كفاح محمود كريم
ومثل ما فعل هذا فعل المئات من أمثاله في حقول الثقافة والآداب والعلوم والفنون للفرس والعرب والأتراك.
ولم يشفع هذا السيل من الذوبان والمشاركة الأصيلة في منع أصحاب القرار لمئات من السنين في فكرة قبول الكورد كيانا سياسيا وقوميا مستقلا، لا في الجزء الذي اندمج مع العرب ولا في الجزأين الذين اندمجا مع الفرس والأتراك، بل راح الأخوة الأعداء يمعنون في برامجهم وسياساتهم بكل الوسائل على تمزيق كوردستان وصهر شعبها تارة كونهم أتراك الجبال وتارة الأخ الأصغر لفارس الأكبر وتارة أخرى في بودقة الإسلام ولغة أهل الجنة، وهكذا دواليك السنين والأزمان، فما ارتضى الكورد استكانة أو امتهان، فقامت لهم انتفاضات وثورات وعاشوا أزمانا من القهر والقتل والتشرد والتهجير والتفقير، حتى انقسموا أربع أجزاء في أربعة دول، وآلافٍ من العشائر والقبائل واللهجات والثقافات، وأعراض رهيبة لشعب أسير ومعتقل في وطنه من اختلاف الولاءات والاتجاهات، حتى غدت القرية والعشيرة هي الأساس في الارتباط والانتماءات.
وتسطيحٌ للمفاهيم والتعليم ومنع اللغة ونشر الأمية وتسييدِ جهلة ونكرات، حتى ضن القوم إننا ضعنا في طوفان الإلغاء والأنفالات.
من يجمع هذه الأمة التائهة بين ذئاب ووحوش كاسرة من كل الجهات وقطعان من التخلف وطوفان من التشتت والاستلاب والتغييب وعشرات من اللهجات وملايين من علامات الاستفهام والاستفسارات، وانتماء لقرية أو عشيرة أو دين أو فكر، لكنها جميعا بعيدة عن ما كان يفكر به ثلة من رجال صاحبوا الشمس في ظلمة الليل، وفارس جليل يحمل شعلة كاوه وفوانيس ميديا ورفعة جبال امتدت على خارطة الوطن المجزأ كبرياء وعنفوان وجود.
كان ذلك في أواخر النصف الأول من القرن الماضي وأواخر عامه السادس والأربعين وتحديدا في السادس عشر من آبٍ اللهاب بأيامه وأحداثه التي ستغير مجرى التاريخ والأحداث.
هناك؛ جمع فارس الشمس البارزاني مصطفى تاريخ أمة، وتشتتَ شعب، وإصرار وجود، وتحقيق هوية وعنوان.
القرية والعشيرة واختلاف اللهجات والانتماء للاشيء والتدين القروي وتعدد الفكر ومدارسه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وطبقات الناس من أدناها فقرا وعوزا إلى أعلاها ثراءً وإقطاعا، وشرائح من ناس، أدباء وفنانين وعلماء وضباط ومتعلمين وأميين وأنصاف مثقفين وأرباع متعلمين وعلمانيين ورجال دين مسلمين وايزيديين ومسيحيين وملحدين، من شرق الوطن وغربه ومن الشمال وأساسه في الجنوب.
من هنا كانت البداية…
أين يكمن الألم..؟
وأين هي أوجاع متكلسة عبر أزمان وأزمان وتاريخ من الضياع بين أمم حاولت مصادرة الهوية والعنوان، لم يكن مهما لديها أن تكون فقيرا أو غنيا مثقفا أو أميا حضاريا، مسلما أو مسيحيا أو ايزيديا، ماركسيا أو ليبراليا، يساريا أو يمينيا، المهم أن تكون بلا هوية أو عنوان.
هنا أدرك البارزاني مصطفى وفرسان الشمس الذين إبتدأوا المشوار إن السر في جمع كل هذه المتناقضات في كوردستان يكمن في البحث عن الهوية والعنوان، فكان الحزب الديمقراطي الكوردستاني.
لم يك حزبا تقليديا كما الأحزاب في كل مكان يمثل شريحة أو طبقة أو دينا أو عرقا بل كان مؤسسة قومية ووطنية وإنسانية احتضنت كل أطياف وشرائح وطبقات وأعراق وأديان ما كان ينقصهم جميعهم وهو الهوية والعنوان.
فكان مؤسسة ديمقراطية تزهو فيها كل النظريات وتلتحم حولها كل الأيديولوجيات والطروحات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، يجمعها ثابت واحد ونهج بلوَر سلوكياته وتطبيقاته الزعيم مصطفى البارزاني وأبدع في جمع شمل كل هذه المتناقضات في بودقة مؤسسة قومية تضم آلام وأوجاع الملايين من الكوردستانيين في كل مكان، حتى غدت خلال أعوام منارا لكل الأحرار لا في كوردستان لوحدها بل لكل العراق من أقصى جنوبه إلى أقصى غربه.
لم يتبنى الحزب مبدأً عرقيا عنصريا أو طبقيا محددا بل كان كوردستانيا منذ اللحضة الأولى فجمع بين صفوفه الكورد والتركمان والكلدان والآشوريين والأرمن والسريان وآخى بين المسلمين والأيزيديين والمسيحيين في ثابت الوطن والهوية والعنوان، ولم يلغ خصوصية أي مكون عرقي أو طبقي أو فكري لحساب نظرية أو فكر معين، وبذلك نهضت مؤسسة وطنية وقومية كبرى أفرزت فيما بعد ثورتها الكبيرة في أيلول 1961.
لقد كان البارزاني مصطفى يدرك بحسه العميق وفهمه لطبيعة كوردستان وشعبها وآلامها عبر مئات السنين إن نظرية أو إيديولوجية قومية أو عرقية أو دينية لن تفلح في جمع مكونات ومتناقضات هذا البلد حول ثابت واحد يدفعها برمتها إلى النضال والكفاح من أجل هدف واحد ألا وهو الهوية والعنوان.
وأصبح الحزب الديمقراطي الكوردستاني ملاذا لكل الأحزاب الوطنية في كوردستان والعراق وحضنا دافئا وكريما لكل الاتجاهات الفكرية والسياسية بتنوعها من اليمين إلى اليسار وملاذا لكل طبقات المجتمع وشرائحه، فكان البارزاني مصطفى منارا تلتقي عنده كل هذه المكونات وكأنه يمثلها جميعا وهو كذلك، لم يكن ملكا لحزب أو عرق أو دين أو طبقة بقدر ما كان زعيما وطنيا وقوميا ومؤسسة كوردستانية، يجد الجميع فيها ما يصبو إليه.
وهكذا كان الحزب الديمقراطي الكوردستاني مؤسسة وطنية وقومية مشاعة لكل أطياف المجتمع وأعراقه وطبقاته وأديانه دونما التدخل في خصوصياتها، بحيث يجد الجميع أمالهم وأهدافهم ومصالحهم العليا في مؤسسة البارتي.
ومنذ البداية تبنى الحزب أرقى ما أنتجه العقل البشري في نظم العلاقات الاجتماعية والسياسية وهي الديمقراطية، بل وجعلها هدفا استراتيجيا من أهدافه في كوردستان والعراق، وربط بعلاقة جدلية بين الديمقراطية في العراق وتحقيق أهداف شعب كوردستان فكان شعاره الذي ناضل من أجله ( الحكم الذاتي لكوردستان والديمقراطية للعراق ).
إن سر ديمومة هذا الحزب هو انتهاجه لسلوك وطروحات وأخلاقيات قائده التاريخي الزعيم الخالد مصطفى البارزني الذي حول الحزب إلى مؤسسة قومية كوردستانية ذات أخلاقيات سامية تلتف حولها كل شرائح المجتمع وطبقاته وأعراقه حول ثابت الهوية والعنوان لوطن مغيب منذ آلاف السنين.
أن العودة للينابيع الأولى في نهج البارزاني الخالد في معالجة التناقضات والإشكاليات التي تفرزها كل حقبة ومرحلة كفيلة بحلها والتسريع في الانتقال إلى مرحلة أكثر تطورا واستقرارا.