دأبت الأوساط السياسية والإعلامية الخارجة عن إطار التماس المباشر على المتابعة عن كثب للأحداث والتطورات المتلاحقة على ساحة الصراع في منطقة الشرق الأوسط وخصوصا في الوسط الإقليمي على وجه التحديد ، وتباينت قراءاتها واستنتاجاتها ، حيث تداخل الاتجاهات السياسية المختلفة من جهة وقضايا العلاقات الدولية وتشابكها مع تفاعلات قضايا المنطقة من جهة أخرى ، مما يصعب تحديد تعرجات مسار التوجهات بدقة أو ما ستؤول إليها النتائج التي ستتمخض عن تلك العلاقات أو القضايا ، لاسيما وأن السياسة الدولية تجنح في بعض جوانبها إلى مهادنة الأنظمة الاستبدادية وحل مسائل الخلاف معها بالتفاهم والحوار لدرجة يفسرها البعض وكأنها قريبة من أساليب الصفقات في عهود الحرب الباردة ، من جانب آخر يمكن ملاحظة أن تلك السياسة تميل في أوضاع منها إلى مضاعفة الضغوط والتشديد في التعامل لدرجة يُخال معها أن الوضع يزداد تأزما وينذر بحروب ومعارك حاسمة هي قاب قوسين أو أدنى .
وقد تجلت مظاهر هذه السياسة مع دولة إيران لسنوات خلت ، حيث التهديدات الدولية لها حيناً وخصوصا الأمريكية لتواجد قواتها العسكرية على معظم الحدود الإيرانية مع جوارها بدءا من أفغانستان ومرورا بالخليج والعراق وصولا إلى تركيا ..وترك الأمور للترويكا الأوربية حيناً آخر لحل الخلاف معها حول تخصيب اليورانيوم بالحوار السياسي السلمي إلى أن أصبح الملف النووي الإيراني في مجلس الأمن ، وازداد إصرار دولة الملالي على مواصلة تنفيذ برامجها في هذا المجال فضلا عن مضاعفة تدخلاتها السافرة في شؤون دول الجوار ولاسيما العراق ولبنان وفلسطين ودفعها لسوريا نحو المواجهة ، ومساعيها المتواصلة في وضع خلاياها السياسية على طول الرقعة الجغرافية لمنطقة الشرق الأوسط في طموح قومي منها لبناء إمبراطورية فارسية تنازع القوى المدنية على الثروات وتعزيز تحالفاتها السياسية ، وهي في هذا السياق لم تتوان عن مساندة الحركات الأصولية ذات الطابع الإرهابي المناهض للتغيير والتحول الديمقراطي وعلى مستوى المنطقة عموما ، الأمر الذي يثير حفيظة المجتمع الدولي ومخاوف القوى الإقليمية التي تتطلع إلى التحرر من العبودية والاستغلال وتطمح إلى بناء حياة سياسية مدنية تبغي التطور والتقدم ، معتمدة هذه القوى على إمكاناتها الجماهيرية ومستفيدة من تناقضات أنظمتها الاستبدادية مع الوضع الدولي بغية توفير عوامل التغيير والتحول نحو تحقيق أمانيها المنشودة في غد جميل ..
كما بدت هذه السياسة مع فلسطين ولبنان و النظام السوري وخصوصا مع هذا الأخير حيث تراوحت الضغوط الدولية بين المد والجزر، تارة بسبب تدخلاته (أي النظام ) في فلسطين ومساندة طرف حيال الآخر، و كذلك العراق ومساعيه في اشتداد الأزمة وتوتير الأجواء بغية انعدام الأمن والاستقرار مستغلا في ذلك حالة التعددية القومية والتباين الطائفي بهدف إفشال التجربة الديموقراطية في العراق ، وأخرى بسبب علاقاته المتداخلة في الشأن اللبناني وتصرفاته كما لو أنه شأنه السوري ، وثالثة لمجملها وما ينعكس منها على الأوضاع الداخلية التي تشهد غياب الحريات الديمقراطية والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان وسياسة الاضطهاد القومي بحق الشعب الكردي وتشديد الخناق على القوى الوطنية السياسية الداعية إلى التحول والتغيير الديمقراطي ، والاعتقالات المستمرة بين مختلف ألوان الطيف السياسي المعارض للنظام ..
وفضلا عن تحالفاته الإقليمية ولاسيما تحالفه مع النظام الإيراني استطاع النظام السوري استثمار الحالة المذكورة أعلاه في السياسة الدولية وراهن باستمرار على الجانب التكتيكي في تلك السياسة وعلى التبدلات الشكلية في أنظمة بعض دولها وآخرها ما حصل في الإدارة الأمريكية بعد فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية بالأغلبية في البرلمان ومجلس الشيوخ ، علماً أن هذا الحزب لا يختلف عن نظيره الجمهوري في ممارسة الاستراتيجية الأمريكية بل أشد منه وطأةً في حل النزاعات بالعنف وتاريخه يشهد على حروبه في فيتنام وحملاته العسكرية في مناطق أخرى من العالم، وفي انتقاد بعض رموز هذا الحزب تهاون الجمهوريين في ضغوطاتهم على الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط دلالة تأكيد على أن الحزبين لا يختلفان في سياساتهما الأساسية (استراتيجياً) وإنما يكمن التباين في الأساليب وطرق التعاطي مع الحالات المتبدلة باستمرار ..
واليوم ، ومع تزايد مؤشرات التدخل الدولي في المنطقة وبروز احتمال حسم القضايا بالقوة ، يبدو أن النظام السوري يمارس فرصه الأخيرة في هذه السياسة فهو يتطلع إلى استئناف المفاوضات مع الجانب الاسرائيلي ، ويميل إلى جزر علاقاته مع الشأن الفلسطيني ، ويتجه نحو بناء العلاقات الدبلوماسية مع الدولة العراقية الجديدة وسلطتها المنتخبة وتطوير هذه العلاقات ، ومساعيه في تسوية علاقاته مع كل من مصر والسعودية ودول عربية أخرى ، ولا يرى النظام أي إحراج له في التجاوب مع السياسة الدولية ومتطلبات الوضع الدولي المتجدد ، لكنه محرج جدا في علاقته مع وضع لبنان وما يشهد من قلاقل واضطرابات ولاسيما بعد الحرب الأخيرة والتطورات التي حصلت فيما بعد وخصوصا ما يتعلق منها بمسألة لجنة التحقيق الدولية في الاغتيالات وبالأخص رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، والمحكمة الدولية التي أقرها مجلس الأمن (للأمم المتحدة) دون المشاورة السورية والتي يكون مقرها لبنان ، كما يرى النظام كل الإحراج له في معرض التحول السلمي الديمقراطي في الوضع الداخلي وما يقتضي من تغيير في دستور البلاد وتبديل لقانون الانتخابات والاتجاه نحو إطلاق الحريات الديمقراطية والعمل من أجل بناء الدولة العصرية التي تنفي الاستبداد والحالة الشمولية ، دولة الحق والعدل وسيادة القانون ووضع قانون عصري للمطبوعات والصحافة الحرة وليعزز الإعلام الحر بغية ممارسة دوره الفاعل المنوط به ، وآخر للأحزاب يؤسس للتعددية السياسية الحقيقية من خلال التعددية الحزبية والقومية ، وحل القضية الكردية حلا ديمقراطيا عادلا على أنها قضية أرض وشعب ، واعتبار الشعب الكردي وحدة قومية في معرض التمثيل النسبي كونه يشكل 15% من مجموع سكان البلاد..
من هنا فإن القوى الوطنية السورية الجادة في العمل من أجل التغيير الديمقراطي ، لا تراهن على التغيير من خلال النظام لأنه ليس سوى إعادة إنتاج ذاك النظام ولأنها لا ترى أي بصيص أمل في أن يتخلى النظام عن امتيازاته السياسية والأمنية ، وعليه فإن هذه القوى ترى بأنها هي المعنية بالمهام والمسؤوليات التي تنجز استحقاقات المرحلة ومتطلباتها ، ولا بديل أمامها عن مواصلة النضال الوطني الجماهيري بالاعتماد على القوى الذاتية الخلاقة والاستفادة ما أمكن من تناقضات النظام مع الحالة الوطنية ومع توجهات السياسة الدولية من أجل تهيئة عوامل التغيير الوطني الديمقراطي نحو بناء الحياة السياسية الديمقراطية الجديدة التي تكفل العدل والمساواة والتعايش في أمن وسلام .
————————————————-
* افتتاحية العدد 379 تشرين الثاني 2006 لجريدة آزادي التي يصدرها المكتب المركزي للثقافة والاعلام لحزب آزادي الكردي في سوريا