بعد عامه الستين : ( البارتي ) الى أين ؟

 

صلاح بدرالدين

 

أسباب أربعة  تدفعني الى الكتابة عن” ستينية “الحزب الديموقراطي الكردستاني في العراق المعروف في أوسع الأوساط بالبارتي والذي أواكب مسيرته عن قرب منذ أربعة عقود كصديق وحريص عل تجربته , الأول : لارتباطه منذ نشوئه باسم الزعيم القومي الكبير الراحل مصطفى البارزاني وقد كان مؤسس وأول رئيس له , الثاني : لكونه في مقدمة  أحزاب حركة التحرر القومي الكردية في الواقعية والاعتدال وأكثرها تجربة وانجازا  وأوضحها تعبيرا عن واقع المجتمع الكردستاني وتطور الفكر القومي

الثالث : لأنه يشرف الآن مع شركائه على  أعظم تجربة في التاريخ الكردستاني ويقود مرحلة الانتقال من الثورة الى الكيان الفدرالي في وضع عراقي متميز , الرابع : لكونه في موقع تاريخي سياسي ومعنوي بارز ومؤثر   يقوم بدور القاعدة – المركز  تجاه الأطراف  فان ما يصيبه من تغيير وتحول وتجديد سينعكس على باقي تشكيلات ومنظمات الحركة التحررية القومية في المنطقة وهو مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى .
وبما أن تاريخ هذا الحزب ودوره وآثار فعله ونتائج تضحياته وانتصاراته وهزائمه وتكوينه الاجتماعي وخصوصية تركيبته القيادية المعبرة موضوعيا عن النسيج الحقيقي لمجتمع كردستان طبقيا وفئويا وروحيا وجغرافيا والذي يوجز واقع الحركة القومية الكردستانية بصورة شاملة فانه جدير بالاحاطة به والتمعن في مضامين حركته  قديما وحديثا وتشخيص الجوهري في تقديماته وانجازاته وتحديد مكامن الضعف والخطأ كل ذلك عبر منهجية علمية توازن بين ماهو موجود بعبئه المثقل وماهو مطلوب بطموحاته المتفائلة  وتربط تفاعلات الداخل مع تطورات الخارج وترسم خطوط المراحل التاريخية في حياة هذا الحزب وحدود تقاطعها ومحطاتها الانتقالية وآفاقها المرتقبة  .
ظهر البارتي كثاني تنظيم حزبي ديموقراطي كردستاني بعيد الايراني في مرحلة الصعود الاشتراكي على المستوى الكوني وتأسيس كتلة التحرر الوطني وأحزابها الديموقراطية على ساحات آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية كرديف للثورة العالمية التي يقودها المعسكر الاشتراكي السابق وأصبح – دون أن يقرر – جزء من وقود الحرب الباردة بين الشرق ” الاشتراكي ” والغرب ” الرأسمالي ” كما دخل في تعقيدات السياسات المحلية العراقية لتحقيق الديموقراطية الكفيلة بحل القضية الكردية بل السبيل الوحيد لذلك وتعرض مثل الآخرين من القوى الوطنية العراقية الى القمع كثمن لمصيره المشترك مع باقي فئات العراق اضافة الى الأسباب العنصرية الخاصة به التي دفعت أنظمة العراق الى محاولة القضاء على الحزب وابادة الكرد , كما عانى  في الوقت ذاته وفي العديد من المناسبات تبعات – انحرافات – الأصدقاء  السوفييت وتوابعهم من بعض التيارات الشيوعية حولاستخدام  مقولة – العام والخاص – واعتبار مسألة تحرر الشعب الكردي في عداد الخصوصيات التي ترضخ للمسألة المركزية ومنها صيانة النظام الوطني التقدمي ! في بغداد ومواجهة الامبريالية .
انتقل الحزب كمنظم وموجه للحركة التحررية القومية الى مرحلة الكفاح المسلح كخيار لابد منه أمام تحديات ومخاطر الشوفينية والدكتاتورية منذ بداية ستينات القرن الماضي تحت ظل شعار – الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان – الذي يرمز الى مواصلة السير على نهج الاتحاد الكردي العربي وتحقيق العراق الديموقراطي الموحد وتحويل كردستان الى موئل ومنطلق  لكل من يريد خلاص العراق من الاستبداد , واستطاع الحزب بفضل قائده المتمرس والمجرب وصحبه من الذين رافقوه الى نجدة – جمهورية مهاباد الديموقراطية – وشاركوه تلك المسيرة الطويلة الى الاتحاد السوفيتي السابق وذاقوا معه مرارة فردية – ستالين – ومزايداته( الأممية )على حساب قوى الشعوب التحررية في معقل النظام الاشتراكي العالمي الى جانب  اطلاعهم جميعا على تجربة البناء والعمل والادارة وتلقي العلوم العسكرية والسياسية حيث كانت لهم عونا في ادارة ثورة أيلول .
مثل معظم حركات التحرر القومي لم تخل مسيرة الحزب من التعرجات والتعقيدات والاختلافات والمواجهات الداخلية الدامية منها  لأسباب ذاتية وموضوعية وبعضها لمخططات خارجية معادية , فطبيعة المجتمع الكردستاني – المجيش أو المبشمرك اذا صح التعبير  – وصنوف الاضطهاد والحرمان وعمليات الابادة الجماعية والتهجير القسري لاتخلو من أسباب العداوات والتناقضات والتشكيك بالآخر التي وضعت أسسها وسعرتها الأنظمة الشوفينية بالأساس وحفاظا على الأمانة التاريخية لابد من القول أن الحزب اجتاز تلك الامتحانات وفيصله الحكمة والاتزان والاعتدال ومنطلقه مصالح شعب كردستان الى جانب اقتراف العديد من الأخطاء بطبيعة الحال .

لقد تعامل الحزب مع القضايا الاجتماعية والأرض ومنابع المياه والمرأة والتظلمات والأديان والمذاهب بانحياز واضح لجهة المظلومين والمقهورين وقد لعبت موالاة كبار الملاكين والأغوات للسلطات الحاكمة ومعاداة الثورة الكردية وقائدها البارزاني دورا في تلك المعادلة كما عانى الحزب طويلا من مظاهر التخلف الاجتماعي والتقاليد البالية التي كان عليه مراعاتها ولو على مضض خاصة وأنه أخفق في تنظيم مواطني كردستان وتوعيتهم وتثقيفهم بروح الهوية القومية والوطنية خارج حدود العصبيات الضيقة كما هو مطلوب وواجب وهذا ما أدى في أوقات كثيرة الى عزلة الحزب عن الفئات المتعلمة ومواجهة الأزمات التنظمية وتفاقم ظاهرة – الجحوش – أو الفرسان حسب توصيف سلطة النظام البائد .
استطاع الحزب الذي أسسه وقاده البارزاني أن يؤسس لحركة تحررية قومية كردية في العراق تستقطب عمليا مختلف الحركات المماثلة في أجزاء كردستان الأخرى وتتحول مرجعية لتقديم المشورة والاسناد وفي حالات عديدة لمنح نوع من الشرعية القومية التي مازال تعريفها موضع تجاذبات في الصف الكردي الداخلي لانعدام استراتيجية قومية معمول بها بوضوح وهذا موضوع يمكن تناوله في مناسبة أخرى ومما يجب قوله في هذا المجال أن الحزب بسياسته القومية المعتدلة واسلوب تعامله مع الكثير من حالات ومظاهر مغامرة وراديكالية مصحوبة بالعنف التي انتهجتها تيارات وأحزاب وقوى كردية تمكن من اجتياز تلك المحن منتصرا فكريا وسياسيا وميدانيا وشعبيا , كما استطاع الحزب ايصال حركة التحرر القومي في العراق الى مصاف القضايا الاقليمية والدولية ليس لأن أنظمة الجوار معنية بالقضية الكردية في بلدانها وفي العراق فحسب بل لأن كرد العراق وحركتهم باتوا منذ زمن بعيد جزء من الحرب والسلم وطرفا في الحرب العالمية على الارهاب وفريقا مهما في العملية السياسية الداخلية والتغيير الديموقراطي الأشمل  في الشرق الأوسط الكبير والجديد .
وماذا بعد :

بعد كل هذه العقود وبعد أن خبر الحزب أنظمة وحكومات تعد بالعشرات من الملكية الى الجمهورية من أنظمة عسكرية الى نظام الحزب الواحد وبعد توالي جيلين كاملين على تأسيسه : الجيل المؤسس والجيل الذي لا يتعدى  عمره نصف عمر الحزب وبعد أن مارس مختلف أنواع الكفاح العسكري والسياسي والجماهيري السري والعلني وقدم الآلاف من الشهداء وحقق مناطق محررة أدارها تموينيا وتربويا واداريا وافتتح مدارس الكادر وأشرف على الدورات التثقيفية وانخرط في الجبهات والتحالفات الوطنية ومارس النضال من المهجر الى جانب العمق الكردستاني والداخل ولجأ مؤسسه الى الاتحاد السوفيتي ليمكث هناك احدى عشر عاما وقبل ذلك هب لنجدة الأشقاء في كردستان ايران ونسج الحزب علاقاته القومية متسلحا بنهج – البارزانيزم – مع الأشقاء في الغرب والشرق والشمال وعاصر الحزب مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين وقيام الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء وهزيمة النازية والفاشية وشاهد قيام الأحلاف والمحاور في المنطقة ومنها موجهة ضد الكرد وسقوطها  من حلف بغداد الى سعد أباد الى اتفاقية الجزائر وأشرف على اجراء أول انتخابات حرة في كردستان العراق واقامة برلمان كردستان والحكومة الموحدة كما شارك في حرب تحرير العراق ومواجهة الارهاب واسقاط الدكتاتورية وقيام العراق الحر الفدرالي الجديد وانتخاب رئاسة الاقليم وتشكيل حكومة اقليم كردستان الفدرالي الموحد .

نقول بعد توالي المراحل التاريخية هذه وبعد هذه الخبرة الطويلة وأداء جميع هذه المهام فان الحزب أمام مفترق طرق خاصة وأننا وجها لوجه أمام مرحلة جديدة ومغايرة تماما حيث تم الانتقال وبفضل ذلك الحزب  الى ظروف بناء كيان فدرالي يتطلب المزيد من التحديث بواسطة العقل العلمي والتخصص المهني وأمام هيكلية حكومية تقود الادارة الاقتصادية والحياتية للشعب عبر التقنية والمعلوماتية والكادر العلمي والمشاريع الانمائية واستخراج النفط وتكريره وترسيخ البنية التحتية من طرق ومطارات ومشافي ومصانع وكهربة وبرامج التعليم والتربية .
ان الحزب الذي بناه البارزاني وقدم كل هذه التضحيات وأبدع في ساحات النضال وأوصل الكرد الى هذه المرحلة من الأمن والاستقرار والحياة السعيدة لقادر على العطاء واستكمال المهام بقبول اجراء التغيير الجذري المطلوب وهو على أي حال مجال البحث والتمحيص يتوزع بين رؤا متعددة ومن أهمها على الاطلاق  : أدى الحزب واجبه واستنفذ طاقاته وانتهى دوره الريادي في قيادة حركة التحرر القومي التي تغيرت طبيعتها ومهامها ووسائل كفاحها وأن كردستان العراق بحكم وضعه الراهن يمر بمرحلة بناء وتطوير الكيان – الدولتي – لذا فان الحاجة تنتفي الآن الى الأحزاب والمنظمات ببر امجها ووسائلها القديمة بل الى تشكيلات حديثة وبرامج في مستوى التطورات المحلية والعالمية  تقود هذه المرحلة بمواصفاتها المعروفة خاصة وأن الحركة القومية الكردية برمتها تحتاج الى تعريف جديد ينقلها من – الآيديولوجيا – الى فضاء – الكردايتي –  الأوسع , وحول خصوصية ساحة كردستان العراق فان الجهود يجب أن تبذل باتجاه تعزيز وضع الحكومة على حساب صلاحيات ونفوذ الأحزاب .
مما لاشك فيه أن التصدي لموضوعة التغيير والاصلاح  ليس بالأمر البسيط ولكن يمكن تذليل كل الصعوبات من أمامه حيث بات من المهام المصيرية في حياة الكرد ومقياسا للنجاح والفشل خاصة ونحن نمر في أخطر وأدق الظروف بعد سقوط الدكتاتورية واعتماد الفدرالية ومعايشة التحدي الجديد في التجربة الكردستانية الديموقراطية ومن الواضح أن جميع الاصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية المطلوبة بالحاح من جماهير كردستان متوقفة على مدى امكانية حدوث التغيير والاصلاح في الأحزاب وهذا أمر يجب أن يعرفه الجميع وخاصة مناضلو البارتي الذي نحتفل اليوم بذكرى تأسيسه الستين .

يجسد الحزب في عقده الستيني شخصية حكيم بلغه الشيب ناصعا مجرب خبرته السنون وهدت بنيته النوائب وهو محارب قديم يزهو بانتصاراته معددا ليل نهار أسماء المواقع التي هزم فيها العدو , من قدر هذه الشخصية اجتياز ممر اجباري لابد منه وهو خيار التوجه نحو آفاق المستقبل حتى يستمرالتاريخ دون انقطاع وهذا يتطلب البحث عن بديل يليق باالمقام ولا يحول الانتصارات الى هزائم ويستمر في البناء والعطاء .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…