هولير- فؤاد كمو
ذات صباح ، بعد ليلة ممطرة كانت بقع المياه الصغيرة قد تشكلت في الطريق الى مقبرة ” شرمولا ” و انا ممسك بجلباب امي نمضي في الشارع الوحيد في الاتجاه الاخير الى المقبرة .
و الشمس كانت تسطع حينها لتصنع من تلك البقع الصغيرة مرايا موزعة نجد فيها ظلالنا ، و رائحة القبور و الارض تلفح انوفنا و لم اكن ادرك اني ، انا الطفل ذاهب الى زيارة اصدقاء الامس ، اصدقاء الحريق زيارة بريئة كطفولتنا التي اضرموا النار فيها .
كان المكان ببياضه الناصع و شواهده الجميلة لتكون شاهدة على المجازر التي ارتكبت و ترتكب بحق الكرد منذ ان خلق الله البشر ! شرمولا التي كنا نتقافز فوق قبورها و قبر الكاهن المسيحي معتقدين انه يرقد هنا رجل ليس من عالمنا، ثم ننحدر باتجاه المقبرة الوحيدة كروضة الاطفال و هم يتقافزون للامساك بالكرة الصغيرة …فماذا فعلت بهم ايتها الكرة الكبيرة ؟ أهو خطأ في مسرى المدارات ام الخطيئة الكبرى للاله الاكبر ؟! فلا الالهة و لا رهبان البوذيين و لا العبدة الهندوس استطاعوا ان يوقدوا نارا كالتي احرقت اجسادنا .
(تراكضنا و تعالت الاصوات لكن لم نكن ندرك ان انياب التنين طويلة ! و كنا نتشاور في امر التنين في عجالة منا كاطفال يلعبون في اطراف قرية كردية لحبك خطة ضد احد الاصدقاء لكنها كانت فكرة الاطفال و لم نكن نعرف اننا سنحترق كالحطب في مدفئة فلاح سيبيري .
فهرعنا الى البوابات لكن كانت صغيرة موصدة في وجهنا بحلقات و اقفال مهترئة ابت ألا نخرج الا محترقين .
حينها رأيت لاخر مرة وجه محمود ابن نذير اغا حيث كان مختبئا محتميا من النار في نافذة مرتفعة عن الارض قليلا ، لكنه لم يكن يرى تلك السحابة القرمزية التي تختبأ خلف النار لتخنقنا عند اول ملامسة لحناجرنا …… في تلك اليلة جاءني والد محمود يسألني عن ولده .
و كان اباء و امهات كثر يبحثون مثله و لا جواب سوى دخان اسود كثيف في سماء عامودا أو بئر في مدخل السينما التهم اجساد اطفالهم في غفلة منهم .
وصلت الى البيت، لم تكن امي هناك كانت تتسامر كعادتها عند الجيران حيث يسردن حكايا احلامهم الكردية البسيطة التي لا تنتهي ) .
– أماه ! انظري الى ذلك الدخان المتصاعد الذي قد شكل غيمة سوداء في سماء عامودا .
انظري هاهي بريق اعين اصدقائي تشع من خلال تلك الغيمة الحاقدة ، هذه الغيمة ليست غيمة الله بل غيمة اجسادنا التي احرقوها دونما استئذان ، اترين ارواحهم .
– أماه! لقد احرقوا تسليتنا الوحيدة و تسلوا باجسادنا و هم يقهقون في العواصم البعيدة ، انا احرقناهم قليذهبوا الى الجحيم .
ثم يترعون اخر كأس نبيذ بلون دمنا النقي …..
– أماه! و نحن كنا ذاهبين حفاة باقدام صغيرة ناعمة باتجاه مقابرنا البيضاء الصغيرة التي هيئوها لنا منذ زمن حتى نتحول الى احلام و رؤى لحرائق الكرد و هم يجمعون القش في البيادر و الحقول.
– اماه ! لقد احرقونا في السينما التي لم تكن تتسع لاجساد اطفال ذهبوا لرؤية فيلم يتحدث عن احدى الثورات البعيدة لبلد رد الجميل بعد حرائق اخرى بالتأمر مع الدول الكبيرة لقتل احلام الكرد في الطرف الاخر من الحدود!
– أماه! من الذي اوحى لنيرون بهذه المجزرة السوداء؟ أهي شعوذة صينية أم فكرة بسيطة ورد ذكرها في الكتب السماوية ؟ فيا ايها الغدرة بمآذن مدنكم المتناثرة : كيف اهتديتم الى فكرة احراق الزئبق في بوتقة صغيرة ثم صبها لتصنعوا بها قيودا لصبية كردية فقدت حبيبها في حرائقكم ؟!
و قتها صرخت عامودا ..صرخت البيوت الطينية و فتحت افواهها و حناجرها عاليا ، صرخت عامودا بشوارعها المغبرة و مقاهيها المتناثرة ،و ركضت لتمسك بتلك الغيمة التي حملت اجساد اطفالها .
صرخت عامودا صرخنا و صرخ التراب و صرخت الالهة و قالت من علمكم هذا ؟ حرق الاطفال في غفلة منهم ؟
منذ ذلك اليوم ،قبل اربعين عاما ، كنت قد قررت النسيان و ان اسدل ستارا سميكا على نافذة وعيي ، فالالم اكبر من الكلمات … لكن حين جائتني اللفحة الاولى من لهيب النار المتقدة في ذاكرتي ذات اللون الاورانجي الممزوج بالصفار ، حينها اكتملت لوحتي عن سينما عامودا .
………………………………………..