الحركة الكوردية السورية من التخندق إلى التجديد

جان كورد
21.10.2006

يبدو أن هذا الخريف الذي بدأ هواؤه البارد نسبياً يلفح وجوهنا يحمل معه أخباراً سارة من أعماق الحركة الوطنية الكوردية (السورية)… أخباراً تؤكّد على أن بعض قيادات الحركة بدأت تفيق من أحلامها الوردية، وبخاصة بعد الصدمات التي تلقتها من النظام ومن “الرفاق” في المعارضة الوطنية الديموقراطية، وكان آخر الصدمات في المظاهرة التي حدثت بمناسبة ذكرى الاحصاء الاستثنائي المشؤوم لعام 1962، أوائل هذا الشهر، حيث أن النظام – بعد أن نثر وعوداً معسولة منذ انتفاضة آذار التاريخية عام 2004 بصدد الاقتراب من المشكلة بهدف حلها – قد استخدم مختلف وسائل البطش ضد المتظاهرين سلمياً، مؤكّداً على أنه لن يغيّر طبيعته الذئبية

واعتبر بعض زعماء “الإعلان الدمشقي” تلك المظاهرة مبادرة كوردية خاصة بالكورد تستحق الثناء دون مشاركة فعّالة من المعارضين الديموقراطيين السوريين، وكأن قضية الديموقراطية واعادة الحقوق المدنية المغتصبة قضية كوردية خاصة، وليست “قضية سورية عامة!”، مما أثار زوبعة في الحركة الكوردية ودفع ببعض أركانها البارزين إلى أن يندد بسلبية المعارضة وعدم اكتراثها بالشأن الكوردي، كما فعل الأستاذ مشعل تمو…
وحقيقة لم تكن عقول الحركة الكوردية في أي يوم من الأيام في اجماع حول العديد من النقاط الجوهرية في استراتيجيتها، وهذا أمر طبيعي، إلاّ أن هذا لا يعني عدم اتفاق أطراف الحركة الوطنية الكوردية على مبادىء وأسس ومطالب وتكتيكات… فحتى أثناء الانشقاق بين ما كان يسمى باليسار واليمين، كانت هناك نقاط اتفاق عديدة بين الطرفين فيما يتعلق بمطالب الشعب الكوردي وبأسلوب العمل السياسي السلمي والثبات على مبدأ التآخي العربي – الكوردي، ورفض النزعة الانفصالية والتمسك بمطلب الحرية والديموقراطية للبلاد… ولدى عقد المؤتمر الوطني الكوردي الأول في عام 1970 ب”ناوبردان” في جنوب كوردستان تحت رعاية القائد التاريخي الخالد مصطفى البارزاني بهدف توحيد شطري “البارتي” الكوردي السوري، لم تظهر خلافات آيديولوجية كبيرة، بل تمكّن المؤتمرون خلال أيام قلائل من التغلّب على مختلف الصعاب وتشكيل قيادة مرحلية ووضع منهاج جديد للحزب الموّحد…والعودة بقلوب مليئة بالأمل…
في مختلف المراحل التي أعقبت انشقاق البارتي في السبعينات من جديد لأسباب عديدة لامجال للتطرّق إليها هنا، تخندقت الأطراف والشخصيات الوطنية الكوردية كوحدات محاربة شبه مشلولة القوى، وغير قادرة على التواصل فيما بينها بشكل بنّاء ومنتج، إلاّ أن المحاولات لم تتوقف من أجل تطوير الحركة وتجديدها ودفعها إلى الأمام، رغم كل العراقيل التي أنتجها الحكم البعثي الشمولي المتسلّط على سائر أوجه الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاعلامية وقمعه لكل ما يشير إلى حاجة البلاد للحرية والديموقراطية بعنف لامثيل له… فظهرت تحالفات وتوحدّت فصائل، وتقاربت وجهات نظر، إلاّ أن “التقليد” لليسار العربي كان سمة ظاهرة ومؤثرة في مجمل تلك المحاولات، حتى على مستوى الأسماء، والمحاولة الوحيدة التي بدأت لتأطير الحقوق القومية للشعب الكوردي جاءت من الحزب الاشتراكي الكوردي في سوريا، إذ رفع شعار “الاشتراكية للبلاد والادارة الذاتية للشعب الكوردي”، وظلّت سائر الأطراف الأخرى على شعارها القديم ” الديموقراطية للبلاد والحقوق القومية المشروعة للشعب الكوردي“…
أثناء مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية التي لم تكن للكورد السوريين فيها ناقة ولاجمل تورّط “اليسار الكوردي السوري” في تلك الحرب المدمّرة والرهيبة، بذريعة وحدة اليسار العالمي والقوى التقدمية في المنطقة والدفاع عن الشعب الفلسطيني، أي بوضع المبادىء الآيديولوجية فوق المصلحة القومية – الوطنية، وفي سنوات الصراع الدموي بين النظام البعثي الحاكم والإسلاميين السوريين، ذلك الصراع الذي وظّفه النظام البعثي العراقي لصالحه بقوة، وجدت الحركة الوطنية الكوردية نفسها مدفوعة بشعارات “التقدمية” أيضاً صوب النظام الذي يجلد ظهر شعبها صباح مساء، وبدأت تطفح عبارة “إخوان الشياطين” بدلاً عن “إخوان المسلمين” في أدبيات الحركة الكوردية التي لم تتمكن من اتخاذ موقف محايد أو أن تتهرّب من المأزق الذي حشرت فيه، على الرغم من أن بعض العقلاء الكورد داخل الحركة وخارجها يدركون خطأ الانحياز للنظام العنصري الشوفيني، إلاّ أن مواقف “الإخوان المسلمين” و”حزب التحرير الإسلامي” وسائر الفرق “الطلائعية” الأخرى من القضية الكوردية لم يكن مشجّعاً أبداً لأن يتمكن به هؤلاء العقلاء من اقناع رفاقهم بعدم الانجرار وراء شعارات النظام الطنانة أو الخضوع لمقصلته التي كانت قد نصبت لكل من يتردد في العداء للإسلاميين…واستغل بعض العملاء والمغرضين الظروف الملائمة لتبرير كل أشكال العلاقة مع النظام حتى على المستويات الدنيا من الأجهزة الأمنية، وهذا ما أظهر الحركة – رغم أنها لم تكن كذلك – كحليف للنظام البعثي ومعاد للإسلام وكحركة يسارية لاتختلف عن البعث في شيء، سوى أنها تحمل إسم “الكوردي“…
أضّر هذا بحركتنا الوطنية ضرراً بليغاً، إذ أنها فقدت كل أسباب اقامة العلاقة مع الدول والقوى الديموقراطية والمحبة للحرية ومنظمات حقوق الإنسان، وكان حلم كوادر الحركة المتقدمين في كل التنظيمات الحزبية المختلفة والمتناحرة أن يعقدوا علاقات “رفاقية” مع اليمن الجنوبي الاشتراكي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبخاصة فصائل أحمد جبريل ونايف حواتمه وجورج حبش… وكذلك سفارات الدول الاشتراكية وحتى الحزب الشيوعي الكوبي أو الحزب الشيوعي الفييتنامي، وسادت نقاشات مملّة في الوسط الكوردي حول الخلافات بين شيوعية الصين وعلي خوجه في ألبانيا وأمثاله في الاتحاد السوفييتي وما إلى هنالك من شيوعيات متباينة… ولكن الجميع كانوا متلهفين لسماع كلمة إيجابية واحدة من هذا اليسار العربي والدولي، وكانوا يتلقفون تلك التلميحات حول عدالة القضية الكوردية بصدر رحب ويعتبرونها بمثابة تأكيد واضح على النضال الأممي الكبير من أجل حرية الشعوب المظلومة من قبل “الامبريالية والصهيونية والرجعية، ومن ضمنها الرجعية الكوردية.” وظهر العاملون على تصحيح مجمل هذا الوضع الخاطىء كمنشقين ومنحرفين وعملاء للرجعية… وهذا ما مهّد الأرضية لأن يأخذ حزب العمال الكوردستاني موقعاً قوياً ويكون له في وقت قصير جداً شأن كبير في كوردستان سوريا….
بعد سقوط النظام الشيوعي السوفييتي وانهيار الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، واختطاف السيد عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكوردستاني في كينيا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الوطنية الكوردية السورية، وساهم التطوّر الكبير في السياسة الدولية والتحوًل الهام في الاقتصاد العالمي وما يسمى بالعولمة، ظهرت أفكار جديدة أو بعبارة أدق أينعت الزهور التي كادت تذبل، وقام العديد من كوادر الحركة بمراجعات جدّية لمجمل التراكمات السياسية والثقافية في تاريخ حركتهم الوطنية الكوردية السورية، وبدأت تظهر حركات جديدة، مثل محاولة احياء بارتي ديموقراطي كوردستاني – سوريا منذ  تموز 1999، تلك المحاولة التي تكللت بتشكيل لجنة تحضيرية واعلانها في 14 حزيران 2000، أي في ذكرى تأسيس الحزب أوّل مرّة في عام 1957…
ساهم الطرح الجديد لهذا التنظيم حول ثوابت الحركة الوطنية الكوردية وتوضيح “الديموقراطية” بشكل دقيق في برنامجه السياسي، وتأطير “الحقوق القومية الكوردية في سوريا” في إطار “الحكم الذاتي“، والدعوة الصريحة لاقامة علاقات قوية مع دول العالم الحر – الديموقراطي وتدويل القضية الكوردية والتمسّك باستقلالية الحركة الكوردية السورية مع التأكيد على كوردستانيتها، والمطالبة العلنية بإزالة النظام البعثي الدكتاتوري، وتخلّصه من التنظيم الهرمي الكلاسيكي، إلى اثارة زوبعة في صفوف الحركة، على الرغم من أن التنظيم تشكّل خارج البلاد، مستفيداً من التطور التقني الحديث لايصال صوته إلى كل قريب وبعيد، ولكنه في الوقت نفسه أثار عداءً واسع النطاق ضدّه في المستويات القيادية لمختلف صفوف الحركة التي بدأت تشعر وكأن كل ما يطرحه هذا التنظيم موجّه ضدها، ومنها ما منعت تنظيماتها الخارجية من الاتصال ب بارتي ديموقراطي كوردستاني – سوريا….

وعلى الرغم من ظهور عدة تنظيمات وأحزاب بعد هذا التنظيم، منها الاتحاد الديموقراطي (تشكّل من أعضاء حزب العمال الكوردستاني السوريين) والذي تعرّض لانشقاق فظهرت إلى جانبه حركة الوفاق الديموقراطي التي تتهم هذا الاتحاد بتصفية كوادرها وبخاصة مؤسسها الأوّل، وبعدها حزب آزادي الكوردي وتيار المستقبل الكوردي، وغيرهما، وفي نفس الوقت تعرّضت أحزاب سابقة إلى انشقاقات مثل حزب يكيتي الكوردي وحزب البارتي، وقيام تنظيمات أخرى مثل حركة الحقيقة الكوردستانية والحزب الليبرالي الكوردستاني – سوريا وغيرها، فإن بارتي ديموقراطي كوردستاني – سوريا يتعرّض أكثر من كل التنظيمات التي ظهرت بعده إلى أشنع الهجمات ومحاولات الحصار والعزل والخنق، مما يدعو إلى التساؤل عن السبب الحقيقي (السر) وراء هذه الحملة الخاصة على هذا التنظيم، وهو الذي كان أوّل من أوصل القضية الكوردية السورية إلى العاصمة الأمريكية واشنطن في عام 2003 بشكل مؤّثر، وأقام أول تحالف كوردي – عربي (سوري) بين فصائل حزبية في تاريخ الحركة الكوردية وأوّل من وضع الحقوق القومية للشعب الكوردي في إطار “الحكم الذاتي” كمطلب أساسي لايمكن تحقيقه إلا ب إزالة الدكتاتورية وقيام النظام الديموقراطي في البلاد….وشارك بفعالية في مؤتمرات واشنطن وباريس وبرلين وبروكسل الهادفة إلى تشكيل تحالف ديموقراطي سوري أو لبناء مجلس وطني كوردستاني – سوري… ويجدر بالذكر هنا أن الديبلوماسية الأمريكية قد توجهت مؤخراً برسالة وديّة إلى قيادة بارتي ديموقراطي كوردستاني – سوريا مبدية استعدادها لاجراء حوار على مستوى مرموق بينها وبين ممثلين عن الحزب الذي أكًد من خلال نضاله منذ اعادة احيائه وإلى الآن على أنه يعمل بجدًية من أجل اقامة نظام ديموقراطي حقيقي في المنطقة.
إن عقلية التخندق الموروثة من عهد “الاشتراكية” والتناحرات الآيديولوجية لاتزال سائدة ، إلاّ أن بعض التنظيمات الكوردية، والحديثة منها خاصة، قد تخلّصت من تلك العقلية منذ بدء نشوئها، وساهمت في ذلك اللقاءات والحوارات شبه اليومية بين مختلف منتسبي أطراف الحركة الكوردية، إضافة إلى الانجازات الكبيرة في جنوب كوردستان، واسقاط النظام البعثي العراقي، وانتفاضة آذار التاريخية لعام 2004 في جميع مدن كوردستان سوريا، وعملية اغتيال الشيخ الشهيد الدكتور الخزنوي، وسلسلة الأخطاء القاتلة للنظام السوري، وبخاصة بعد طرد قواته من لبنان…كل ذلك قد ساهم في تعزيز مسار الحوار الوطني الكوردي، والحوار السوري الديموقراطي، وردم خنادق الجفاء والتحارب والتباعد شيئاّ فشيئاّ وانقراض العقلية الكلاسيكية الديناصورية التي لاتزال تعتبر سياستها العريقة في القدم صحيحة ومنتجة وتقدمية، مع أن الزمن والواقع قد أثبتا عدم تمكّن هذه السياسة من انجاز أي شيء للشعب الكوردي في سوريا ولم تحقق أياً من أهدافها المعلنة وغير المعلنة.
المطلوب هو أن تعامل الأطراف الكلاسيكية في الحركة الكوردية والشخصيات الوطنية العريقة مع  القوى والمنظمات الجديدة التي تظهر على ساحة القضية الكوردية، في الداخل والخارج، مثلما تعامل الأطراف والقوى والتيارات العربية – السورية التي منها ما لايملك أحداً من المؤيّدين داخل الوطن… وتقيم معها العلاقات الوديّة والرفاقية وترّحب بها وتنشر بياناتها وتدعوها لأمسياتها وفعالياتها وللحوار أيضاً…على الجميع أن يخرجوا من خنادقهم الضيقة ليتلاقوا على الساحة المشتركة التي اسمها “كوردستان سوريا“، وهذا وحده يمكن أن يدخلنا عصر التجديد والتنوير والتغيير….

وهناك أمل في أن تتحرّك أطراف كوردية معروفة بالجرأة صوب التلاقي والتعامل والتحالف والتقارب مع القوى “المتمرّدة” هذه، وأخص بالذكر الأطراف التي ترفض التدجين عن طريق “اعلانات دمشق وحلب“…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…