الدكتور عبد الحكيم بشار يخترق تحصينات الأحزاب الكردية (1)

توفيق عبد المجيد

مازالت ذاكرتي تحتفظ بخبر إذاعي مكون من عدد من الكلمات ، سمعتها وأنا طالب في الثانوية العامة ، لكن تلك الذاكرة قد لا تسعفني الآن في سردها بحرفيتها كما جاءت على لسان قائلها ، ولذلك سأذكرها ربما بغير حرفيتها ، بل سأركز على المغزى والمقصود من تلكم الكلمات ، لتتبين ماهية الخبر ، ومن ثم مقصودي منه بعد مضي أكثر من أربعين عاماً على نشره .
فقد شاءت الصدف ، أو شاء الترسيم والتخطيط لذلك أن تولى ثلاثة أطباء المناصب السيادية ، في دولة ما ، منصب رئاسة الجمهورية ، ومنصب رئيس مجلس الوزراء ، كما تولى وزارة الخارجية طبيب ثالث .
ما أريد أن أصل إليه من هذه الكلمات التي صنفت في خانة الذكريات ، هو ما ذكره الصحفيون في حينه ، وهذا المذكور هو الذي حوله تتمحور مقالتي هذه ، فقد صرحوا في ذلك الوقت ومن باب التفسيرات والتأويلات الصحفية وعلى خلفية من الخيالات الخصبة التي يمتلكونها ، والتي قد تصيب ، وقد تخيب أحياناً ، ما أنا بصدد محاولة استرداده من مخزون الذاكرة الآن وبعد مضي هذه العقود المتعددة من الزمن على تلك الحادثة ، لقد قال صحفي أجهل اسمه ما يلي: الدولة ( الفلانية ) مريضة وهي بحاجة إلى أطباء ليشخصوا مرضها ومن ثم يقدموا لها العلاج ) القوسان من عندي .
ففي سلسلة مقالات جريئة ومتميزة من حيث الطرح والمضمون ، حاول الدكتور عبد الحكيم بشار أن يسلط الضوء على الزوايا المعتمة ، والكهوف المجهولة ، التي لم يكتشفها ولم يصل أحد من قبل إليها ، كما استطاع أن ينفذ إلى ما وراء الكواليس ليعلم جانباً من الحقيقة ، ويعرض المسكوت عنه طويلاً والمحظور على العرض في دائرة النقد الذي تؤمن به جميع الأحزاب الكردية – ولو نظرياً وتقليداً للغير –  ليعيد بناء ما خيل للقيادات الكردية أنها بنته ، ومن ثم حصنته ضد الاختراقات بهذه الخنادق العميقة ، ليبقى البناء الخيالي واللاموجود أصلاً عصياً على الطامعين بدخوله .
لم يكن الطريق إلى القلعة الحصينة مفروشاً بالورود والرياحين ، ألغام كثيرة مزروعة هنا وهناك ، قد تنفجر في أية لحظة ، مفخخات عديدة موزعة بشكل عبثي ، صفوف من الأسلاك الشائكة المكهربة والممغنطة تفصلك عن قلعتهم المزنرة بخنادق الموت ، والمليئة بكل المواد القاتلة التي تذيب الأجساد وهي تصطادها بلا رحمة ، إنها قلعة الموت الحصينة جداً من الخارج ، ولكن حكيمنا استطاع أخيراً الدخول إليها ، بعد رحلة شاقة وخطرة في حقول مليئة بالمتفجرات قد تكون نتائجها كارثية ، فهل سيعود سالماً ومنتصراً من رحلته السندبادية ، الكولكامشية المحفوفة بالمخاطر ؟ أرجو له ذلك .
لقد سبق لي وأن عقّبت على عدد من مقالات الدكتور في مقالة بعنوان ( بقعة ضوء في مساحة رمادية ) والمقالة نشرت في حينها في عدد من المواقع الألكترونية ، أما مقالتي هذه  فتتمحور حول مقالة الدكتور الأخيرة ( الحركة الكردية والمهام المنسية ) والتي يسلط فيها الضوء على الوضع المأساوي البائس لعموم الشعب الكردي ، منطلقاً من الوضع الاقتصادي المتخلف الذي يعانيه المجتمع الكردي ، والذي أدى في ما أدى إليه إلى استشراء الفقر فيه بنسبة ملحوظة ومخيفة ورواج منظومة القيم العشائرية التي ازدادت قوة ، ثم يسرد الدكتور القيم الإيجابية التي كانت إيجابية في مرحلة ما ، مع التركيز على القيم السلبية التي لازال مجتمعنا يدفع ضريبتها حتى الآن كعادة الثأر مثلاً ، وكيف كان الإنسان يقيّم في المجتمع بالانتماء العشائري مع تجاهل شبه تام للتقييم حسب الكفاءات والمؤهلات التي بقيت هامشية وثانوية في أجندات الأحزاب الكردية ، كما يعيد إلى الأذهان الصبغة السياسية البحتة التي اصطبغت وتمظهرت بها الأحزاب الكردية ، التي نسي قياديوها تماماً أن الغاية من تشكيل أي حزب سياسي هي تحقيق برامج معينة ، ولكنها – أي الأحزاب الكردية – مارست السياسة   – هكذا تقول – بمعزل عن الجوانب الأخرى الاقتصادية والثقافية ، ولم تستفد قطعاً من تجربة ثورة أيلول الوطنية التي لم تهمل أياً من الجوانب المهمة والحساسة حتى الجانب التعليمي عندما جعلت الكهوف في جبال كردستان مدارس ميدانية ، ثم حصر الدكتور جل نشاط الأحزاب الكردية في جانبي الولائم والتعازي ، وشخص وبجرأة مرض الهدر في الأموال الذي يبتلع معظم الرأسمال الكردي .
يختتم الدكتور مقالته بدعوة صريحة للأحزاب الكردية لإعادة النظر في مجمل برامجها والتخلي عن ممارسة الأدوار التي لا تناسبها ، ثم الاهتمام الملحوظ بالجانبين التنويري والتثقيفي ، والتركيز على الكوادر الكفوءة والقادرة على قيادة هذه المرحلة المتميزة بنجاح .
ما يذكره الدكتور في مقالاته هو عبارة عن برنامج عمل مستقبلي للأحزاب الكردية ويجدر بها أن تقف عليه بتأن وروية وقفة جادة ، مع اعتراف الدكتور الصريح بأن برنامجه هذا غير متكامل وسيكتمل بتفاعل الآراء المتعددة ومناقشتها لهذا الطرح الجاد الجديد ، ولكن يبدو أن أغلب القياديين في الأحزاب الكردية مثل أخوتهم العرب كما يقول قائل ( لا يقرؤون ، وإذا قرؤوا لا يفهمون ) لأنهم ليسوا بحاجة إلى القراءة ، فالمنصب الذي حصلوا عليه لن يتنازلوا عنه مهما حصل ، وسيحتفظون به بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة ، لأنهم خلقوا للمناصب التي فصلت خصيصاً لهم وعلى مقاساتهم طالما لا تفرض عليهم هذه المناصب التزامات معينة .

سئل هوشي منه القائد الشيوعي الفيتنامي: ( إذا اشتدت عليك الأمور ، فماذا تفعل ؟ فأجاب : أرى ما يفعل عدوي وأعمل العكس ) – مع تحفظي على كلمة عدوي – كما طرح أحد الصحفيين في مقابلة له مع المستشار الألماني السابق هيلموت شميدت ، السؤال التالي :
هل تفخر بكونك ألمانياً ؟ فأجابه شميدت : كلا لا أفخر بذلك ، استغرب الصحفي وسأل : لماذا ؟ فأجابه شميدت : لقد ولدت ألمانياً ولا فخر لي في شيء لم أفعله أو أختاره بنفسي … أفخر فقط عندما أحقق شيئاً صالحاً بنفسي .
في الختام : أرجو من ( قيادات ) الأحزاب الكردية التوقف قليلاً وفي محطات تقييمية ، ثم وضع الإرث النضالي على بساط البحث والنقد الجاد والبناء ، والتطلع نحو الخلف ، وتقييم الحاضر على ضوء الماضي ، ووضع برامج واضحة علمية وعملية لهذه المرحلة الحساسة التي قد لا تتكرر في المستقبل المنظور، ولتكن على ثقة أنها لن تحقق أي تقدم إلا إذا شخصت العلل والأمراض التي تعانيها ، والتي شخص الدكتور عبد الحكيم بشار جانباً منها ، كما أنها ستعجز عن مواكبة المتغيرات وترجمتها إلى مكاسب بهذه العقلية القديمة وهذه الشخصوص والرموز التي لم تعد تحسن التعامل مع دبلوماسية مواكبة العصر ، بل تنسقت بكل تأكيد – ومع كل احترامي لها – ولكنها تأبى ذلك ، ولتعلم قيادات الحركة الكردية أن التاريخ لا ولن يرحم ، وهو بالنسبة لنا جميعاً ( كمرآة السيارة ، فإذا لم نبصر ما وراءنا لا نستطيع أن نبصر ما أمامنا ) ، ولأن من ينسى التاريخ لابد له أن يكرره بكل سلبياته .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف   لا تزال مأساة عفرين، كما هو الحال في مناطق كردية أخرى تمثل رمزًا صارخًا للظلم والتدمير تحت مسمى “التحرير”. إذ شهدت هذه المناطق موجة من التعديات والتجاوزات الإنسانية التي تجاوزت مجرد الصراع العسكري، لترقى إلى مستوى عمليات إبادة منظمة، تهدف إلى تغيير ديمغرافي يهدد الهوية الكردية التاريخية للمنطقة، مدعومة بتحركات تسعى لفرض ثقافة أجنبية بدلاً من أصالة…

خليل مصطفى الكلام لأبناء الأُمَّة السُّورية (المُسلمين والمسيحيين والعلمانيين): أوَّلاً ــ منذ عام 2011 وهُم يرفعون شعارات الديمقراطية والوطنية، ولا زالوا لتاريخه (2024)… ومع ذلك لم نجدهُم قد حرَّكُوا ساكناً.؟! ثانياً ــ مِنْ المُعيب (بل المُخجل) أنهُم لا يتمعَّنون بواقع حياتهم المأساوية.؟ وعليه فمن مُنطلقات الديمقراطية والوطنية نسألهُم: إلى متى سيظل الظَّلام مُخيِّماً عليهم.؟ وإلى متى ستظل قلوبهُم وعقولهُم مُغلقة.؟…

سعيد عابد مع تكثيف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في إيران، أصبحت الهجرة استجابة واسعة النطاق في جميع شرائح المجتمع. من العمال المهرة إلى أصحاب الأعمال، يستكشف العديد من الإيرانيين طرق مغادرة البلاد بحثاً عن الاستقرار والفرص في أماكن أخرى. ويشمل جزء كبير من هذا الاتجاه الشباب، حيث اختار العديد من الشباب الإيرانيين التعليم كمسار للهجرة. في المقابل، تتخذ السلطات الإيرانية…

د. عبدالحكيم بشار يخطأ من يظن بأن أمريكا هي فقط دولة المؤسسات وأن الأفراد لا دور لهم، أو أن الدولة العميقة وحدها من تدير كل الأمور في ذلك البلد، أو القول : إن أيَّ رئيس هو مجرد موظَّف كبير في البيت الأبيض، وأن السياسة الأمريكية تُرسم في مكان آخر في أمريكا غير المكان الذي يُقيم فيه الرئيس طوال سنوات حكمه،…