ماجد ع محمد
صدق نيلسون مانديلا عندما قال: “إن المقاتل لأجل الحرية يتعلم بالطريقة الصعبة أن الظالم هو الذي يحدِّد طبيعة الصراع، وغالباً ما لا يجد المستضعف بديلاً سوى استخدام نفس أساليب الظالم”، وبتصورنا أن السبب الرئيس الذي جعل فريق كبير من السوريين الرافضين ظلم النظام في اتباع نفس طرقه وأساليبه مع الآخرين هو أنهم طلاّب سلطة وليسوا طلاب التغيير في بنية السلطة، ويرغبون في أن يكونوا هم على رأس الهرم لممارسة البطش عوضاً عمن يبطش بهم، وليس الهدف هو إسقاط رأس الهرم وزمرته لتخليص مواطني البلد من ثقافة البطش بالناس، وحال هؤلاء أشبه بحالة مَن يتحدث بالسوء عن مومسٍ ما ليل نهار، ليس لأنه عفيف النفس والجسد ويخاف من أن تُدنّس طهارته بوجودها، ولا لأنه يبغض العهر لأن تأثيره سلبي على الأسرة، وليس لأنه ضد وجود المومسات في المجتمع ككل، إنما هو يعارضها وينتقدها ويفضحها ويضغط عليها فقط لأنه ليس خليلها الأوحد.
إذ لم تمر عشرة أيام على مجزرة جنديريس التي راح ضحيتها أربعة أشخاص إضافة إلى جرح آخرين نتيجة اعتداء سافر من قِبل عناصر فصيل مسلّح يدعى الشرقية على مدنيين أبرياء من أهل البلدة كانوا يحتفلون بعيدهم القومي في ليلة 21 آذار، حتى رأينا يوم أمس خروج العشرات من ذوي وأقارب وعناصر ذلك الفصيل والفصائل الأخرى بمظاهرة حاشدة في نفس البلدة ليس تعاطفاً مع ذوي الشهداء، ولا للمطالبة بمحاكمة الجناة، ولا لإحقاق الحق وإرساء العدالة، إنما رقصوا فيها فرحاً على جراح أهل الضحايا للتغطية على المظاهرات التي شهدتها البلدة قبل أيام، والتي دعا المتظاهرون فيها إلى محاكمة القتلة وإخراج المسلحين من البلدة ومن كل قرى عفرين، وهي نفس الآلية التي لجأ إليه النظام السوري في 2011 وحيث كانت الأجهزة الأمنية تقوم بإخراج المئات من الموالين للساحات بمظاهرات تأييدية للتغطية على كل مظاهرة تطالب بالتغيير والحرية، إذ أن من جُلبوا عبر الاتفاق بين تركيا وروسيا من ريف دمشق ودرعا ودير الزور وحمص وتم وضعهم في منطقة عفرين يقتفون أثر النظام ويتبعون آلياته بحذافيرها في وجه كل من يدعو إلى المحاسبة أو التغيير والوقوف عبرها بوجه كل من يتحدث عن انتهاكات العناصر المنفلتة بحق البشر والشجر والحجر.
وصحيح أنه ينضح شناعةً ذلك المسؤول المباشر عن الجريمة حين يقوم بتسليم ابنه للشرطة إلى جانب قاتلين آخرين لكي لا يطاله الضرر ولكي يُبعد عن نفسه الشبهات بعد تلقيه الوعود بإطلاق سراح ابنه فيما بعد، إنما الأشنع من المجرم نفسه هو ذلك السياسي الذي يحاول بشتى السبل إيجاد مبررات لذلك القاتل ورفاقه والعمل على تمييع الجريمة وإخراج مظاهرات مؤيدة لذلك الفصيل من أجل حماية القتلة بدلاً من محاكمتهم على ما اقترفت يداهم، ناهيك عن محاولة تحويل اعتداء عدواني مسلح على ناس عزل يحتفلون بعيدهم القومي إلى مشاجرة بين طرفين، وذلك من أجل التخفيف من تبعات الجريمة عن القتلة وإخراج القضية عن مجراها الحقيقي.
فمشكلة عفرين إذن مع هذه النماذج البشرية المجلوبة من كل بقاع سورية ليست محصورة بجريمة واحدة راح فيها أربعة أشخاص من عائلة واحدة، ولا هي بألف انتهاك وانتهاك، إنما مشكلة المنطقة أنها بمثابة الرهينة وناسها يُعاملون معاملة الرهائن، فبأي منطقة من بين كل دول العالم الثالث في هذا العصر يا ترى تأتي مجاميع مسلحة من أقصى حدود البلد وتستولي على بيوت الأهالي وتعيشهم في حالة إرهاب متواصل وصاحب الملك والأرض هناك يحتاج من ذلك الكائن المجلوب من تخوم البيادي للموافقة حتى يفلح أرضه أو يزرعها؟ ويكون بحاجة للموافقة من ذلك الكائن إن أراد زيارة أقربائه أو معارفه في قرية مجاورة، فإن لم يكن البشر في تلك المنطقة عبارة عن رهائن لدى مجموعات مسلحة فماذا تسمى الحالة التي يعيشونها منذ خمس سنوات، وفي هذا الصدد خير ما عبَّر عن معاناة الناس في المنطقة العميد الركن أحمد رحال حين قال: “تصوروا أن الأرض لك والمنطقة لك والشجر لك والتركتور لك والنقارة لك ومع ذلك أضع يدي عليهم كلهم بالقوة وأقوم بقطع الشجر وبطردك من بيتك وأستخدم تركتورك وأستخدم نقارتك وأقطع شجرك الأخضر وأبيعه حطباً وأضع ثمنه بجيوبي ومن ثم أخرب الأرض وأخرب الطبيعة ولا أحد يتجرأ على فتح فمه”، وذلك لأن الفاعل مدعوم من “الباب العالي”.
ولا شك أن الجهة التي جلبتهم قادرة على فرض الشروط التي تريدها عليهم لأنها هي من جلبتهم وهي من دعمتهم عسكرياً وهي ما تزال تدعمهم مالياً ومعروف لدى القاصي والداني أن أي جهة تتلقى الدعم المالي من جهة أخرى تغدو كالعجينة بين يدي من تتلقى الدعم المباشر منه، ولكن لماذا لا تأمرهم تلك الجهة فهذا يعود إليها وإلى مآربها؟ بالرغم من كونها قادرة باتصال تلفوني واحد جمع كل قادة الكتائب المسلحة في مقرها الأمني وسط مدينة عفرين، وقادرة على أن تأمرهم بالذي تريده، طالما أنها وحدها مَن تتحكم بهم أجمعين وتسوق منهم الذي تريد بالاتجاه الذي تريده، ولكنها للسنة الخامسة وهي تتجاهل التقارير التي تصلها عن الانتهاكات المتواصلة في عفرين، وبالمناسبة فالنظام السوري بالرغم من استفحال البيروقراطية في مؤسساته كان عند حدوث أي مشكلة كبيرة في أي محافظة سورية تتصل القيادة من دمشق بمدير المنطقة أو الناحية وتعطيهم التعليمات المباشرة لكيفية التعاطي مع الإشكال بنفس اليوم؟ فهل من المعقول أن تكون دولة كبيرة ومعروفة بقوتها الأمنية غير قادرة على التصرف كما كان يتصرف النظام السوري قبل عشر سنوات؟ علماً أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي افتتح في بداية عام 2020 المقر الجديد للاستخبارات الوطنية التركية “MİT” في أنقرة أشار إلى أن “جهاز الاستخبارات الوطني، الذي تجاوز كونه مجرد منظمة تقوم بجمع المعلومات والإبلاغ عنها، جعل تركيا بلداً قادراً على استخدام المعلومات الاستخبارية في الدبلوماسية، وبفضل العمل الناجح لهذه المنظمة، امتلكنا القدرة على خدمة مصالحنا الخاصة، في أي مكان من العالم، دون الحاجة إلى إذن أو مساعدة من أي دولة أخرى”، هل لاحظتم كلام الرئيس عن قدرة ذلك الجهاز بالتحرك في أي مكان بالعالم، في الوقت الذي يُظهر عجزه عن الحركة في مكانٍ خاضعٍ لسيطرة الدولة التركية منذ عام 2018 يا للعجب!!!
ومن المؤكد أن مشكلة منطقة عفرين كلل وناحية جنديريس على وجه الخصوص ليست محصورة بثلاثة مجرمين، قتلوا أربعة أشخاص، فهؤلاء حتى لو تمت محاكمتهم، فلن تغيّر محاكمتهم من وضع المنطقة، فمشكلة عفرين الرئيسية هي في الدافع وراء إطلاق يد مجاميع بشرية إضافة إلى السلاح الحربي حُملت سلفاً بالحقد والكراهية تجاه أهل المنطقة منذ خمس سنوات بذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني، ومشكلة عفرين بالجهة الاقليمية التي باسم التحرير أباحت للمسلحين عمليات السطو المسلح ووضع الأيدي على ممتلكات الأهالي وإذلاهم، ويبقى الأشنع من الجرائم والانتهاكات أنه مطلوب من أهالي المنطقة الصلاة وراء أئمة تشرعن السلب والنهب والسطو وانتهاك الحرمات، لذا نختتم الوقفة هاهنا بما دوّنه الكاتب السوري نبيل ملحم عن هؤلاء المؤمنين بقوله: “السؤال السهل بنتائجه الدامية، كيف لمُحتل أرض وبيت وسجّادة صلاة، أن يكون مُحرراً؟”.