مما هو من بدهيات الأمور أن الثقافة القومية لكل أمة هي ثمرة طبيعية لتراكم كمي ونوعي في التراث والفلكلور والثقافة العامة والإعداد والتربية , والإعلام في شكله البدائي الأولي من مراسلات الحمام الزاجل إلى الفضائيات والأنترنت , والشبكة الدولية المعقدة من الاتصالات المباشرة والسريعة , لتكون هذه الثقافات متداخلة ومتقاطعة في كثير من القواعد والخطوط والأسس , ومتعارضة بل متضادة ومتناقضة في أحيان أخرى مع تضارب المصالح وتناقض المواقف.
والثقافة الكوردية المعاصرة هي من هذا النسيج الفكري الذي لا يمكن بتره وقطعه عن التأثر والتأثير, والتكيف مع المحيط , والاستمداد من ثقافة مشتركة هي نتاج حضارات الشرق في الدين والتفسير الكوني , والوقوف على الحقائق والدراسات العلمية , وإدراك لما يحدث ويفسر على المستوى العلمي والأدبي والفني , وما يمكن أن ينجم من الآثار الأكاديمية من علوم ومناهج وأفكار وقيم وآراء , تضاف إلى التراث القيمي والروحي من المفاهيم المادية والروحية وما لكل ذلك من تلاقح الحضارات بحكمتها وفلسفتها وعقائدها ومذاهبها واتجاهاتها الفكرية العريضة , لتتشكل من كل ذلك هذه الحصيلة الهائلة من العلوم والمعارف والفلسفات ومناهج الدراسات , وما أفرزته من معاهد ومدارس وجامعات , ليكون لكل ذلك أثران بارزان : الأثر الإنساني العام , والأثر المحلي الخاص , أو ما يسمى بالثقافة القومية لكل شعب ولكل أمة.
إلخ , إلى جانب ثقافات الشعوب والأمم التي صهرتها الإسلام في البوتقة العربية , لتتخذ من لغة القرآن أداة تفاهم ووسيلة تواصل ..
إن هذه الثقافة بقيمها وتراثها ومفاهيمها ومدارسها , إلى جانب الثقافة المعاصرة بعلومها ومناهجها وآدابها وقيمها , يمكن أن تشكل أساسا واقعيا وعلميا لبناء الثقافة القومية والإقليمية والعالمية , لمفهوم الثقافة الكوردية التي ينبغي أن تعلم الأرضية التي تقف عليها , فلا تفقد تراثها في الحكمة والمثل والأسطورة والفن والعادات والقيم والتقاليد الكوردية العريقة , بالإضافة إلى تلك الحصيلة الكبيرة والواسعة من التراث الشرقي عامة والإسلامي خاصة , وما كان للكورد من دور كبير في تاريخها وثقافتها وريادة كثير من جوانبها , لتعيش حالة من التواؤم والتجانس والتكامل , وتدرك أن لهذه الخصوصية الإقليمية أثرا كبيرا في المجتمع الكوردي دون أن تفقده عنصر التلاؤم والترابط مع الفكر العالمي , والرؤية المدنية , والطاقة العلمية المبدعة وآثارها في الاجتماع والسياسة , ومفاهيمها في الحريات العامة والديمقراطية وثقافتها الحرة في التأسيس والتطوير , دون الانجرار في قواعد لعبة من شأنها أن تباعد بين شعوب المنطقة وتواصلها الثقافي والقيمي والروحي , وبتناغم وتكامل مع المحيط الإقليمي المتداخل أصلا مع المحيط الدولي والسياسات العامة , وما يمكن أن تفرزه من قيم جديدة , تعتمد الإنسان ورفع سويته وإعلاء مكانته , وإنارة حقوقه , وممارسته الكاملة لحرياته العامة وقناعاته الخاصة , دون إرهاق أو إكراه أو عنت أو قمع فكري أو مذهبي , ليكون ذلك مدخلا جديدا إلى فهم حرية الشعوب وإمكاناتها في الانعتاق والتحرر من التفكير بالنيابة والوصاية , والأنظمة التي تقود شعوبها إلى تفكير محدد خاص , يعتمد عنصر الإبلاغ والقسر دون الافهام والإعداد والتربية وفق قيم المعاصرة والقانون الدولي , ولوائح حقوق الإنسان , والتلاقح والتكامل بين الحضارات , وإيثار القيم الإنسانية والروحية الكبرى التي تشكل المناخ الأكثر عمقا وجمالا ومدنية في الإبداع والتوصل إلى قيم الفضيلة والخير والاستقرار , بعيدا عن أجواء التناحرات وسحق تطلعات الشعوب , وإتاحة الفرصة للقيم الفردية , في إطار تنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة , وفي عقد اجتماعي جديد متطور ومرتكز على القيم الإنسانية والروحية الرفيعة والتي من شأنها أن تعزز علاقات المجتمع وتبادله الثقافي وتكامله الإبداعي , وتطوره النوعي باتجاه نبذ الوصاية في أطرها العامة والخاصة ومؤسسات الدولة الضاغطة مما يعطي للشعوب طاقاتها في الانفتاح والتواصل والتلاقي والتكامل الوجداني , ليكون المحيط الاجتماعي والمجال البيئي منطلقا لبناء ثقافة إقليمية ووطنية جديدة , تعطي لكل أثنية طابعها الخاص , وتحركها العام , وإطارها الإنساني الأوسع لبناء أسس صرح ثقافي جديد يمكن أن يشكل أساسا لتلاقي الشعوب وتواصلها , لا لتناحرها وتعارضها , ووقوفها في خط المواجهة والتشكيك والتآمر والصيغ الاتهامية الجاهزة والمستعينة بهذا الاتجاه أو ذاك , مما يوقع في حالة خلط وبلبلة وتشكيك يجعل المنطقة وشعوبها على شفا صراعات وتناحرات وحروب بغنى كامل عنها ليكون السلام والأمن والتلاقح والتواصل الفكري والتلاقي الحضاري والروحي أساسا لكل حوار وتواصل يوديان إلى تكامل وتفاهم , من شأنهما أن يوطدا لعلاقات أكثر عمقا ورسوخا , بعيدا عن استحقاقات التمييز والاضطهاد والاستعلاء القومي والتفكير الأحادي وشطب الأنظمة لكل طموح قومي مشروع للشعوب والأثنيات والتركيبات المعقدة للمجتمع الإنساني في الشرقين الأدنى والأوسط , لتكون الثقافة الجديدة منطلق بناء وإيمان بالآخرين وحب وتواصل وتجانس وتبادل وجداني قيمي رفيع يؤسس لثقافة منفتحة ومتطورة .