عتمة النهار ، وطول الليل ..
والزمن الذي لا محطات للوقوف عنده ، لا نقاط ارتكاز ولا مواقف للذكريات ..
اليوم كالأمس والغد كاليوم ..
وسنين من هذا العمر الذي لا ندركه إلا من التواريخ المدونة على تذاكر التوقيف وجلسات الاستجواب .
كان الشعور الملازم للأنا الباطني هو الخوف من الخفافيش ، بل من كل الطيور الشبيهة لها ، وما على شاكلتها .
شعور الخوف من كل ماسورة تشبه تلك المعلقة على ظهور المليشيات ، وكل حلقة حديدية تشبه تلك التي تزين زنار حراس الغابات ، وكل شقوقٍ متصدعة في جدرانٍ مهترئه قد تحوي عدسات أو عيون ، أو قد تحمل في أحشائها طيور الليل ، أو من يهابون النور ، وينتشرون في الظلمات ..
قد تحوي أشباه البشر ، ممن يقتنصون الفرص ويهاجمون كل ما هو نبيل ، لا لشيء ، فقط لإرواء عقدة النقص فيهم ..
أو لأن هناك من تخلى عن جواز سفره أو فقد سند التمليك ..
!! .
هو الخوف ..
الانفصام ..
والحذر من كل قطعة خشب تشبه ذاك البساط ..
وكل شريط يشبه ذاك الكبل المجدول ..
وكل وجه يشبه تلك الأشباح ، بل كل قامةٍ تحمل في داخلها قذارات الزمن ، والمتسكعين على أبواب مراكز القرارات ..
!!
منذ أن قٌذف بنا إلى الخارج / الداخل / كنا نهاب المشي في الطرقات الطويلة ، والتحدق في العيون ..
كنا نلتفت بين الحين والآخر ، لشعورٍ أن فوهةً ما دخلت ظهورنا، أو أن هناك من يقف على الرصيف ويقرض البذورات ..
أو أن هناك من يسن سهامه المهترئة ويتحين الظرف والفرصة ، لينصب من نفسه الحاكم بأمر الله في موقع الظافر بأمر الله ..
لينصب من فراغه في الفراغ ..
هكذا كنا ، وما زلنا ..
وقد نكون ..
!! .
في بلد مساحته لا تتحمل كلمة ، فقط كلمة ..
وفضاؤه لا يتسع لمجرد رأي ..
– وما الكلمات التي تأخذ مكانها إلا تلك التي تكون ممهورةً بأكثر من ختم ومن أكثر من جهة .
والرأي الذي يقال عنه رأي ، هو الرأي المسلوب – ..
تتقـزم القامات بقدر ما تعلو الأبنية ، ويتخرب الإنسان من الداخل ، بقدر ما يشاد من العمران ..
وتكثر الواجهات – الواجهات التمثيلية والتنظيمية – ويبقى الإنسان – المحور – هو الذي لا صلة له بكل ما يصله بصلة ..
وكل هذا على امتداد هذه المساحة والمساحات الأصغر ، على مساحة الوطن ومساحة الحزب بل ومساحة الفرد ..
كل هذا على امتداد الانتماء ، شرقياً كان أو أوسطياً أو من دخل في فلك هذا النموذج ، بغض النظر عن ألوان البشرة ، سامياً كان أم ميتانياً ..
بغض النظر عن كل الذي قال ويقال ، ولو أن الطرح – ودائماً – يتجاوز الفعل ، والقرار يتجاوز الإرادة ، والديمقراطية وحرية الرأي صنوان لا ينفصلان مع كل حركة في اللسان .
هو القدر – قدرنا – أن نلهو على الحبال ونطير وسط السحاب ونرتل الجمل والمصطلحات ونقفز فوق الزمن ، ولا يهمنا إن كنا في أواخر الخمسينيات أو بداية الألفية الجديدة ..
إن كنا في طور التكوين أم في زمن التدوين ، إن كنا نلتحف النسمات الباردة والقادمة من الشمال ، وشمال الشمال ..
إن كنا في كماشة البوتوكولات وتحت رحمة الخردل والسيانيد ، أو كنا في قيلولةٍ على سرير حقوق الإنسان وبساط المجتمع المدني ، وتحت سقف الدعوات التي لا تنتهي .
هو القدر – قدرنا – أن نحطم ذاكرتنا ونتجاوز ذاتنا – إلا الأنا الذي فيه ، والذي هو باقٍ ولا يتجاوز بقدرة قادر – ونعود من حيث بدأنا مع مزيدٍ المغامرات – المزاودات – في كل محطةٍ من محطات الذكريات .
وهنا صدق الشاعر الفرنسي فولتير عندما قال : (( كل العواطف تخمد مع التقدم في السن ، وحده حب الذات لن يموت أبداً )) .