يدفع الشعب السوري ثمنا ً غاليا ً وكبيرا ً في ظل نظام الحزب الواحد ، ويتحمل هذا الشعب لحرمان من أبسط ضرورات الحياة ويعاني قطاع واسع من أبناء هذا الشعب البطالة والفقر ويمارس ضده القمع السياسي والقهرالطبقي وتصادر حرية رأيه ، رغم ما قدمه هذا الشعب من تضحيات في زمن الاحتلال الفرنسي وما قدمه من شهداء في الحروب العربية -الاسرائيلية ،وتحمل هذا الشعب الحصار الاقتصادي الذي فرض على سورية في الثمانينات من القرن الماضي من قبل بعض الدول الغربية .
رغم كل هذا وذاك ما زال هذا الشعب محروما ً من المشاركة السياسية ومستبعدا ً من القيام بدوره في الحياة العامة .
لقد أثبتت العقود الماضية من حكم البعث فشله في تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والتعددية السياسية رغم حديثه الدائم عن سياسة التطوير والتحديث وتقديمه الحلول الترقيعية ، إنما جميع هذه الحلول تندرج في خانة الحفاظ على مكتسبات الحزب الحاكم وامتيازاته لتكون مهدئات ومسكنات انقاذية وإسعافية الهدف منها استمرار الواقع كما هو بتدابير جديدة .
أن الخروج من هذا الواقع المأساوي والنفق المظلم للشعب السوري يكون بالديمقراطية الحقيقية لا بالديمقراطية الشكلية الجوفاء التي يتباهى بها حزب البعث القائد للدولة والمجتمع ( ديمقراطية الجبهة الوطنية التقدمية).
الديمقراطية الحقيقية تكون من خلال إقرار مبدأ سيادة القانون ودولة المؤسسات واستقلال السلطة القضائية – الاعتراف بمجموعة الحريات العامة وحقوق الإنسان – الاعتاد على مبدأ الانتخاب العام لعناصر السلطة التنفيذية والتشريعية – الاعتراف بالتعددية السياسية والحزبية …..
الديمقراطية كما يراها د.محمد عابد الجابري بأنها نظام سياسي اجتماعي اقتصادي يقوم على ثلاثة أركان : 1- حقوق الإنسان في الحرية والمساواة وما يتفرع عنها كالحق في الحريات الديمقراطية والحق في العمل وتكافؤ الفرص ……الخ.
2 – دولة المؤسسات وهي الدولة التي يقوم كيانها على مؤسسات سياسية ومدنية تعلو على الأفراد مهما كانت مراتبه وانتماءاتهم العرقية والدينية والحزبية .
3 – تداول السلطة داخل هذه المؤسسات بين القوى السياسية المتعددة وذلك على أساس حكم الأغلبية مع حفظ حقوق الأقلية .
أن عملية التحول الديمقراطي في سوريا ليست بتلك السهولة ولا يملك الشعب السوري وصفة سحرية لتحقيقها والحديث عنها ضمن إطار نظريات هي مجرد محاولة عبثية عديمة الفائدة ، أن عملية الانتقال من نظام لا ديمقراطي إلى نظام ديمقراطي كما في الحالة السورية عملية شاقة وعسيرة لكنها غير مستحيلة ، الديمقراطية حتى تتحقق لابد أن تتوفر لها الشروط الموضوعية والشروط الذاتية .
أولا ً – الشروط الموضوعية : ربما تكون الظروف الموضوعية لصالح الشعب السوري وشعوب المنطقة برمتها من خلال التطورات المتسارعة التي حدثت في العقدين الأخيرين ، ساهمت إلى حد كبير في انتشار مفاهيم الديمقراطية ، فالحدود الجغرافية لم تعد بإمكانها منع انتشار هذه المفاهيم في ظل التطور الهائل لوسائل المعلومات والاتصال ( البث الفضائي – الانتريت ….ألخ)، فالعالم من هذه الناحية أصبح قرية كونية في واقع الأمر .
تبني الدول الغربية لنشر قيم الديمقراطية في الشرق الأوسط ليس حبا ً وهياما ً لشعوب الشرق الأوسط ولا لرهافة حسها الإنساني ورقة مشاعرها إنما من أجل ديمومة مصالحها في المنطقة بعدما أثبتت تجربة دعمها ومساندتها ( أي الدول الغربية ) للأنظمة الفاسدة أو الديكتاتورية في المنطقة أو دعمها الخفي للحركات الأصولية الأسلامية ، فشل تلك السياسة بل كانت وبالا ً عليها ( أحداث 11 أيلول شاهدة على ذلك ) .
أنهيار المنظومة الأشتركية كان بمثابة انهيار أكبر عائق أو مانع أمام تحقيق الديمقراطية في الشرق الأوسط عموما ً وفي سوريا خصوصا ً كون تجربة نظام حزب البعث أنموذج مصغر أو صورة فوتوكوبي عن التجربة السوفيتية .أن تفكك المنظومة الأشتراكية أثبت بما لا يدع مجالا ً للشك فشل نظام الحزب الواحد في قيادة البلاد نحو العدل والرخاء والمساواة والديمقراطية ، يقول د .
محمد الجابري في كتابه الديمقراطية وحقوق الإنسان ” أن انهيار هذا النموذج ( السوفياتي) في عقر داره أدى إلى انهيار كل الآمال التي كان يعلقها على الاقتداء به والسير على منواله كثير من الأحزاب والزعماء في الأقطار التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية ، أن انهيار هذا النموذج قد أدى بطبيعة الحال إلى سقوط الأطروحات التي كانت تستبعد أو تؤجل الديمقراطية السياسية بإسم تحقيق الديمقراطية الاجتماعية والتنمية الشاملة ، لقد اتضح الآن أن العمل من أجل التنمية الشاملة والديمقراطية الاجتماعية على حساب الديمقراطية السياسية لا يؤدي إلا إلى بيروقراطية قاتلة أولى ضحاياها الديمقراطية الاجتماعية نفسها” .
ثانياً – الشروط الذاتية : حتى الآن الظروف الذاتية غير متوفرة لتحقيق الديمقراطية في سوريا لأن إحساس المجتمع السوري بمفاهيم الديمقراطية ضعيف جدا ً إن لم يكن معدوما ً ويعود سبب فقدان هذا الإحساس عند السوريين إلى الحكم الاستبدادي على مدى أربعة عقود وما تعرض له المواطن السوري من تسلط وقهر وحرمان من أبسط حقوقه بل كلمة حقوق ملغاة من قاموس المواطن السوري فقط هناك واجبات ، هذا المواطن يعاني من استلاب عقائدي يتبنى قيم سلوكية ورؤية للواقع تتاشى مع القهر والتسلط الذي فرض عليه ويبرر هذا التسلط جاعلا ً منه جزءا ً من قانون الطبيعة بذلك فهو يرفض كل ما يدعو إلى التغيير ليرسخ البنى التسلطية التي فرضت عليه .
في استطلاع قام به أحد مراكز الدراسات والاستشارات الاقتصادية بالتعاون مع جريدة الثورة عن أهم الأمراض الاجتماعية في المجتمع السوري نشر نتائج هذا الاستطلاع في جريدة الثورة بتاريخ 6 كانون الأول 2006 توصل الاستطلاح إلى تحديد أهم الأمراض الاجتماعية من أبرزها الخوف والجبن في التعبير عن الرأي ، الرشوة والفساد والقبول الاجتماعي لهما ، التملق والنفاق ، انهيار قيم العمل ، الانتهازية والوصولية ……ألخ .
أن هذه السلبية المزمنة في شخصية الإنسان السوري يعود إلى الحكم الاستبدادي حيث اعتاد أن يقاد لا أن يقود ، أن هذه السلبية يتحملها حزب البعث وحده ولها أيضا ً جذور تاريخية يعود إلى بداية تشكل الدولة الإسلامية وتحديدا ً بعد وفاة الرسول ( ص ) وانتهاء العصر الراشدي حيث أتى بعدهم الخلفاء الأمويين والعباسيين والعثمانيين الذين حكموا بإسم الدين ، هؤلاء جميعا ً سخروا الدين لخدمة سلطاتهم السياسية والدنيوية مستخدمين كافة أنواع القوى والبطش والتنكيل كان أداتهم لتنفيذ هذه السياسة رجال الدين الذين برروا للخلفاء جميع أفعالهم التي لا تمت للدين بصلة باعتبار الخليفة ظل الله على الأرض وطاعته من طاعة الله وتناسوا أن الدين الإسلامي يقول لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
تقول الحكاية التاريخية : استفتى الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك فقهاءه هل يحاسب الخلفاء يوم القيامة على أفعالهم فأفتى له أربعون فقيها ً بأنه لا حساب على الخلفاء يوم القيامة .
وتقول حكاية أخرى عندما وصل نبأ مقتل أحد خصوم الخليفة الأموي الوليد بن يزيد إلى الخليفة صاح مهللا ً :
فنحن المالكون للناس قسرا ً نسومهم المذلة والنكالا
نلاحظ أنه تم توظيف الدين في ترويض وتدجين المسلمين لتتعود شخصية الإنسان المسلم على الخضوع والذل وتصاب هذه الشخصية بالمسخ نتيجة الاستبداد الذي مورس عليه على مدى قرون طويلة .
على ما يبدو أن حزب البعث أدرك طبيعة شخصية الإنسان السوري فسار على نفس النهج الذي سار عليه خلفاء المسلمين ولكن ليس باسم الدين بل من خلال الاستثمار النفعي للشعارات القومية لتمرير وتبرير سياساته القمعية .
عدم وجود معارضة حقيقة في سوريا تستطيع تعبئة الجماهير وتنظيمها في إطار سلمي للمطالبة بحقوقها وتفرض على السلطة القيام بإصلاح شامل وحقيقي حتى وإن كان بشكل تدريجي ، المعارضة مقتصرة على بعض الشخصيات وهي معارضة إعلامية فقط .
إذا ً نحن أمام واقع معقد في سوريا والخروج من هذا الواقع ليس سهلا ً فالحزب الحاكم ليس مستعدا ً للقيام بأي إصلاح والأحزاب السياسية المعارضة غير فعالة أو بعبارة أدق ليس لها وجود على أرض الواقع والشعب السوري رغم شعوره بمرارة واقعه ما زال أداة طيعة بيد السلطة لكن هذا الواقع مجرد حالة وليس قانون طبيعي ولا حتمية تاريخية هنا يأتي دور النخب المثقفة الغيورة على مصلحة البلد على العمل المتواصل وأداء رسالتها بإخلاص لتغيير هذا الواقع من خلال بناء منظومة فكرية ومعرفية تساهم في إشاعة ثقافة المجتمع المدني وتجذير الوعي المدني وغرس روح العمل الجماعي وتفعيل مشاركة أفراد المجتمع في بناء مؤسسات المجتمع المدني لتمثل فضاء ً سياسيا ً واجتماعيا ً للنضال من أجل الديمقراطية وتعميق مفاهيمها وتهيئة الأرضية الملائمة والمناخ المناسب لتعبئة الجماهير عبر جهد مستمر وعمل تراكمي .