فخلف المسوغَ الأول مسوغ آخر هو منازعة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط على دور محوري إقليمي.
وهذا يختلف عن طلب الإقرار بدور إيراني اقليمي.
والعراق – المحتل، والخالي من صدام حسين خلوه من أسلحة الدمار الشامل، وميدان جماعات «جهادية» متقاطرة عليه من جهات قريبة ونائية، وديار جماعة قريبة من إيران وتكاد تكون ثلثي سكانه – العراق هذا هو مسرح المنازعة.
وقد تستكمل الوصفَ السريع الملابساتُ الماثلة الأخرى: تناثر العراقيين جماعات خائفة ومتناحرة و «دولتهم» معهم، وتحطم حدودهم وبواباتهم جراء تضافر سياسات اميركية متسرعة ومرتجلة وفظة مع انبعاث عصبيات اهلية تصدعت تحت وطأة «التوحيد» و «التحديث» الصداميين، وانهيار الخاتمية داخل ايران وتعاظم قوة «الحرس الثوري» وجيله الثاني، ونازع هذا الجيل الى الاستقلال بالسلطة الفعلية عن المرشد ومجالسه وهيئاته وموازينها المعقدة، وغلاء النفط المطرد وبروز طلب آسيوي جديد حيوي ونافذ عليه، الى انفراط العقد الأوروبي والأميركي وانكفاء أوروبا و «خروج» روسيا…
فلا غرو اذا «اختارت» طهران الشيعة العراقيين – وهم على ما هم عليه من ضعف وتصدع وحداثة عهد بالسياسة المستقلة وبالتصدي لإدارة دولة وطنية، وهي على ما هي عليه بإزائهم من وصاية مديدة و «قرابة» جغرافية ومذهبية – سُلّمها ومستندها الى منازعة السياسة الأميركية على الدور الاستراتيجي العتيد، والإقرار به.
ويفترض نجاح المنازعة، بحسب «الحرس الثوري» الذي كان سباقاً الى دخول العراق وإنشاء نوى موالية فيه وأدوات، أمرين يخالف واحدهما الآخر على مدى قريب: التحريض الحثيث على الفوضى العامة، وعقد الأحلاف المتناقضة، على نحو يحول العراق (شأن لبنان من قبل) «وحولاً» و»مستنقعاً»، ويدعو المتدخلين الغرباء والموسومين بميسم «الحال الكولونيالية» الى الهرب والخروج، باستراتيجية او من دونها، من وجه أول، وإنشاء فسيفساء متنافرة من قوى وجماعات وميول ومصالح لا جامع بينها، ولا تستقيم كتلة إلا من طريق النفوذ والمال والاستخبارات الإيرانية، من وجه آخر (ومثال اللبننة، عن يد حليف إيران الأوثق، هو المرشد والدليل).
ويدعو جناح رفسنجاني وبعض القوى الدينية (العلمانية) المتحالفة مع خاتمي (مثل ناطق نوري وجمعية «العلماء المناضلين») الى الإقلاع عن الأمرين، والقناعة بدور إيراني إقليمي يناسب وزن ايران، ولا يعرضها لمتناقضات لا تستطيع السيطرة على ذيولها.
فإغلاق مضيق هرمز، على ما تلوح مناورات «الرسول الأعظم» الحرسية، يحبس عوائد ايران من النفط، وينزل أفدح الخسائر بـ «حليفها» الصيني المفترض.
وتطرف أحمدي نجاد يثير التيارات المتطرفة في الجوار الروسي الملتهب وفي بلاد الشيشان.
ولعل هذا هو السبب في مبادرة عبدالعزيز الحكيم الى الطلب علناً مفاوضة اميركية – إيرانية.
وهو السبب في انتداب علي حسيني تاش.
وفي إنكار مقتدى الصدر، سند الجعفري، اقتراح المفاوضة، واستبدالَ الجعفري، ودورَ طالباني، وسعيَ «المجلس الأعلى» في ولاية الوسط والجنوب الفيديرالية، والتوسط الأميركي – البريطاني، معاً وجميعاً.
الحياة