مازالت ذاكرتي تحتفظ بخبر إذاعي مكون من عدد من الكلمات ، سمعتها وأنا طالب في الثانوية العامة ، لكن تلك الذاكرة قد لا تسعفني الآن في سردها بحرفيتها كما جاءت على لسان قائلها ، ولذلك سأذكرها ربما بغير حرفيتها ، بل سأركز على المغزى والمقصود من تلكم الكلمات ، لتتبين ماهية الخبر ، ومن ثم مقصودي منه بعد مضي أكثر من أربعين عاماً على نشره .
فقد شاءت الصدف ، أو شاء الترسيم والتخطيط لذلك أن تولى ثلاثة أطباء المناصب السيادية ، في دولة ما ، منصب رئاسة الجمهورية ، ومنصب رئيس مجلس الوزراء ، كما تولى وزارة الخارجية طبيب ثالث .
ما أريد أن أصل إليه من هذه الكلمات التي صنفت في خانة الذكريات ، هو ما ذكره الصحفيون في حينه ، وهذا المذكور هو الذي حوله تتمحور مقالتي هذه ، فقد صرحوا في ذلك الوقت ومن باب التفسيرات والتأويلات الصحفية وعلى خلفية من الخيالات الخصبة التي يمتلكونها ، والتي قد تصيب ، وقد تخيب أحياناً ، ما أنا بصدد محاولة استرداده من مخزون الذاكرة الآن وبعد مضي هذه العقود المتعددة من الزمن على تلك الحادثة ، لقد قال صحفي أجهل اسمه ما يلي: الدولة ( الفلانية ) مريضة وهي بحاجة إلى أطباء ليشخصوا مرضها ومن ثم يقدموا لها العلاج ) القوسان من عندي .
ففي سلسلة مقالات جريئة ومتميزة من حيث الطرح والمضمون ، حاول الدكتور عبد الحكيم بشار أن يسلط الضوء على الزوايا المعتمة ، والكهوف المجهولة ، التي لم يكتشفها ولم يصل أحد من قبل إليها ، كما استطاع أن ينفذ إلى ما وراء الكواليس ليعلم جانباً من الحقيقة ، ويعرض المسكوت عنه طويلاً والمحظور على العرض في دائرة النقد الذي تؤمن به جميع الأحزاب الكردية – ولو نظرياً وتقليداً للغير – ليعيد بناء ما خيل للقيادات الكردية أنها بنته ، ومن ثم حصنته ضد الاختراقات بهذه الخنادق العميقة ، ليبقى البناء الخيالي واللاموجود أصلاً عصياً على الطامعين بدخوله .
لم يكن الطريق إلى القلعة الحصينة مفروشاً بالورود والرياحين ، ألغام كثيرة مزروعة هنا وهناك ، قد تنفجر في أية لحظة ، مفخخات عديدة موزعة بشكل عبثي ، صفوف من الأسلاك الشائكة المكهربة والممغنطة تفصلك عن قلعتهم المزنرة بخنادق الموت ، والمليئة بكل المواد القاتلة التي تذيب الأجساد وهي تصطادها بلا رحمة ، إنها قلعة الموت الحصينة جداً من الخارج ، ولكن حكيمنا استطاع أخيراً الدخول إليها ، بعد رحلة شاقة وخطرة في حقول مليئة بالمتفجرات قد تكون نتائجها كارثية ، فهل سيعود سالماً ومنتصراً من رحلته السندبادية ، الكولكامشية المحفوفة بالمخاطر ؟ أرجو له ذلك .
لقد سبق لي وأن عقّبت على عدد من مقالات الدكتور في مقالة بعنوان ( بقعة ضوء في مساحة رمادية ) والمقالة نشرت في حينها في عدد من المواقع الألكترونية ، أما مقالتي هذه فتتمحور حول مقالة الدكتور الأخيرة ( الحركة الكردية والمهام المنسية ) والتي يسلط فيها الضوء على الوضع المأساوي البائس لعموم الشعب الكردي ، منطلقاً من الوضع الاقتصادي المتخلف الذي يعانيه المجتمع الكردي ، والذي أدى في ما أدى إليه إلى استشراء الفقر فيه بنسبة ملحوظة ومخيفة ورواج منظومة القيم العشائرية التي ازدادت قوة ، ثم يسرد الدكتور القيم الإيجابية التي كانت إيجابية في مرحلة ما ، مع التركيز على القيم السلبية التي لازال مجتمعنا يدفع ضريبتها حتى الآن كعادة الثأر مثلاً ، وكيف كان الإنسان يقيّم في المجتمع بالانتماء العشائري مع تجاهل شبه تام للتقييم حسب الكفاءات والمؤهلات التي بقيت هامشية وثانوية في أجندات الأحزاب الكردية ، كما يعيد إلى الأذهان الصبغة السياسية البحتة التي اصطبغت وتمظهرت بها الأحزاب الكردية ، التي نسي قياديوها تماماً أن الغاية من تشكيل أي حزب سياسي هي تحقيق برامج معينة ، ولكنها – أي الأحزاب الكردية – مارست السياسة – هكذا تقول – بمعزل عن الجوانب الأخرى الاقتصادية والثقافية ، ولم تستفد قطعاً من تجربة ثورة أيلول الوطنية التي لم تهمل أياً من الجوانب المهمة والحساسة حتى الجانب التعليمي عندما جعلت الكهوف في جبال كردستان مدارس ميدانية ، ثم حصر الدكتور جل نشاط الأحزاب الكردية في جانبي الولائم والتعازي ، وشخص وبجرأة مرض الهدر في الأموال الذي يبتلع معظم الرأسمال الكردي .
يختتم الدكتور مقالته بدعوة صريحة للأحزاب الكردية لإعادة النظر في مجمل برامجها والتخلي عن ممارسة الأدوار التي لا تناسبها ، ثم الاهتمام الملحوظ بالجانبين التنويري والتثقيفي ، والتركيز على الكوادر الكفوءة والقادرة على قيادة هذه المرحلة المتميزة بنجاح .
ما يذكره الدكتور في مقالاته هو عبارة عن برنامج عمل مستقبلي للأحزاب الكردية ويجدر بها أن تقف عليه بتأن وروية وقفة جادة ، مع اعتراف الدكتور الصريح بأن برنامجه هذا غير متكامل وسيكتمل بتفاعل الآراء المتعددة ومناقشتها لهذا الطرح الجاد الجديد ، ولكن يبدو أن أغلب القياديين في الأحزاب الكردية مثل أخوتهم العرب كما يقول قائل ( لا يقرؤون ، وإذا قرؤوا لا يفهمون ) لأنهم ليسوا بحاجة إلى القراءة ، فالمنصب الذي حصلوا عليه لن يتنازلوا عنه مهما حصل ، وسيحتفظون به بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة ، لأنهم خلقوا للمناصب التي فصلت خصيصاً لهم وعلى مقاساتهم طالما لا تفرض عليهم هذه المناصب التزامات معينة .
سئل هوشي منه القائد الشيوعي الفيتنامي: ( إذا اشتدت عليك الأمور ، فماذا تفعل ؟ فأجاب : أرى ما يفعل عدوي وأعمل العكس ) – مع تحفظي على كلمة عدوي – كما طرح أحد الصحفيين في مقابلة له مع المستشار الألماني السابق هيلموت شميدت ، السؤال التالي :
هل تفخر بكونك ألمانياً ؟ فأجابه شميدت : كلا لا أفخر بذلك ، استغرب الصحفي وسأل : لماذا ؟ فأجابه شميدت : لقد ولدت ألمانياً ولا فخر لي في شيء لم أفعله أو أختاره بنفسي … أفخر فقط عندما أحقق شيئاً صالحاً بنفسي .
في الختام : أرجو من ( قيادات ) الأحزاب الكردية التوقف قليلاً وفي محطات تقييمية ، ثم وضع الإرث النضالي على بساط البحث والنقد الجاد والبناء ، والتطلع نحو الخلف ، وتقييم الحاضر على ضوء الماضي ، ووضع برامج واضحة علمية وعملية لهذه المرحلة الحساسة التي قد لا تتكرر في المستقبل المنظور، ولتكن على ثقة أنها لن تحقق أي تقدم إلا إذا شخصت العلل والأمراض التي تعانيها ، والتي شخص الدكتور عبد الحكيم بشار جانباً منها ، كما أنها ستعجز عن مواكبة المتغيرات وترجمتها إلى مكاسب بهذه العقلية القديمة وهذه الشخصوص والرموز التي لم تعد تحسن التعامل مع دبلوماسية مواكبة العصر ، بل تنسقت بكل تأكيد – ومع كل احترامي لها – ولكنها تأبى ذلك ، ولتعلم قيادات الحركة الكردية أن التاريخ لا ولن يرحم ، وهو بالنسبة لنا جميعاً ( كمرآة السيارة ، فإذا لم نبصر ما وراءنا لا نستطيع أن نبصر ما أمامنا ) ، ولأن من ينسى التاريخ لابد له أن يكرره بكل سلبياته .